اختفت مارشا بوجه متجهم، وقد عجزت لليوم الثالث عن تنفيذ أوامر نينا كما ينبغي.
لم يكن الخطأ خطأها، ومع ذلك بدا عليها الإحباط والانكسار. كان المنظر يدعو في آنٍ واحد إلى الشفقة والحنان.
(على كل حال… ربما لهذا السبب بالتحديد لم تستطع أن تتركني حتى النهاية…)
في الماضي بعد انهيار بيت دوق تايلور، تفرّق الجميع طلباً للنجاة، وحدها مارشا بقيت إلى جانبها حتى آخر لحظة.
“مولاتي… أنا آسفة…”
“ما الذي يجعلك تعتذرين؟”
“يغلبني النعاس باستمرار…”
“…لا بأس، لقد تعبت كثيراً. يمكنكِ أن ترتاحي الآن.”
“إذن… فقط… سأغفو قليلاً…”
“…نعم، نامي بسلام. ولنتقابل من جديد، حتماً.”
كان ذلك في شتاء قاسٍ، حين لم تجديا سوى بطانية مرمية على قارعة الطريق، جمعتاها فوق جسديكما ككومة تراب تحاول أن تصير قبراً، ومع ذلك لم تستطيعا احتمال البرد المستعر.
مارشا، التي قضت معها عامين كاملين على الأرصفة، ظلّ ولاؤها الأعمى قائماً حتى انطفأت حياتها هناك.
وما لبثت نينا أن لحقت بها بعد وقت قصير.
غير أن الولادة من جديد حالت بينها وبين لقائها في السماء.
“تباً…”
حين عادت الذكريات، لسعها شيء مرير في صدرها وحرّك دموعها حتى وخزت أنفها.
لكن عودة مارشا في تلك اللحظة جعلتها ترتبك وتقترب منها مذعورة.
“م-مولاتي! هل تؤلمكِ بشدة؟ أأستدعي الطبيب الخاص؟”
“…لا، لا داعي.”
هزّت نينا رأسها نافياً. صحيح أن كدماتها لم تزل تؤلم مفاصلها، لكنها لم تكن تبكي من الوجع.
ما أثقل قلبها هو تذكّر غباء مارشا الجميل، التي رغم كل ما مرّ بهما أصرّت على التمسك بالوفاء، ولم تفكر في النجاة وحدها.
قالت نينا بصوت متهدج:
“…دعيني أبدّل ثيابي، ساعديني.”
“أمتأكدة أنكِ بخير؟”
أومأت برأسها، لكنها في الحقيقة لم تكن بخير إطلاقاً.
كيف يمكن أن تبقى متماسكة وهي مضطرة لمواجهة من عاين بأمّ عينيه أسوأ فصول حياتها؟
لو كان الأمر بيدها لتبخرت في الهواء كغبار دقيق، بلا أثر.
تمنت لو أن لا أحد يتذكرها، ولا أحد يعرفها. لكن الهروب من العار ليس حلاً أبدياً.
إن أرادت أن تمنع سقوط العائلة، وأن تنقذ نفسها ومارشا من النهاية البائسة، فعليها أن تجمع ما تبقى لها من شجاعة، حتى لو لم يكن لديها منها شيء.
لأن تغيير المستقبل يستحق التضحية.
“انتهيتُ، الآن سأضع لكِ بعض الزينة.”
“حسناً.”
بدلت نينا ثيابها بمساعدة مارشا، فارتدت فستاناً من حرير رقيق تتخلله دانتيلات على خط العنق والمعصمين.
رغم أنه من خزانة ملابسها الفاخرة، بدا بسيطاً ونظيفاً أكثر مما توقعت.
فتحت نينا أحد أدراج منضدة التزيين، وأخرجت منه مشبك شعر من اللؤلؤ.
“اليوم ارفعي شعري بهذا.”
“لكن… ألا ترين أنه متواضع أكثر مما يليق بكِ يا مولاتي؟”
“لا، إنه مناسب تماماً. ولا حاجة لكثرة المساحيق أيضاً. فقط رتبي بشرتي قليلاً، هذا يكفي.”
اتسعت عينا مارشا دهشة.
فمولاتها التي كانت تصر حتى داخل المنزل على زينة صارخة، تطلب الآن عكس ما اعتادت عليه.
ابتسمت نينا ابتسامة واهنة وقالت:
“…سأطلب الطلاق من زوجي.”
“ماذا؟! م-ماذا قلـــت؟”
“سأطلقه.”
كان ينبغي أن تفعل ذلك منذ زمن بعيد.
لقد كانت علاقتها به من البداية عقدة خيط خاطئ، لا سبيل لإصلاحه.
كيف يمكن أن تحب رجلاً خدعها وابتزها؟
أكان يكفي أنه وسيم ومن بيت عريق كي تُقنع نفسها بأنه سيحبها يوماً؟
أكان الزواج قيداً لا رجعة فيه؟
يا لها من أفكار أنانية وغبية.
(صحيح أنني تأخرت… لكن عليّ إصلاح خطئي الآن على الأقل.)
