لكن الجبال المبتلعة في ظلمة الليل كانت باردة كأنها في أوائل الشتاء، تلفّها نسائم قاسية تلسع الجلد.
طق… طق… طق طق…
تراقصت ألسنة اللهب الصغيرة داخل الخيمة، تتقد بخفوتٍ مريح.
“يبدو أنّ الدوق قد خلد إلى النوم. سيدتي، إن كنتِ تنوين المغادرة باكرًا غدًا، فالأفضل أن ترتاحي أنتِ أيضًا.”
“صحيح… يجب أن أنام. وأنتِ يا مارشا، اذهبي إلى النوم مبكرًا أيضًا. الجوّ بارد، خذي هذا.”
لفّت نينا البطانية حول كتفي مارشا بنفسها.
كانت تلك عادتها القديمة — أن تقلق على الآخرين قبل أن تقلق على نفسها، حتى وسط هذا البرد الذي يشقّ العظام.
(يا إلهي… كنتُ مجنونة…)
فور أن تذكرت ما قالته سابقًا — تلك الجملة الكارثية “لننم معًا” — شعرت برغبةٍ في أن تدفن رأسها في التراب.
غطّت وجهها بكفيها وأصدرت أنينًا مكتومًا.
كانت قد أعدّت كلماتٍ مختلفة تمامًا في ذهنها، لكن لسانها خانها في اللحظة الحاسمة.
حقًا… كم تمنّت أن تختفي من الوجود.
كل ذلك فقط لأنها كانت تخشى أن يسيء آش فهمها ويظنّ أنها تحاول التقرب منه عمدًا.
(الجوّ بارد…)
بعد أن غادرت مارشا، جلست نينا قرب الموقد، تحاول أن تدفئ أطرافها المرتجفة.
لكن الحمّام الذي أخذته قبل قليل جعل البرد يتغلغل في عظامها.
(كان عليّ ألا أستحم الليلة… سأضطر للغسل مجددًا صباحًا على أي حال…)
نينا كانت تكره البرد.
تكره الشتاء بكلّ ما فيه.
فقدانها لمارشا حدث في ذلك الفصل بالذات، فصلٌ خلّف فيها جرحًا لا يلتئم مهما مرّ الزمن.
هواء الجبل المتسلّل إلى الخيمة أعاد إليها تلك الذكرى التي تمنت لو تمحوها من عقلها إلى الأبد.
“سأنام… قليلاً فقط، حقًا…”
وجه مارشا الشاحب، شفاهها الزرقاء، جلدها البارد كالجليد، جسدها الذي تيبّس بين ذراعيها كقطعة خشب…
تذكّرت نينا كيف كانت تهزّها بيأس، رافضةً التصديق أن الروح غادرت.
هزّت رأسها بعنف، تطرد تلك الصور بعيدًا.
(لا، هذا لن يحدث هذه المرة. لن أسمح بذلك.)
المستقبل يمكن تغييره.
العشاء، المساعدة، السفر، حتى النوم تحت سقفٍ واحد —
كلها أشياء لم تكن لتحدث في حياتها السابقة.
لكنها حدثت الآن، بفضل قراراتها الجديدة.
وكان ذلك كافيًا ليؤكد لها أن بإمكانها تغيير النهاية.
(كفى، يجب أن أنام الآن.)
الذكريات السيئة مثل الظلال، إذا تبعتها غمرتك حتى تغرق.
أفضل دواء لها هو النوم، ببساطة.
لفّت نفسها بالبطانيات وتمدّدت، لكنها قبل أن تغمض عينيها لمحت في زاوية الخيمة وجه زوجها وقد تلون بضوء النار المتراقص.
كان ينام على السرير القماشي الضيق، مغطّى ببطانية رقيقة بالكاد تكفي طفلاً.
ربما لأن ذكرى مارشا كانت لا تزال عالقة في ذهنها،
شعرت نينا بوخزةٍ داخل صدرها وهي تراه ينام بهذه الصورة.
(هل هو من الذين أصيبوا بالتجمّد من قبل؟ لماذا أشعر أنه سيتجمد إن تركته هكذا؟)
تحرّكت أصابعها لا إراديًا.
كانت تعلم أنه لن يحدث له شيء من هذا البرد، ومع ذلك، العادة القديمة — تلك التي وُلدت من رعبٍ وذكرياتٍ مغطاة بالثلج — سيطرت عليها دون منطق.
(تغطية أحدهم ببطانية… لا يمكن أن يُعتبر شيئًا غريبًا، أليس كذلك؟)
ربما سينزعج، وربما سيعتبرها متطفلة،
لكن حقًا، تلك البطانية التي تغطيه كانت نحيلة إلى درجةٍ تجعل الناظر يرتجف لمجرد النظر إليها.
(وحتى لو أساء فهمي، سأقول له الحقيقة: بدا لي وكأنك ستصاب بالبرد… هذا كل ما في الأمر.)
