تذكّرت أنها قد التقت بذلك الرجل في مثل هذا الوقت من حياتها السابقة. لم يكن بينهما أي تواصل يُذكر، لكن الغريب أنه هو من طلب لقاءها بحجة أن لديه أمرًا عاجلًا يتعين استشارتها فيه.
حينها، وقد مضى على زواجها عامان، كانت قد بلغت من التمرد حدًّا لم تعد تفكر في العواقب، فأدخلته بيتها أمام أعين الجميع متعمدة إغاظة زوجها. تهديدات، هوس، مراقبة، بل وحتى محاولات التعدي الجسدي لم تكن كافية، حتى دفعتها رعونة الغضب إلى إدخال عدو زوجها نفسه إلى الدار!
“لا بد أنني كنت قد فقدت عقلي فعلًا في حياتي السابقة.”
بهكذا تصرفات، كيف كان يمكن أن تتحسن علاقتها به أصلًا؟
قالت بصوت حازم:
“بلّغوا الكونت أنني سأوافيه قريبًا.”
“تقصُدين أن تلتقي بكونت أثلوت؟”
“ولا تنسي أن تبلّغيه أن حالتي الصحية ليست جيدة، فقد يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن أكون مستعدة.”
“نعم، مفهوم.”
وما إن غادرت الخادمة بعينين تقولان “كنت أعلم أنك ستفعلين ذلك”، حتى التفتت مارشا إليها بعينين مفعمتين بالقلق.
“مولاتي، ألا يجدر بك أن ترتاحي بدلًا من هذا؟ إن وصل الخبر إلى الدوق، فماذا لو أساء الظن بك؟”
مدّت نينا ساقيها خارج السرير محاولة النهوض، وقالت بصوت خافت لكنه حازم:
“لا مفر من ذلك. لا بد أن أتكلم مع ذلك الرجل، مع كونت أثلوت.”
كان مجرد التفكير في رؤية وجهه الكريه وسماع تفاهاته مجددًا يُثير اشمئزازها، لكن لقاءه قد يمنحها ذريعة مناسبة لتجلس مع زوجها.
“ثم إن لدي إحساسًا قويًا بأن السبب وراء رغبته في تبنّي ابن أخيه يتصل بكونت أثلوت مباشرة…”
استعادت في ذهنها ما تفوّه به أثلوت في ذلك اللقاء السابق، على هيئة “اقتراح”، فوجدت أن شكوكها لم تكن أوهامًا بل تكاد تكون يقينًا.
“لا بد من أن أرسم خطًّا واضحًا معه هذه المرة.”
وإذا كان زوجها يسعى حقًا إلى التبني، فهذا يعني أنه سيستحيل الطلاق خلال العام المقبل. وإذا كان ذلك من تدبير الكونت، فلا بد من إيقاف خططه بأي ثمن.
—
الكونت لويس إيه أثلوت.
خال الدوق الحالي من آل باييرن. كان يعبث بزجاجة صغيرة يخفيها بين يديه.
الخادمة قدّمت له شايًا رخيصًا، في إهانة لم تُخفَ، ومع ذلك ارتسمت على شفتيه ابتسامة راضية. السبب كان بين أصابعه، في تلك “الزجاجة”.
“ستشهدون قريبًا ما سيؤول إليه حال سيدكم.”
ابتسم وهو يتخيل زوجة ابن أخيه، المتشبثة بزوجها، تستجدي عونه. وما أمتع الفكرة! أن يراها، هي المنحدرة من عائلة حقيرة لا شأن لها، وقد تجرّأت على الجلوس في قصر باييرن العريق. كم سيسعده أن يرى ملامح الغرور على وجه ابن أخيه وقد تهشمت.
ربما كان في حال من النشوة جعل حتى عبير الشاي الرخيص يبدو له عذبًا، وإن كان لا ينوي أن يذوق منه قط.
وبينما كان يقلب الصحيفة بملل، في انتظار نينا، دخلت الغرفة بخطوات وئيدة. كان شعرها الوردي المائل إلى الخوخ مشدودًا إلى الخلف بعناية، وثوبها الداخلي الفاخر يليق بسيدة نبيلة.
