[لديك أسبوع واحد، لا أكثر. خلاله يجب أن يكون كلّ شيء قد انتهى.]
كان قد منحه في البدء شهرًا كاملًا. لكنّ المهلة تقلّصت فجأة إلى أسبوع واحد.
لم يكن له أن يعترض. فجوزيف أوسر لم يكن إلا رهينةً للأقدار، محكومًا أن يُنفّذ ما يُملى عليه.
“… كما تشاء.”
وما إن أنهى جوابه حتى انقطع الاتصال. حدّق جوزيف في البلّورة السحرية التي انطفأ نورها، ثم غطّى وجهه بكلتا كفّيه، يُخفي أنينًا غصّ في صدره:
“تبا…!”
لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وقد دخل بيت آل أدريان خادمًا متدرّبًا قبل خمس سنوات. صبر على قسوة البدايات، وشقّ طريقه درجةً درجة، حتى بات على أعتاب مراسم القسم كفارس. كان ولاؤه لآل أدريان راسخًا كالطود الشامخ.
لكنّ كلّ شيء تبدّل قبل شهر. إذ بلغه خبر من خالته التي ترعى شقيقته الصغرى ميلودي: لقد اختفت الفتاة دون أثر.
ترك جوزيف القصر على عجل في إجازة، وجاب الأحياء والطرقات المحيطة بمنزل خالته باحثًا في كلّ ركنٍ وزقاق. لكن ميلودي لم تكن هناك.
ولمّا ضاقت به السبل، همّ أن يلجأ إلى دوق أدريان طالبًا العون. عندها ظهر ذاك الرجل المريب، قادمًا من العدم، محمّلًا بالتهديد.
مطلبه كان واحدًا:
احجتز شقيقته رهينة، وألقى على عاتقه مهمّة لا بدّ أن يُتمّها.
لم يسأل جوزيف ما هي تلك المهمّة أصلًا؛ أجاب فقط أنّه سيفعل كلّ ما يُطلب منه ما دامت حياة ميلودي على المحك. بل وكان على استعدادٍ لأن يبذل حياته فداءً لها.
غير أنّ ما كُلّف به كان صاعقةً على قلبه:
– اسكب هذا الإكسير على عربة دوق أدريان.
– وما أثره؟
– ليس من شأنك أن تعلم.
لم يُصرّح له بحقيقته، لكن جوزيف لم يكن ساذجًا. لقد كان الإكسير فخًا، لإحداث حادثة.
وما الحوادث في العربات المسرعة إلا موتٌ يتربّص. فإمّا أن يهلك الراكب فورًا، أو ينجو بجسدٍ محطم لا يُصلَح.
والمصيبة أنّ المستهدف لم يكن أحدًا آخر سوى الرجل الذي يكنّ له أعظم احترام… دوق أدريان نفسه.
كم خطر له أن يهرع إلى الدوق، ويكشف له كلّ شيء! لكنّ الرسائل التحذيرية كانت تسبقه دائمًا، كأنّ خصمه يقرأ أفكاره.
بل زاد عليه وعيدًا آخر: “وإن فشلت أو كشفت الأمر، فمصيرها الموت أيضًا. لا مجال للخطأ.”
‘إلى أين المفرّ الآن…؟’
مدّ جوزيف يده المرتجفة إلى درجٍ عميق، أخرج منه القارورة التي أخفاها طويلًا. قبض عليها بكفٍّ متشنّج، وعيناه تشتعلان بألمٍ مُعجز.
لقد حانت اللحظة. لم يعُد ثمّة مهرب.
✦✧
“خطاكِ بطيئة يا صغيرة… حتى السلحفاة لتسبقكِ بخطواتها المتثاقلة.”
كان لوكاس يسير إلى جوار روزيت، متمايلًا بخفة وكأنّ خطواته مجرد لهو، ومع ذلك كانت سرعته تفوق اندفاعها بكل ما أوتيت من جهد.