تنفست بعمق، ثم نهضت بهدوء، تحمل في ذراعيها بطانيةً من الصوف الناعم، واقتربت بخطواتٍ حذرة من سريره.
كانت نيتها بسيطة جدًا — أن تضع البطانية فوقه بهدوء ثم تعود إلى فراشها.
لكنّ الأمور نادرًا ما تسير كما تنوي.
“آه…!”
انزلقت أطراف البطانية إلى الأرض، وتعثّرت قدمها بها، فاختلّ توازنها وسقطت إلى الأمام.
طَرق!
وفي اللحظة التي اصطدم فيها وجهها بشيءٍ صلب، انبعث ألمٌ حارق في جبينها.
“آخ…”
وضعت كفيها على وجهها وهي تتأوّه من شدّة الصدمة.
“…ما الذي تفعلينه بالضبط؟”
تجمّدت نينا.
يا ربّاه، لقد استيقظ!
(ألن يظنّ الآن أنني… أحاول أن أهاجمه؟!)
في ارتباكٍ محموم، رفعت البطانية لتبرر نفسها:
“كنت فقط… أحاول أن أغطيك! البطانية! كنت أريد أن أضعها عليك!”
ها هي! البطانية هنا! انظر!
لكنها نسيت شيئًا جوهريًا—ركبتها كانت لا تزال فوق تلك البطانية نفسها.
“…!”
وحين أدركت ذلك، كان الوقت قد فات.
فقد اختلّ توازنها مجددًا، وسقطت فوقه دفعةً واحدة.
أغمضت عينيها بعفويةٍ وهي تتوقع الأسوأ—
تَف!
ثم شعرت بشيءٍ صلبٍ ودافئ يلامس وجهها…
يدٌ قوية أحاطت بخديها، تمسكها في مكانها،
في صمتٍ كثيفٍ لا يُسمع فيه سوى لهاثها الخافت وصوت النار وهي تتقد ببطء…
“……”
قبل أن تصطدم نينا بالسرير، كان آش قد مدّ كفه والتقط وجهها في اللحظة الأخيرة.
تصلّب جسدها كله وهي تدفن وجهها في راحة يده الدافئة، ترتجف كعصفور مبلّل.
(كان عليّ أن أنتبه لمكان قدمي منذ البداية…)
(اللعنة على الماضي الدفين ، كان يجب أن أتحمّل قليلًا فقط!)
عضّت شفتها السفلى بندمٍ مرير، ثم رفعت رأسها نحو آش بوجهٍ يكاد يبكي.
“كنت… فقط أريد أن أغطّيك بهذه.”
جمعت البطانية المرتبكة من الأرض ومدّتها نحوه.
تبدّل تعبير وجهه قليلًا، بين الدهشة والحيرة.
“ليس عليكِ أن تهتمي بمثل هذه الأمور. بل يبدو أنني يجب أن أقلق على حالتك أنتِ.”
“ماذا؟”
تبعَت نينا نظراته إلى الأسفل—
كانت قطراتٌ حمراء تتساقط على صدر ثوبها.
“دم…؟”
لمست وجهها بأطراف أصابع مرتجفة،
وفي اللحظة التالية احمرّ وجهها كطماطم ناضجة.
كان ذلك نزيف أنف.
بل نزيفٌ مزدوج!
شهقت نينا في فزعٍ وهي تمسك أنفها بكلتي يديها وتستدير عنه.
(يا للعار…!)
تمنت لو تنشقّ الأرض وتبتلعها.
لم يكن ثمة سبب يجعلها تحاول أن تبدو جميلة أمام زوجها، لكن… هذه المسألة تتعلق بالكرامة!
تخيّلت شكلها الآن—أنف ينزف، وجه محتقن، شعر فوضوي—ورغبت في البكاء من الإحراج والحرج.
حينها مدّ آش يده نحوها بمنديل.
“استخدمي هذا. اضغطي به على أنفك.”
قالت بصوتٍ مكتومٍ من خلف قبضتها:
“…إذا أردتَ أن تضحك، فاضحك.”
“هل أبدو لكِ رجلًا عديم الأخلاق إلى حدّ أن أضحك على مصابة أمامي؟”
(حقًا؟ على الأقل حاول أن تُخفي ابتسامتك إذن!)
“أرى زوايا فمك ترتجف من هنا…”
حين رمقته نينا بنظرةٍ حادةٍ متجمدة، شدّ عضلات وجهه محاولًا التماسك، ثم التفت بعيدًا وفتح قِربة الماء، بلّل منها منشفة نظيفة، وقال بنبرةٍ جافة:
“لن تستطيعي الاستحمام الآن، فامسحي وجهك بهذا مؤقتًا.”
أخذت نينا المنشفة بلطفٍ، تمسح بها الدم عن يديها، بينما عيناها تراقبانه خلسة.