للحظةٍ ظنّ أنها تعمّدت التأخر لإظهار تحديها، فتأذى كبرياؤه، لكنه حين لمح شحوبها أدرك أن عذرها بالمرض لم يكن ذريعة.
“خال سيدي، مرت مدة طويلة منذ آخر لقاء. أعتذر أنني جعلتك تنتظر، فصحتي لا تسعفني.”
“هاها، لا بأس مطلقًا. وأي تذمر يصدر مني وقد تكبّدتِ عناء الحضور في هذه الحال؟ لا تشغلي بالك.”
ضحك الكونت بصوت عريض، بينما كان يتفحصها بعينين ماكرتين؛ عينان زرقاوان غارقتان في حزن صامت، خصر نحيل يثير غريزة الحماية، وانحناءات لا تخفى. لم يدرِ أيّهما أعجب: هي التي تملك كل ذلك الجمال ومع ذلك لم تنل من زوجها شيئًا، أم ذلك الأحمق ابن أخيه الذي يملك مثل هذه الزوجة ولم يمسّها قط؟
قالت نينا بلهجة رسمية:
“أخبرتني أن لديك ما تقول، لكنني لا أقوى على الجلوس طويلًا، لذا فليكن حديثك مختصرًا.”
“أهمم… لا حيلة إذن. غير أن ما جئت من أجله أمر بالغ السرية، فلو نقلنا الحديث إلى مكان آخر لكان أفضل…”
وراح ينظر إلى مدخل القاعة بتوتر. كانت الغرفة واسعة مكشوفة، لا تصلح لمناقشة أمور حساسة.
إذ لاحظت نينا تردده، ارتسمت ابتسامة صغيرة على فمها وقالت:
“أعذرني، جسدي لا يحتمل أن أتنقّل. لكنني تأكدت أن لا أحد يسمعنا، فتكلم مطمئنًا.”
في حياتها السابقة، كانت قد قبلت التحدث معه في غرفتها الخاصة. أما هذه المرة، فاختارت أن يتم اللقاء علنًا في قاعة الاستقبال. فلا بد أن يُكشف الأمر. لا بد أن يرى الجميع كيف ستقصيه من حياتها.
“أهمم… حسنًا، إذا كان لا بد من ذلك…”
طرق الطاولة برفق وهو يضع أمامها زجاجة زجاجية صغيرة، وعلى محيّاه ابتسامة ماكرة.
“سبب زيارتي اليوم هو أن أسلّمك هذا.”
نظرت نينا إلى الزجاجة، وقد أدركت حقيقتها، لكنها تظاهرت بالجهل وسألت:
“ما هذا؟”
“إنه إكسير… سيُعينك كثيرًا في حياتك الزوجية.”
“إكسير، ما هي …”
حين تمتمت نينا بنبرة متظاهرة بالاهتمام، خفَض الكونت أثلوت صوته وكأنه يخشى أن يلتقط أحدهم كلماته.
“أليست معاناتكِ نابعة من حياتكِ الزوجية؟”
“…….”
“هذا دواء عجيب، قادر على إعادة حتى الأزواج الذين ذبلت سنواتهم إلى شغف شهر العسل. إنه بالضبط ما تحتاج إليه سيدتي زوجة ابن أخي.”
لم يكن غريبًا أن يعرف الكونت عن خلافها مع زوجها، فالكل كان على علمٍ به. لقد مضى زمن طويل منذ أن تحوّل اسم نينا إلى مادة للتهكم في مجالس المجتمع الراقي. غير أن معرفة الناس شيء، وجرأة رجل على أن يواجهها بتلك الحقيقة المهينة مباشرةً شيء آخر. وبالأخص حين يتعلق الأمر بخصوصيات الفراش الزوجي.
قالت ببرود، تخفي خلفه مرارة:
“إذن ما تريد قوله إن عليّ أن أستعمل عقارًا مجهول الهوية حتى أسرق قلب زوجي؟”
ابتسم أثلوت ابتسامة متغطرسة وقال:
“إنه إكسير تتناقله سيدات الطبقة الرفيعة سرًا في هذه الأيام. أما عن سلامته، فاطمئني، فقد ثبتت جدواه بما لا يدع مجالًا للشك.”