رمقته روزيت بطرف عينها، وعضّت على نواجذها بقوة، ثم أسرعت في عدوها، غير أنّ لوكاس، المزعج كعادته، زاد من سرعته أيضًا، دون أن يتغير نَفَسه أو يضطرب إيقاعه.
منذ البارحة، اتخذت روزيت قرارًا صارمًا: أن تؤدي تدريبات الفجر إلى جانب لوكاس كل صباح.
صحيح أنّ ما يفعلانه لا يعدو الجري في ساحة التدريب، وأشبه باللهو منه بالتدريب الحقيقي، لكنها استمدت عزاءها من القول إنّ كل بداية عظيمة تنطلق من أبسط الخطوات.
أما سائر أفراد العائلة، فظلّت قلوبهم مشوبة بالشك حيال قرارها. وافقوا على مضض، وأكدوا لها أنها تستطيع أن تتوقف متى أعياها الأمر. غير أنّ روزيت، في أعماقها، أيقنت أنّها لن تتراجع.
فلها خطط عظيمة.
‘سأبني قواي سريعًا، ثم أصنع نواة المانا!‘
فإن امتلكت نواة مانا، استطاعت أن تتأهب لكل طارئ، بل وستغدو أقدر على حماية ذاتها ومن تحب. وإلى جانب ذلك، كانت تخطّط أن تملأ صحنها بالزاد لتزداد قوة وصلابة.
ثم هناك أمر آخر لا يقل خطورة:
‘عليَّ أن أراقب جوزيف أوسر بعينٍ لا تغفل.‘
وبينما كانت تجري لاهثة، صوبت بصرها إلى ذاك الرجل الذي يلوّح بسيفه الخشبي، والذي علمت أنّه من جواسيس آل دالاس.
سمعت من دانيال أنّ اسمه جوزيف أوسر، وأنه قضى نحو خمس سنوات في صفوف الفرسان. يتيم الأبوين منذ الصغر، لم يبقَ له إلا أخت يتيمة ترعاه.
سألها دانيال يومها بمكر: «ولِمَ تهتم صغيرتنا بهذا القدر به؟»، فما كان من لوكاس إلا أن صرخ محتدًّا: ‘ها قد انكشف الأمر! إنكِ تهتمين به!‘، واضطرت روزيت إلى إنكار الأمر بجهد حتى أفلحت في إسكاتهما.
لكنّها مع ذلك، ظلّت تجد في الأمر ريبة. فبحسب ما قيل، كان جوزيف مثاليًا في جديّته، نقيًا في ولائه لآل آدريان. فكيف به وقد ارتضى أن يصير أداة بيد آل دالاس؟
‘أتراه أُرغم بذلك لأنّ أخته رهينة في قبضتهم؟‘
وبينما كانت تدور هذه الظنون في عقلها، إذ بظلّ يحجب عنها ضوء النهار. فإذا بلوكاس أمامها، عابسًا متجهمًا:
“ها أنتِ تحدقين فيه مجددًا! اسمعي جيدًا يا صغيرة… أنتِ في الثامنة من عمرك، وهو في الثامنة عشرة! أهذا فرق يسير برأيكِ؟!”
آهٍ… وكأنها بحاجة إلى تبرير! تجاهلته، وعبرت من جانبه، فيما استمر هو في ملاحقتها بكلماته المزعجة، لكنها هذه المرة تركته يتبخر من أذنها.
وبعد أن أنهت ثلاث جولات كاملة، مضت نحو جوزيف دون أن تنتظر عودة لوكاس الذي ذهب ليجلب الماء.
“أنت جوزيف… أليس كذلك؟”
التفت جوزيف، وقد بدا الدهش على محياه:
“آه… أليست هذه الصغيرة النبيلة!”
استقام واقفًا كالسيف، يحدّق إليها من علٍ.
“ما الأمر يا آنسة؟”
رفعت رأسها إليه بعينين صافيتين وهمست:
“الماء…”
“هاه؟”
“أريد أن أشرب ماءً.”
“آه! لحظة فقط.”
ثم أخذ يفتش في عجل، وهو يتلعثم في كلامه:
“آنسة… خذي هذا! لا، لا… هذا شربتُ منه. خذي هذا الآخر لم يمسّه أحد!”
وما هي إلا لحظات حتى أحاط بها الفرسان من كل صوب، يقدمون لها القوارير. اختارت روزيت إحداها بعفوية، فتحتها وشربت حتى ارتوى حلقها، فيما تبسم الفارس الذي حظي بشرف أن تناولت منه الماء.
قال آخر:
“آنسة، أرجو أن لا يكون الأمر قد أثقلكِ.”
وقال غيره:
“إنه لإنجاز أن تجتازي ثلاث جولات كاملة! ليس بالأمر اليسير مطلقًا.”
ثم جاء ثالث يسألها:
“وكيف حال ركبتكِ؟ هل شُفيتِ تمامًا؟”
أومأت برأسها دون اكتراث، لكنها في الخفاء ركزت بصرها على جوزيف… بل على الهالة المحيطة به.
لم تكن قد صنعت نواة مانا بعد، غير أنّها استطاعت أن تستشعر خيوط المانا.
‘لا أثر لهالة غريبة… إذن فليس تحت لعنة.‘
أطلق صدرها زفرة ارتياح. فقد خشيت أن يكون مأخوذًا بلعنة آل دالاس كما حدث لها في ماضيها، مرغمًا على طاعتهم.
لقد رأت في قسماته المظلمة آنذاك ذات السواد الذي اكتست به أيامها حين حُرّكت كدمية ماريونيت بيد أسياد الظلام. رأت نفسها حين كانت تُساق لإيذاء دوق آدريان ودانيال قسرًا.
فإن كان جوزيف بدوره ضحية، فلن تتركه وحده.
‘إن لم تكن لعنة… فلا بد إذن أنّ أخته رهينة.‘
لكن كيف السبيل لإنقاذهما معًا؟ كيف توقف المخطط، وتنجّي جوزيف وأخته، وتكشف الخائن الكامن وراء الستار… وكل ذلك بلا نواة مانا؟
وبينما كانت تتوه في بحر القلق، إذ بصوت لوكاس يخترق الجلبة:
“ما الذي تفعلونه أيها الفرسان؟! ألا ترون أن ازدحامكم هذا يرعب الصغيرة؟!”
“هاه!”
“سننتبه يا سيدي!”
وتفرق الفرسان في لمحة، كاشفين عن وجه روزيت بينهم.
انتزع لوكاس القارورة من يدها، وأعطاها أخرى من عنده:
“اشربي هذه.”
“لقد… لقد ارتويت بالفعل— لا بأس، سأشرب.”
ومع أنها ابتلعت زجاجة كاملة، حملت القارورة الجديدة وأفرغتها كذلك، حتى امتلأ جوفها بالماء قبل أن تتذوق فطور الصباح.
✧✦✧
وعند المساء، حين غادرت خادمتها جوان غرفتها بعد أن تمنت لها نومًا هانئًا، انتصبت روزيت جالسة فوق سريرها ما إن انغلق الباب.
أغمضت عينيها، وركّزت روحها في المانا الجارية في عروقها… ذلك التمرين الذي اعتادت أن تكرره كل ليلة، منذ أكثر من شهر مضى.
لم تمسح روزيت حتى العرق البارد المتلألئ على جبينها، بل انكبت بكل كيانها تجمع المانا في أحشائها. راحت تلك الطاقة الغامرة تنكمش شيئًا فشيئًا، تتكثّف وتزداد صلابة وهي تنحسر في حجمها.
وهنا بدأت اللحظة الحاسمة. فإن وهنت قواها، أو اضطرب تركيزها، تفرّقت المانا في العدم وتبخر حلم تكوين النواة.
لقد جربت ذلك مرارًا طوال الشهر الفائت، ولم يُسعفها جسدها الغض.
‘قليلًا بعد… فقط قليلًا بعد…‘
تمسكت بما تبقى من وعيها، تغالب التشتت، وتغرس نفسها في صميم التركيز.
حتى إذا بلغ السيل ذروته— فتحت عينيها فجأة، والشعور بالتحرر يجتاح صدرها. مدت كفيها تتحسس بطنها الصغير، فإذا بنبضٍ خافتٍ يتوهج هناك. ليس وهمًا، بل أثر حقيقي لنواة المانا.
أجل، لم يكن سواها لتلتقط تلك الذبذبة الضئيلة، لكنها كانت موجودة، وهذا يكفي. لقد نجحت، قبل سنة كاملة مما أنجزته في حياتها الماضية.
صحيح أن جسدها لم يشتد بعد، لكن معرفتها بكيفية تحريك المانا أفسح لها هذا السبيل.
‘لن أتمكن من إطلاق السحر بعد… لكن ليس السحر ما أريده الآن.‘
كانت لها غاية أخرى.
مدّت كفيها، وضخت فيهما أنفاس المانا. فسرعان ما تكتل نور وردي في راحتيها، ثم…
[بييق!]
انبثق طائر أبيض صغير، رفيف جناحيه أشرق في الغرفة. كان تابعًا صنعته من المانا نفسها.
هتفت روزيت بفرح طفولي:
“بيبي!”
أجابها العصفور الصغير برفرفة سريعة وصوت حاد:
[بييك!]
لم يكن تابع المانا كائنًا حيًا بالمعنى الحق، لكنه امتلك وعيًا خاصًا. غير أنّه بلا ذاكرة من الماضي، لذا لم يعد هذا البيبي هو ذاك الذي عرفته آنذاك.
ومع ذلك، دمعت عيناها فرحًا. فلقد كان بيبي، في أيامها الحالكة، الصديق الوحيد الذي بدّد عزلتها.
ألصقت خدها الناعم بجناحيه الهشّين، هامسة:
“اشتقتُ إليك.”
[بييق!]
ثم تذكرت غايتها، فابتعدت قليلًا وقالت بجدية:
“لكن ليس هذا وقت العواطف. أمامك مهمة.”
[بييب!]
“عليك أن تراقب الفارس جوزيف أوسر. سيحاول العبث بالعربة… حينها عد وأخبرني. لا، بل لحظة خروجه ليلًا من حجرته، عليك أن تبلّغني حالًا. فهمت؟”
[بييييق!]
أومأ الطائر برأسه، واندفع عبر النافذة ليلًا، يختفي في عتمة السماء. أما روزيت، فهوت بجسدها على السرير، وقد أفرغتها المهمة من قواها، ولم يبقَ لها سوى الانتظار.
✧✦✧
ومضت ثلاثة أيام. وحين بزغ الفجر في صمتٍ واهن، عاد بيبي، يخترق شق النافذة المفتوح. انقض على شعر روزيت النائمة، يجرّه بمنقاره.
“آخ… من… بيبي؟”
[بييك!]
خفق بجناحيه في الهواء بإلحاح. استفاقت روزيت على الفور، ارتدت عباءتها الداكنة، واندفعت وراءه بخطى صامتة نحو مستودع العربات.
وهناك— حيث يفترض أن لا يُرى بشر— ارتسم ظل ضخم عند العربة.
لم تحتج إلى التأكد. كان هو، جوزيف أوسر.
وبغير تردد، انطلقت بأعلى صوتها:
“توقف فورًا!”
~~~~~~~
– ترجمة: ستيفاني
– حساب الواتباد: vminve
~~~~~~~~
ثقل ميزانك بذكرِ الله :
– سُبحان الله 🌿
– الحمدلله 🌸
– لا إله إلا الله 🌴
– اللهُ أكبر ☀️
– سُبحان الله و بحمدهِ ✨
– استغفر الله 💜
– اللهُم صلِ على نبينا محمد 🌠
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 18"