كان قد تمدّد على سريره مجددًا كأنه يهمّ بالنوم.
(حسنًا… على الأقل الجوّ أصبح أقل توترًا…)
رغم أنها خسرت هيبتها تمامًا، إلا أنّ ذلك البرود القاسي الذي كان يحيط به بدا كأنه تلاشى قليلًا هذه الليلة.
الجوّ بينهما صار أكثر دفئًا، وأخفّ وطأة.
(ربما… في مثل هذا الجوّ، يمكنني أن أكون صريحة قليلًا.)
استدارت نينا إلى الجهة التي ينام فيها آش، وبدت عليها ملامح النعاس وهي تناديه بصوتٍ متهدّجٍ وهادئ:
“يا دوق…”
“ماذا هناك؟”
كانت نبرته لا تزال جامدة، لكن ربما لأنّها تذكّرت انحناءة شفتيه قبل قليل،
لم تبدُ قاسية كما في السابق.
“هل… ما زلت تكرهني؟ أعني… هل ما زلت لا تطيق حتى الحديث معي؟”
“……”
“حتى لو كان الأمر كذلك، فأنا أفهم. أعلم أن ألمك لا يمكن تعويضه… لا بكلمةٍ ولا بفعلٍ، ولا ألومك.”
لو استطاعت أن تعود بالزمن وتمحو كل ما حدث، لفعلت.
لكنها لا تستطيع أن تمحو عامين من الكراهية والحزن بصحوةٍ واحدة.
“ومع ذلك… أرجو أن نقضي ما تبقّى من الوقت معًا كصديقين على الأقل…”
صمتٌ خفيف تسرّب إلى الخيمة.
“…وإن لم ترغب، فلن أكرهك على ذلك. لكن… كره شخصٍ ما إلى هذا الحدّ مؤلم، أليس كذلك؟”
كانت كلماتها صادقة، لا تبحث عن غفرانٍ بل عن سلام.
هي لم تعد تطلب الحب، فقط ألا يستهلك مشاعره في كرهها بعد الآن.
ففي النهاية، مهما كان ما جمعهما، كانت قد أحبّته ذات يوم، حبًّا لا يمكن إنكاره.
“أنا آسفة…”
همست بها نينا، ثم انسابت إلى نومٍ عميق، وعيناها ما زالتا تلمعان من أثر الندم.
—
في الجانب الآخر من الخيمة، فتح آش عينيه ببطء وسط السكون.
زوجته، تلك المرأة التي أضحكته بصدق لأول مرة منذ زمن، كانت تغطّ في نومٍ عميق.
(يا للسخرية…)
ربما كان ذلك بسبب عبارتها الصادمة “لننم معًا”،
لكنه لم يستطع النوم بعدها مهما حاول.
وحين اقتربت منه فجأة، كان يراقبها ليرى ما تخطط له…
لم يتوقع أن تكون بهذه الطرافة بعد عامين من العيش المشترك البارد.
الآن فقط أدرك أن في داخلها روحًا مرحة لم يرها من قبل.
“كنت فقط… أريد أن أغطّيك بالبطانية!”
ضحك، ضحكة قصيرة خافتة، ثم أخرى أقوى قليلاً، كتلك التي تخرج رغماً عنك.
لم يستطع منع نفسه من الابتسام وهو يتذكر وجهها المذعور،
وتلك الكارثة الصغيرة التي تحولت إلى عرضٍ كوميدي في منتصف الليل.
راقبها وهي ملتفة كاليرقة في فراشها، تتنفس بعمقٍ وهدوء.
للمرة الأولى، لم يشعر بالنفور من وجودها إلى جانبه.
هو لم يغيّر قراره—بعد عامٍ، سينفصلان كما اتفقا—
لكنّه شعر أن اقتراحها عن العيش كـ”صديقين” لم يكن سيئًا على الإطلاق.
“كره أحدهم… متعب، أليس كذلك؟”
ردد كلماتها بصوتٍ خافت،
ولدهشته، وجد فيها حقيقة لم يعترف بها لنفسه من قبل:
أن الحقد مرهق أكثر من أي شعور آخر.
“……”
نظر إلى كفّه التي احتضنت وجهها قبل قليل.
كان لا يزال يشعر بحرارة وجنتيها الناعمتين كطفلة،
وبأثر شفتيها الممتلئتين حين اصطدمتا بيده عرضًا.
تسلّل إليه إحساس غريب، مزيج من دفءٍ وحيرةٍ لا اسم له.
هزّ رأسه ليطرد تلك الأفكار.
(يجب أن أنام… غدًا علينا أن نتحرك باكرًا.)
أغمض عينيه محاولًا استدعاء النوم من جديد.
“هممم…”
لكن بين أنين الريح المتسلل من بين خيوط الخيمة،
تناهى إليه صوتٌ خافت، كأن أحدهم يناديه من عالم الأحلام…
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 37"