كيف لروزيت، وهي التي لم يكن لها يومًا أدنى صلة بفُرسان آل أدريان، أن تعرف هذا الفارس بعينه؟
لحظةٌ وجيزة وقفت فيها متحيّرة، قبل أن يفلت من شفتيها أنين إدراكٍ مباغت:
“آه…!”
ها قد انجلت الذكرى، وعاد الطيف القديم يتردّد في ذهنها.
‘هذا الرجل… أجل، لقد كان في صفوف فرسان آل دالاس…’
لمعت في خاطرها صورة بعيدة من عهد مراهقتها. يومها، وبأمرٍ من مركيز دالاس، خرجت لتهديد أحد النبلاء، وكان بين الفرسان الموكّلين بحمايتها وجهٌ يشبهه.
لكنّها لم تستطع أن تجزم. لقاءاتها بالفرسان كانت نادرة، ووجوههم ضبابية في ذاكرتها. ثم إنّ ملامح هذا الفارس لم تكن ذات فرادةٍ تُميّزه؛ وجه عادي قد يختلط بغيره.
غير أنّ ابتسامته التي انفرجت فجأة أبانت عن ندبةٍ طويلة تشقّ顎ه، فإذا باليقين يبرق في صدرها.
‘نعم… إنّه فارس آل دالاس، بلا ريب.’
لكن… ما الذي جاء بفارس دالاس إلى هنا؟ أيّ لغزٍ يكتنف هذا الحضور؟
صحيح أنّها لم تكن فارسة لتعرف قوانينهم، لكنها أدركت حقيقةً واحدة: الفارس ما إن يبايع بيتًا نبيلاً، لا يخدم سواه.
إذن فالمآل واحد:
‘إنّه رجل دالاس… جاسوسهم.’
منذ حادثة دانيال، خامرها الشكّ أنّ آل دالاس دسّوا جاسوسًا في قصر أ드ريان. ظنّت أنّه أحد عمّال الإسطبل أو الخدم، لسهولة اقترابهم من العربة. وكانت قد عزمت أنّه متى رسخت قدماها في القصر، ستبحث عنه قبل أن تتكرّر الفاجعة.
وها هو الجاسوس ينكشف لها بقدميه!
ارتسم على محيّاها خليطٌ غريب من الغبطة والارتباك، فالتقط الفارس إشارتها وسأل بلطف:
“ألم تقولي يا سيدتي إنّكِ عطشى؟”
“آه؟ أ… أجل.”
ناولها القارورة، فارتشفت قليلًا لترطّب فمها. ثم ارتسمت على محيّاه ابتسامة هادئة قبل أن يعدو نحو رفاقه.
ضيّقت روزيت عينيها وهي تراقب ظهره المبتعد.
‘إن كان حدسي صائبًا… فهو من عبث بالعربة.’
لكن ما بيدها سوى الظنون. لا بيّنة، ولا شاهد. وكلّ ما لديها أنّ ملامحه توافق شبحًا باهتًا من ماضيها.
كانت تحدّق به حدّ الانخطاف حين باغتها صوت لوكاس:
“هيه، يا صغيرة، لِمَ تحدّقين هكذا؟”
أفلت منها الارتباك، فابتلعت ريقها وهمست متعثّرة:
“لا… فقط… لأنّي ممتنّة له.”
انعقد حاجبا لوكاس، وضاق بصره بغضبٍ مكتوم:
“لا تقولي إنّكِ وقعتِ في هواه من النظرة الأولى؟!”
“… ماذا؟”
لم تفهم قصده، فأعادها بحدّة:
“هذا لا يجوز يا صغيرة! أهذه غايتكِ من تدريبات الفجر؟!”
وكان الفرسان قد لمحوا الموقف، فارتسمت على وجوههم ابتسامات راضية وهم يراقبون الصغيرين.
فارتاعت روزيت، وأطبقت راحتيها على فم أخيها:
“مفف، مفف!”
لكنّه أخذ يتململ محاولًا فكّ قبضتها، فيما هي تهمس برجاءٍ مضطرب وتجرّه بعيدًا عن الأعين. وعلى الرغم من قوّته، فقد استسلم لينقاد لها.
وحين خلا المكان من الرقباء، أفلَتت قبضتها عنه، فزفر هو بعمق وصاح معاتبًا:
“ما الذي تفعلينه بحقّ؟”
“لأنّك قلت كلامًا غريبًا!”
“أنا؟ أيّ كلام؟”
أمال رأسه بتعجّب، ثم أشرق وجهه بتذكّرٍ مفاجئ:
“آه، قصدت أنّكِ أحببتِه من النظرة الأولى؟”
“شش! اخفض صوتك!”
مدّت يدها لتسدّ فمه مجددًا، لكنه أفلت منها هذه المرّة ببراعة، وكأنّ استسلامه السابق لم يكن سوى لهوٍ متعمّد.
حدّقت في يديها الخاويتين بإحباط، فابتسم بخبث وسأل:
“إذن، لِمَ كلّ ذاك التحديق؟”
“آه…”
قطّبت حاجبيها، تجاهد لتجد عذرًا، فلم يخطر لها شيء، فآثرت الصمت.
عندها تمتم لوكاس بنبرةٍ ساخرة:
“لم أعلم أنّ ميولكِ تميل لذلك النوع…”
“ليس كذلك أبدًا!”
صرخت روزيت في وجهه بغير وعي:
“إنّه فقط… يشبه شخصًا أعرفه!”
“أه، هكذا إذن؟”
ابتسم لوكاس وقد انطلت عليه، فتنفّست الصعداء. غير أنّها سرعان ما خطرت لها فكرة؛ أن تستغلّ سذاجته لتستدرّ منه ما تريد من أسرار.
“أخبرني، متى التحق هذا الفارس بآل أدريان؟”
“همم…”
أجاب لوكاس هذه المرّة أيضًا بلا ريبة تُذكر:
“ألستُ أنا العارف بكلّ أخبار الفرسان واحدًا واحدًا.”
“أفهِمت.”
“لكن مظهره الفتيّ يوحي أنّه لم يلتحق إلّا حديثًا. أربع أو خمس سنوات على أبعد تقدير.”
غير أنّ هذا لم يُجدِ نفعًا. وما إن تهدّل كتفا روزيت خيبةً حتى هبّ لوكاس يلوّح بذراعيه محاولًا التدارك:
التعليقات لهذا الفصل " 17"