قطبت نينا جبينها، وقد اجتاحها ذاك الاشمئزاز اللزج الذي خبرته في حياتها السابقة. كانت عيناه تلمعان ببريق خبيث وهو يطوف بنظره على جسدها، وابتسامة مقيتة ترتسم على شفتيه. لم يكن هناك لبس في نوع الصور التي كانت تراود خياله عنها.
“لا بد أن جسدكِ هو من يستجيب أولًا، ثم بعد ذلك تختارين مع من ستضطجعين.”
…غير أن ما أشعل حماقتها في حياتها الماضية هو أنها كانت قد سمعت جملة مشابهة من زوجها قبل مدة وجيزة، فما عادت ترى شيئًا أمامها.
“فكري بالأمر جيدًا. ألن يتغير ابن أخي إن رُزق بابنٍ من صلبه؟ كم سيكون شديد العناية بكِ حينها!”
“……أتظن حقًا أنه سيتغير؟”
“لا شك في ذلك. الرجال جميعًا يتبدّلون حين يُرزقون بطفل.”
طفل.
إن رُزقت بطفل منه…
ذلك الأمل الساذج كان كفيلًا بأن يدفعها، حينها، إلى أن تقبض على الزجاجة كما لو كانت خيط خلاص.
لكن في تلك اللحظة تحديدًا، اندفع آش إلى الغرفة، كشرطي يقتحم وكر مجرم، وصوته يقطر سخرية:
“كنت أتساءل ما الذي تتآمران عليه، فإذا بي أجد هذا المشهد المضحك.”
“يا… يا عزيزي، هذا ليس ما تظن…”
“تقول إن الرجل يتغير بوجود ابن؟ للأسف، لن تُتاح لنا فرصة التحقق من ذلك أبدًا.”
…فكرة الطفل الذي قد يكون بينهما.
تلك الكلمة وحدها كانت كافية لتهزّها، وذلك كان خطؤها الأكبر.
زوجها، الذي لم ينظر إليها قط نظرة إنسان، صار منذ ذلك الحين يراها بعين تمقتها كما لو كانت أدنى من الحشرات.
وعندما تذكرت تلك اللحظة، ارتسمت على شفتي نينا ابتسامة يغمرها الأسى. لكن ذلك لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما تلاشت، لتضيّق عينيها وتستعيد صلابتها:
“إذن، هذا الإكسير الذي جئتني به هو من أجل إصلاح علاقتي بزوجي؟ لكنني أشك في أن نواياكِ تقف عند هذا الحد.”
ضحك أثلوت باستخفاف وأجاب:
“ليست إلا مسألة صغيرة. قريبًا سيرفع ابني دعوى لتغيير وصايته. وما جئت إلا لأطلب أن تقفي إلى جانبه.”
“أن أقف إلى جانبه؟”
“كل ما عليكِ فعله هو تقديم رأي مكتوب يفيد بأن آش غير صالح لأن يكون وصيًا. ليس أكثر.”
“وهذا يعني أنني أضع نفسي في مواجهة زوجي.”
“ولمَ تسمينه عِداء؟ هذا من أجل وريث آل باييرن الذي سيولد يومًا ما. لا تنسي أن إيان، ذلك الصبي، له حق في وراثة العائلة أيضًا.”
قهقهت نينا ضاحكة ضحكة قصيرة جافة.
يريدون منها أن تتخلى عن الصغير بدعوى أن مستقبل ابنٍ لم يُولد بعد قد يتضرر؟
“وماذا تنوي أن تصنع بذلك الطفل لو صار بين يديك؟”
لم يعد هناك ما يستحق أن يُسمع أكثر.
وفي اللحظة نفسها، لمحت عند مدخل القاعة ظلًا مألوفًا.
فأدارت عينيها الباردتين نحو وجه أثلوت الذي التصق به الجشع، وقالت بصوت تكسوه قسوة جليدية:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات