انبعثت تمتمة مذهولة من شفتي أرييل، وقد انفتح فمها دهشةً.
بالطبع، لم يكن غريبًا أن يأتي جين إلى هنا. لكنها تساءلت فحسب لماذا، من بين كل الأوقات، أتى في اللحظة عينها التي تواجدت فيها هي أيضًا. فمنذ ذلك الحادث، لم تكن مستعدة لمواجهته. وبدا لقاؤه هنا مفاجئًا جدًا، ومجرد مصادفة.
في اللحظة التي رأت فيها وجهه الخالي من التعابير، الذي يستحيل قراءته، توالت ذكريات ذلك اليوم، وصوره، ومشاعره، بشكل لا إرادي في ذهنها.
وجهه الذي كان قريبًا جدًا لدرجة أنه كاد يلامس وجهها؛ نظراته النارية التي بدت وكأنها تتجاوز قناع البرود لتغلف كيانها بأكمله؛ أنفاسه الساخنة التي تحمل عبيرًا حلوًا والتي اقتربت من شفتيها.
وحتى ذاتها، التي كادت أن تقع في شباكه.
عاد كل ذلك بوضوح شديد، لا يُقارن بمجرد التفكير فيه. انتشرت حمرة على وجه أرييل. فأدارت رأسها بسرعة لتتجنب نظراته.
حتى بعد أن أدارت وجهها، استمر جين في التحديق بها باهتمام للحظة. تحت أشعة الشمس الساطعة الخالية من الغيوم، بدا له شعرها البلاتيني المتلألئ، ووجنتاها المحمرتان، وعيناها اللتان تلونتا بوهج حزين، كل شيء فيها جميلًا. لا، بل أكثر من جميل، مبهرًا للغاية. كضوء ساطع لدرجة أنه يطغى على كل شيء آخر.
في تلك اللحظة، في عينيه، في عقله، في قلبه، لم تكن هناك سوى هي. حتى الشعور الخفيف بالذنب الذي كان يحمله تجاه أسكا، كشظية صغيرة عالقة في صدره، تلاشى دون أثر. وكما عرف دائمًا، كانت هي خلاصه، معجزته.
أراد أن يراها عن كثب أكثر. دفعت تلك الفكرة جين للنهوض. ببطء، برفق، خطا نحوها. كلما اقترب، ازدادت حمرة وجنتيها الدافئتين عمقًا. نشأت في داخله نزوة ليلصق شفتيه بتلك الدفء الناعم، لكنه قاوم الإغراء، غير راغب في تكرار الخطأ الذي كاد يرتكبه مرة سابقة. وبدلًا من ذلك، اكتفى بالنظر إليها.
“ظننتُ أنني لو أتيتُ إلى هنا، قد أراكِ. أردتُ رؤيتكِ، لكن… لم تستدعيني قط.”
عند سماع تلك الكلمات، أدركت أرييل الأمر. لم يكن لقاؤه هنا مجرد مصادفة.
لم تجلب كلماته الصريحة لها حرجًا في البداية بل ارتباكًا. ارتعشت والتفتت إليه، وعيناها القرمزيتان غامتهما الحيرة.
“كيف عرفت أنني سأكون هنا…؟”
“ذهبتُ إلى الصيدلية لرؤيتكِ، وحسناً… سمعتُ. عندما سمعتُ أنك ذهبت إلي مسقط رأسكِ، تساءلتُ إن كان ربما…”
توقفت كلمات جين، التي كانت تتدفق بسهولة، فجأة. أدرك حقيقة لم يكن قد اعترف بها بوعي من قبل. أطلق نفسًا خافتًا، مؤلمًا، ثم أجبر الكلمات على الخروج مرة أخرى.
“…أنا آسف لأنني تبعتكِ. كنتُ أعلم أن هذا غير لائق، لكنني أردتُ رؤيتكِ.”