“على الأقل سأشد شعرهم حتى يتراجعوا. أنا مستعدة لفعل أي شيء من أجلك يا مولاتي.”
ونينا لم تشك لحظة في صدقها.
فمارشا، تلك التي ظلّت إلى جوارها حتى لحظة موتها، ضحّت بنفسها في سبيلها ولم تتخلَّ عنها قط، رغم أنها كانت السبب في سقوط البيت.
“على كل حال، تلك الإشاعات انتشرت، وأنا تعبت من هذه الحياة. لذلك… سأطلب الطلاق.”
“مولاتي… هل تقولين هذا بصدق؟”
“نعم.”
“…حسناً، إن كانت هذه رغبتك، فسأبذل جهدي لأجعلكِ في أبهى صورة.”
ابتسمت نينا بمكر، وقالت مازحة:
“إذن، لم تكوني تبذلين جهدك عادة؟”
“مولاتي! أنت تعلمين أنني لا أعني ذلك! ما أقصده هو أنني سأُظهر كل ما أستطيع. لا تتفاجئي بما سترين.”
“أمم… ليس هناك داعٍ للمبالغة…”
فهي لم تكن على وشك حضور مأدبة أو لقاء رسمي، بل أرادت فقط أن تُخفي ملامح الإرهاق والكآبة عن وجهها، فلا تبدو مثيرة للشفقة أمام الآخرين.
لكن مارشا، بصوت مفعم بالحماس، أجابت بابتسامة مشرقة، وكأنها تقول: “اتركي الأمر لي.”
وبعد قليل، سألتها بترقّب:
“ها؟ ما رأيكِ؟”
تمتمت نينا منبهرة:
“إنها نتيجة مذهلة…”
وجه شاحب صافٍ كالبورسلان، وجفون حمراء قليلاً كما لو بكت للتو، وشفاه وردية ناعمة خالية من أي تشقق.
لقد تحوّل وجهها الذي بدا مرهقاً ومريضاً، بجلد باهت وعينين غائرتين، إلى صورة لامرأة مريضة فاتنة، رقيقة وساحرة.
ظلت نينا تحدق في صورتها في المرآة وكأنها لا تعرفها.
ثم نهضت، وقد عاد بريق من الثقة إلى عينيها.
بهذا المظهر الطاهر الحزين، ستقتنع حتى عينا زوجها بأنها لم تعد تلك الزوجة المهووسة.
أغمضت عينيها بإحكام، تنفست بعمق، ثم فتحت الباب.
(يمكنني فعلها. الأمر ليس صعباً.)
ستنهي الطلاق بسرعة، تغيّر اسمها، وتبدأ من جديد.
وسيصبح هذا الماضي الكئيب ذكرى بعيدة، لا أكثر.
رفعت جفنيها المرتجفين، وشدت قامتها، ومشت بثبات.
***
شعب إمبراطورية نِسْمان يعشقون الشاي إلى حدّ أنهم يتوقفون ثماني مرات في اليوم ليحتسوه.
وكان آش دي باييرن واحداً منهم.
كان في مكتبه، يرتشف شاي الغداء الخفيف وهو يقرأ رسالة من ابن أخيه.
إيان، الذي لم يتجاوز العاشرة، يقيم حالياً في سكن الأكاديمية، وأرسل يخبره بأنه نجح في امتحانات منتصف الفصل، وأنه ازداد طولاً.
(لا بد أنه كبر كثيراً…)
آخر مرة رآه فيها كانت قبل عامين.
حين ربح القضية في الاستئناف الثالث، أدخل الصبي فوراً إلى الأكاديمية الداخلية.
فامرأة سعت للزواج منه مستعملة القضاء كسلاح لم تكن لتترك الصبي وشأنه.
ثم إن آش نفسه لم يكن يرى أنه يملك الحق حتى في النظر إلى وجهه.
انطفأ بصره لحظة، قبل أن يقطع أفكاره صوت مزعج من الخارج:
“…تنحَّ عن الطريق. عليّ أن أقابل زوجي.”
“معذرة يا سيدتي، لكن صاحب السعادة أمر بألا يدخل أحد.”
“لن يستغرق الأمر سوى لحظة. لديّ ما هو مهم لأقوله، بل أبلغه فقط أن يمنحني خمس دقائق، وإلا فسأقف هنا حتى يخرج بنفسه.”
رفع آش كفه العريضة وضغط بها على جبهته.
كان الألم النابض يتزايد.
صوتها، الخافت المتسلل من خلف الباب، كان كافياً لإيقاظ صداعه.
لم يقابلها منذ أيام، وها هي الآن تلجأ إلى اقتحام مكتبه بنفسها.
إن كان الأمر كذلك، فمن الأفضل أن يواجهها بنفسه.
فزوجته المقيتة لن تكفّ عن إزعاج الخدم وإحراجهم حتى تراه بعينيها.
لكن، أليس هذا بالضبط ما يتقاضون أجورهم من أجله؟
وعلى هذا، تابع آش عمله ببرود، كأن ما يجري عند الباب لا يعنيه في شيء.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"