كنا ننسخ كتباً احترقت بالنار لإنقاذها، وها نحن نشعل النار مجدداً في الغرفة نفسها، وهو أمرٌ بدا خطيراً بعض الشيء، لكننا لم ننتبه لمرور الوقت واستمررنا.
حتى إذا جاء صوت عالٍ من بطن نامغونغ هيون (كورررررك)، انتبهنا أخيراً ووقفنا.
قال لي متى ستنتهي تدريباته في اليوم التالي، وأضاف:
“يمكنكِ المجيء حينها لأساعدك، فارتاحي في الصباح وتعالي في ذلك الوقت.”
حسناً .
سأنهي كل شيء قبل ذلك الوقت وأعود قبل أن يأتي.
***
أدركتُ أنني لا أستطيع التغلب على ذكاء نامغونغ هيون أبداً.
كان ينتظرني في المكتبة بتعجرفٍ واضح، وكأنه قرأ أفكاري مسبقاً.
كان قد اختار الكتب التي سننسخها أولاً وصنّفها بعناية.
“ألم يحن وقت انتهاء التدريب بعد، أيها الشاب الأكبر؟”
نظر إليّ بنظرةٍ جانبية وسخر قائلاً:
كأنه يقول: هل ظننتِ أنني لن أعرف خطتك؟
“هذا الكتاب يبدو ممتعاً، فلنبدأ به. صحيح أن فيه كلماتٍ صعبة كثيرة، لكنني تعلمتُ أثناء قراءته.”
لم يعجبني أن خطتي فشلت، لكنني قلت في نفسي: مادام الأمر كذلك، فلأنهِ كل شيء في أسرع وقتٍ ممكن.
مع مرور الوقت، بدأنا نتعاون بسلاسةٍ غريبة.
اكتشف نامغونغ هيون أنني أستطيع مواكبته مهما قرأ بسرعة، فصار يقرأ بأقصى سرعةٍ ممكنة.
مرة، انغمس في الكتاب لدرجة أنه قرأ صفحاتٍ طويلة دون أن ينظر إلى ورقتي، ظانّاً أنني لن أستطيع مواكبته، ثم توقف فجأة ليتأكد.
“لمَ توقفت؟”
“كتبتِ… كل ذلك؟”
“نعم، فماذا بعد؟ هل ظهرت كلمةٌ لا تعرفها؟”
“كلاّ!!”
صاح غاضباً، فهزززتُ رأسي باستسلام.
كانت الكتب التي أنجزناها معاً تتراكم بجانبنا كجبلٍ صغير.
وأخيراً، في اليوم الذي انتهى فيه نسخ جميع الكتبة الكتب المتفحّمة…
كدتُ أصرخ من الفرح.
قال نامغونغ هيون كلمة “تعبتِ” باختصار، فأومأتُ برأسي فقط وخرجتُ من المكتبة.
لم يعد هناك سببٌ يُلزمني بالبقاء معه، ولا بالمكتبة أصلاً.
لقد اختصرنا المهمة بما يقارب الشهرين عما كنتُ أتوقع.
“آه… الفرقة! هل رحلوا بالفعل؟”
ثم تذكرتُ أنه لم يحضر القيثارة الذهبية أبداً.
والحق أنني فضّلتُ ذلك.
لأنه لم ينتزعها بالقوة من عازف الفرقة، بدا لي فيه بصيص أمل.
على الأقل… ربما لن يتحول إلى وحشٍ كرب العائلة يوماً ما.
***
منذ أيامٍ عدة بدأتُ التحضير للخروج.
كنتُ أتجوّل عمداً داخل القصر كثيراً حتى يعتاد الناس على رؤيتي أتنقل بحرية، فيبدو الأمر طبيعياً تماماً.
المكان الوحيد الذي أستطيع الذهاب إليه بكل جرأة ودون أن يثير الشكوك هو مكتبة العائلة.
في المكتبة كتبٌ احترقت بشدة حتى صار من الصعب قراءة حروفها، واكتشف أمين المكتبة أن بينها مجلداتٍ بالغة الأهمية، فكلّفني بترميمها.
لكنه كان قد كاد ييأس من إمكانية إنقاذها أصلاً، فلم يكن يتوقع مني الكثير، بل قال فقط: “إن استطعتِ شيئاً فافعلي”، فكنتُ أذهب من حينٍ لآخر وأنسخ براحة بال.
الكتب كانت على وشك أن تتحول رماداً، فمجرد فتحها كان يزيدها تلفاً، لذا كان العمل يتطلب حذراً بالغاً.
اعتاد الناس أن يروني أذهب وأعود بين غرفتي والمكتبتي، وكنتُ أخرج إلى السوق أيضاً بحجة شراء مواد لحفظ الكتب وللنسخ.
في كل مرة كان يتبعني محاربٌ واحد على الأقل، لكن هدفي الآن كان أن يتعود الجميع على خروجي المتكرر، فكنتُ أخرج قدر الإمكان.
الآن، لم يعد أحدٌ يستغرب رؤيتي أخرج.
وفي عدة مناسبات خرجتُ دون أن يرافقني أحد.
كنتُ في تلك الحالات أعود أسرع من المعتاد، حتى لا أثير الشك.
وأخيراً، حان اليوم المنتظر.
ذهبتُ إلى المكتبة باكراً، وبدأتُ أرمّم الكتاب وأنسخه صفحةً صفحة بحرص.
كان أمين المكتبة يعرف مدى أهمية هذا العمل، فكان ييسّر لي كل شيء.
“أحتاج إلى غراء خاص.”
“سأرسل من يشتريه.”
“لا يصلح استخدام الغراء العادي المباع في السوق مباشرة؛ يجب تخفيفه بطريقة محددة، ولا أستطيع شرحها بدقة لشخص آخر، فإن أخطأوا في تحضيره ضاع الوقت. الأفضل أن أذهب بنفسي.”
تردد أمين المكتبة لحظة، ثم همّ باستدعاء بعض المحاربين ليرافقوني.
لكن في تلك اللحظة بالذات، ارتفعت أصواتٌ عالية من خارج المكتبة:
“حريق!! حريق!!”
كان قد مرّ بحريقٍ من قبل، فاندفع مسرعاً إلى الخارج، فقلتُ من خلفه:
“إذن سأذهب وأعود.”
هزّ رأسه كأنما يقول “يا لكِ من مجنونة تقولين هذا في مثل هذا الوقت”، ثم أشار بيده: اذهبي.
كنتُ قد خبأتُ قطعة فحمٍ مشتعلة في مكانٍ ما، وبدأ الدخان أخيراً يتصاعد.
تسللتُ إلى الخارج بعيداً عن أعين المحاربين.
كان هذا مجرد فخ للهروب، ليس الهروب الحقيقي بعد.
قبل أن أهرب، كان هناك مكانٌ أريد زيارته أولاً.
كان الشيء المخبأ تحت ثيابي يزعجني مع كل خطوة، فما إن ابتعدتُ قليلاً عن القصر حتى أخرجته.
القيثارة الذهبية التي وضعها نامغونغ هيون في غرفتي الليلة الماضية.
كانت هناك ورقةٌ صغيرة بخطٍّ أنيقٍ مكتوب عليها كلمتان فقط:
「تأخرتُ.”
لماذا كان عليه أن يحضرها في هذا اليوم بالذات؟
اليوم… هو ذكرى مرور عامٍ كامل على موت سويون.
تساءلتُ للحظة: هل عرف نامغونغ هيون ذلك فعلاً واختار هذا اليوم عمداً؟
لكن الأرجح أنه مجرد مصادفة.
رب العائلة والجد الأكبر، غضباً لأنها ابنة عمي، لم يكتفيا برفض دفنها بكرامة، بل أمرَا بدفن جثمان سويون في منتصف الطريق الرئيسي تماماً.
التعليقات لهذا الفصل " 22"