“لا… لا بأس، حقًا…”
قاطعته أرييل بحدة. فبمجرد أن أُجيب على سؤالها، صدمها اعترافه الصريح، وعاد إليها الحرج الذي تمكنت من كبحه ليجتاحها من جديد. سقطت نظراتها مرة أخرى.
“أنا… أنا آسفة. لم تكن لدي الشجاعة لأري سير جين مجددًا، لذلك ظللتُ أؤجل الأمر.”
“لماذا هذا؟”
“لكن…”
قُطع سؤال جين الرقيق. لم تسمعه أرييل، ولم يضغط جين عليها للإجابة. مهما بلغ عمق رغبته في الفهم، كانت هي دائمًا الأولوية.
ببطء، رفعت أرييل رأسها. نظراتها المرتعشة، كتموجات على بحيرة، بحثت عنه. خفق قلبها بعنف، وارتفعت الحرارة في وجنتيها. تركزت حواسها، التي لا تزال متوترة من تذكر ذلك اليوم، على شفتيه.
أجبرت نفسها على تجاهل الوخز في شفتيها واستمرت.
“رؤية وجه سير هكذا… أدرك الآن أن تجنبك لن يحل شيئًا.”
بعد أن منحت قلبها له، لم يعد هناك مفر من ذلك. فمهما طال الوقت لتتلاشى تلك المشاعر، ستظل هذه الحالة قائمة. وتجنبه لن يمحو ما تشعر به.
‘إذا كان الأمر سيان على أي حال، فالأجدر بها أن تواجهه، لتقول ما يجب أن يُقال، وتسمع ما يجب أن يُسمع.’
عضت شفتها، جاهدةً للحفاظ على تعابير هادئة، وأضافت، “لدي أمور أرغب في قولها لك أيضًا. أسئلة أريد طرحها. لكن أولًا…”
لمحت عيناها القبر في الأفق، خلف كتفه مباشرةً.
“هل يمكنك أن تنتظرني، ريثما أنتهي من هنا؟”
تتبع جين نظراتها. وعندما استقرت عيناه أخيرًا على القبر، لم يُجب بالكلمات، بل بخطوة جانبية أفسح بها لها المجال.
مرت آرييل من جانبه نحو القبر. اتخذت مكانها بين شاهدتي قبرين، وجثمت كما فعل جين سابقًا.
كان هذا هو المكان الذي اعتادت زيارته سنويًا في هذا التاريخ، دون انقطاع، دائمًا برفقة أينكل. لكن ليس هذا العام. فقد ذهب أينكل إلى حيث هم الآن. والآن، يرقد جميع أفراد عائلتها، باستثنائها هي، معًا في هذا المكان.
جرفت هذه الفكرة كل المشاعر العميقة التي انتابتها للتو مع جين. اختفى الحرج الذي جعلها تنقبض في مكانها، وكأنه لم يكن موجودًا قط.
فجأة، وجدت أرييل نفسها تتساءل عن شيء لم يخطر ببالها قط أن تسأله منذ وفاتهم.
“…هل أنتم سعداء؟”
لم يُجب الأموات. وحتى لو استطاعوا، فلن تعرف أبدًا. فعالم الأحياء وعالم الأموات منفصلان إلى الأبد.
شعرت بالدموع تتسرب على خديها. لم تبكِ على الموت منذ وقت طويل لدرجة أنها لم تتذكر متى كان ذلك. لم يكن ذلك بسبب حزنها على وفاة والديها.
“أين…”
كانت هذه الدموع وليدة الشعور بالذنب، الذنب تجاه شقيق أصغر خاف الموت ولكنه لم يستطع تجنبه. ووليدة الوحدة التي غمرتها الآن. كسرَ صمتَ المكان تنهيدةٌ مرتجفة، لامست أذنها كهمسة.
“إذن… هذا ما جئتِ لتفعليه… لتبكي.”
لمسة خشنة ولكنها حانية لامست وجهها، تمسح دموعها بخفة وببطء. لم يستغرق الأمر منها سوى لحظة لتدرك أنها يد جين. أدارت رأسها نحو يده والتقت بعينيه الحزينتين.
لمسته، الدافئة والرقيقة، محت دموعها وكأنه يشاركها ألمها. سقطت نظرات أرييل. وتجمعت حبات أخرى من الدموع على رموشها وسقطت. بصمت، استمرت يده في مسحها.
حتى مجرد لمسة يده، التي كانت تخجلها عادةً، لم تستطع أن تخترق الحزن العميق في قلبها. ومع ذلك، بدا أن تلك الدفء يمتد إلى ظلامها ويرفعها. أمسكت بيده كغريق يتشبث بطوق نجاة. ولا إراديًا، قبضت يدها عليه بإحكام.
حاول جين تجاهل التيار الكهربائي الذي سرى فيه عند التلامس. في تلك اللحظة، لم يكن ذلك مهمًا. ترك يده هناك، مواصلاً مسح دموعها التي لم تتوقف. لمعت عيناها القرمزيتان المنخفضتان، مضطربتين بالمشاعر.
ماذا عساه أن يقول ليهدئ قلبها، ولو قليلًا؟ فكر مليًا، ثم تحدث أخيرًا، مختارًا كلماته بعناية.
“ألم تخبريني ذات مرة؟ أن أسكا كان سيرغب في أن أعيش بلا ألم.”
عند كلماته، رفعت أرييل، التي لم تُظهر أي تغيير في تعابيرها، ولا أي حركة سوى الدموع المتساقطة، نظراتها إليه. التقت عيناها، المليئتان بمشاعر متضاربة، بعينيه. لبرهة طويلة، ظلت صامتة. ثم تحدثت.
“لو كان الأمر بهذه السهولة…”
‘لكنت قد تجاوزته منذ زمن بعيد.’
على الرغم من أن صوتها خفت، إلا أن جين فهم جيدًا الكلمات التي لم تنطق بها.
لم يكن يأس فقدان شخص عزيز أمرًا يمكن أن يذوب ببضع كلمات مواساة. لو كان الأمر بهذه السهولة، لما عانى هو لنحو عشرين عامًا. حتى وقت قريب، كان لديه جرح لم يستطع الزمن نفسه أن يشفيه. كان يعلم جيدًا ما تشعر به.
وعندها أدرك.
بالنسبة له، كانت هي الخلاص. لكن بالنسبة لها، لم يكن هو كذلك على الإطلاق. كانا يعنيان لبعضهما أشياء مختلفة، فكيف لهما أن يجدا العزاء في الكلمات ذاتها؟
ضغط جين شفتيه، كابحًا تنهيدة مريرة، وتأمل من جديد.
“…إن لم تستطيعي التحرر من الألم…”
لم تبدُ متوقعةً الكثير من حديثه. التفتت بعيدًا، تنظر إلى القبر. لكن عينيها، رغم ثباتهما على القبر، كانتا مليئتين بشوق يائس لرؤية شيء أبعد بكثير منه.
‘أرغب في الذهاب إلى هناك أيضًا. لكن لا يمكنني الذهاب بمفردي. يجب أن يأتي أحدهم ليأخذني.’
في تلك اللحظة، رأى جين نفسه بعد وفاة أسكا مباشرةً. غطى عينيها بيده الأخرى. غطت يده الكبيرة رؤيتها بالكامل. بعد صمت طويل مضطرب، تحدث أخيرًا مرة أخرى.
“إذن… دعيني أحمل هذا الألم معكِ.”
“…”
‘نحمله… معًا.’
بشكل مفاجئ، خففت تلك الكلمات الاضطراب في قلبها، ولو قليلًا. وبينما هدأت مشاعرها، ظهرت أفكار جديدة.
حمل حزن شخص آخر لم يكن سهلًا أبدًا. وعندما لا يكون لذلك الحزن نهاية واضحة، يصبح الأمر أصعب. حتى الحب لا يمكنه أن يدعم المرء إلا لفترة محدودة؛ في النهاية، التكرار اللانهائي سيُرهق أي شخص. هكذا تفرّق بعض الأزواج، بعض العشاق.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات