في صباحٍ باكرٍ رماديّ الضوء، جلست نينا تفرك عينيها المرهقتين وهي تكتب بطاقات الشكر الموجهة إلى دوق غرينفيل والمركيز سولدسفورد، ردًّا على الهدايا التي أرسلاها إليها.
كانت عيناها ثقيلتين جافتين من قلّة النوم، فقد أمضت ليلتها مستيقظة، تقلب كلمات الشكر التي قالها لها زوجها في ذهنها مرارًا حتى الفجر.
(هل حقًا قالها؟ أم أنني حلمت؟ ربما كنت أتوهم…)
لم تستطع تصديق أن تلك الكلمة البسيطة—”شكرًا”—خرجت من فم آش دي باييرن. كان الأمر كأنه حدثٌ خارق للطبيعة، لحظةٌ صغيرة لكنها كفيلة بأن تُربك قلبها طوال الليل. وبينما كانت تبتسم وحدها بخفة وهي تعيد تذوق وقع تلك الكلمة في ذهنها، شقّ صراخٌ حادّ السكون:
“…سيدتي! سيدتي!”
التفتت نينا بسرعة لترى مارشا تدخل الغرفة بوجهٍ متوهّج من الانفعال.
“ما الأمر؟”
“سيدتي، لقد وجدنا المجرم أخيرًا!”
“المجرم؟”
“جاسوسة دوقة نورد! لقد أمسكنا بها!”
“آه…” تمتمت نينا، وارتسمت على وجهها ابتسامة باردة ملتوية.
(أخيرًا، تمّ القبض عليها إذًا. كنت أتساءل من تكون منذ زمن… والآن سأرى وجهها بنفسي.)
من الذي تجرّأ وسرّب قصصها الخاصة إلى تلك المرأة الحقيرة؟
صحيحٌ أن فضائحها السابقة كانت كافية لتملأ شوارع العاصمة بالشائعات، لكنها كانت تعلم أن النغمة الخبيثة التي حملتها تلك الأخبار لم تكن لتحدث دون يد دوقة نورد.
قالت مارشا بلهفة:
“سيدتي، من الأفضل أن تأتي إلى غرفة الاستقبال فورًا.”
“حسنًا، لنذهب ونرَ هذا الوجه القذر بأنفسنا.”
في لحظةٍ اختفى التعب تمامًا. نهضت نينا وأغلقت تقرير ميلاني بعناية، ثم تبعت مارشا بخطواتٍ حازمة، ووجهها متجمّد لا يحمل أثرًا للدهشة أو الرحمة.
في قاعة الاستقبال، كان تشارلز وعدد من الخدم الشباب يحيطون برجلٍ يرتجف كالورقة، واضح أنه المتهم. بدا الذعر عليه كأنه يعلم أنه لن يخرج من هنا سالمًا.
“سيدتي، حضرتِ في الوقت المناسب.” قال تشارلز وهو ينحني قليلاً.
أومأت نينا برأسها دون كلمة، ثم وجهت نظراتها الجليدية نحو الرجل.
كانت تنتظر هذه اللحظة منذ وقتٍ طويل، وكانت في داخلها تشحذ غضبها كما يُشحذ السيف.
(هذا الضعيف الخائر؟ هو من خانني؟)
صعب عليها أن تصدق أن إنسانًا بهذا الجبن تجرّأ على مثل تلك الخيانة.
سألت بصوتٍ منخفضٍ كالثلج:
“أهذا هو الجاني؟”
أومأ تشارلز بسرعة ومدّ نحوها ظرفًا مهترئًا:
“نعم، سيدتي! هذا هو. ولدينا الدليل أيضًا!”
“م، م، مهلاً! لا، لا تفعلوا!”
صرخ الرجل وهو يحاول بشراسة انتزاع الظرف من أيديهم، لكن قبضات الخدم كانت كالفولاذ، وفي النهاية وصل الظرف إلى يد نينا.
فتحت الظرف ببطء، وصوت الورق يتكسر كأنه ثلجٌ تحت أصابعها. بدأت تقرأ محتوياته سطرًا سطرًا. ومع كل كلمة، كانت ملامح وجهها تشحب أكثر، وفي عينيها الزرقاوين توهجت نيرانٌ باردة، كأن البحر الهادئ انقلب إلى جليدٍ قاتل.
ولما وصلت إلى آخر الرسالة، خرج صوتها منخفضًا لكنه يحمل في طياته غضبًا متجمّدًا:
“…ما الذي يجدر بي أن أفعله مع هذا الجرذ الحقير؟”
ساد الصمت لحظة. الكلمة التي نطقتها—”الجرذ”—كانت فظة لدرجة أن الجميع في الغرفة شهقوا خلسة. لم يسمع أحدٌ من قبل مثل هذه الألفاظ تخرج من فم سيدة آل باييرن.
ثم تابعت نينا بصوتٍ ساخرٍ ساكن:
“يبدو أن راتب آل باييرن لم يكن كافيًا لك، أليس كذلك؟ لكي تبيع قصصي الخاصة لتطعم أسرتك كلها بمال الخيانة… كم هو نبيل.”
طوت الرسالة بأناقة بين أصابعها وأعادتها إلى الظرف.
كانت الرسالة بمثابة اعترافٍ مكتوب بخطّ يده، رسالة أرسلها إلى صهره الذي يعمل في قصر آل نورد، يروي له فيها تفاصيل عن حياتها اليومية—حتى تحركاتها الأخيرة، ويشير إلى أنه كسب مالًا وفيرًا بفضلها، ويقترح عليه شراء قطعة أرض بذلك المال.
لم يُذكر اسم دوقة نورد صراحة، لكن الأمر لم يحتج إلى عبقرية لفهمه. كان كل شيء واضحًا:
لقد باع معلوماتها مقابل المال.
“سي، سيدتي، أرجوكِ، سامحيني… لم أقصد، أقسم… الحياة كانت صعبة فقط…”
ضحكت نينا ضحكة قصيرة خالية من الرحمة.
“عذرٌ بالٍ لا يرقّ له قلبي. تشارلز، نفّذ ما وعدنا به.”
“أمركِ، سيدتي.”
تقدّم تشارلز بخطواتٍ صلبة وأشار للخدم.
“خذوه إلى الحرس.”
صرخ الرجل يائسًا وهو يُسحب أرضًا:
“سيدتي! أرجوكِ! سامحيني! لا تفعلي هذا بي!”
لكن نينا لم تلتفت إليه. بقيت واقفةً في مكانها، ملامحها لا تتحرك، كأنها تمثالٌ من الرخام.
كان بإمكانها أن تتجاهل النميمة، أن تتغاضى عن الثرثرة من وراء ظهرها، لكن أن يبيع أحدهم أسرارها ليملأ جيبه؟
ذلك لم يكن أمرًا يُغتفر.
سألت مارشا، التي كانت تتأجج حماسةً:
“سيدتي، هل نبدأ التحقيق معه فورًا؟”
هزّت نينا رأسها.
“ليس بعد. علينا أولاً تفتيش أغراضه. أريد أن أرى بأمّ عيني كم من حياتي باع وماذا احتفظ به.”
قالت مارشا بسرعة:
“حالاً! سأستدعي كبير الخدم.”
ركضت خارج الغرفة، وتركت نينا تراقب الجنود وهم يقتادون الرجل بعيدًا.
في قصر آل باييرن، كانت إدارة الخدم صارمة؛ فشؤون النساء تتولاها كبيرات الخدم، أما الرجال فيديرهم البيتستيوارد—كبير الخدم. حتى أماكن إقامتهم منفصلة تمامًا؛ إذ يُمنع على السيدات دخول مساكن الرجال دون مرافقة أزواجهن أو كبير الخدم نفسه، حرصًا على ما يسمونه “اللياقة والسمعة”.
بعد دقائق، دخل كبير الخدم إلى القاعة وقد بدا وجهه باهتًا من القلق.
انحنى احترامًا وقال بصوتٍ متوتر:
“استدعيتِني، سيدتي؟”
رفعت نينا رأسها نحوه، عيناها تلمعان ببريقٍ صارم.
“أظن أنك سمعت ما يجري في طريقك إلى هنا. أحد خدم القصر كان يبيع معلوماتٍ تخصني إلى الخارج. إلى آل نورد تحديدًا.”
تجمدت ملامح الرجل، وشحب وجهه حتى صار بلون الورق.
كان الفوتمان أحد الخدم الذكور الذين يشرف عليهم كبير الخدم مباشرة.
قال الرجل بانحناءةٍ عميقة وصوتٍ مفعم بالأسف:
“أعتذر، سيدتي. كان يجب أن أكون أكثر حرصًا في مراقبته… لقد قصّرتُ بحقكم. أقبل أي عقوبةٍ ترينها مناسبة.”
لكن نينا هزّت رأسها بهدوء، وقد بدا على وجهها ثقل المسؤولية أكثر من الغضب.
“ما حدث قد حدث، ولا يمكننا تغييره الآن. المهم هو أن نعرف إلى أي حدٍّ سرّب ذلك الوغد المعلومات. أريد أن أفتّش غرفته بنفسي، فهل يمكنني أن أطلب منك مرافقتي؟”
“سأتقدّم الطريق، سيدتي.”
“أعتمد عليك.”
وبعينين تضبطان الغضب ببرودةٍ متناهية، تبعت نينا كبير الخدم نحو الغرفة التي كان يقيم فيها الفوتمان الخائن.
ما إن فتحت الباب حتى زفرت بصوتٍ خافت.
“هاه…”
المشهد أمامها كان فاضحًا أكثر مما توقّعت.
كان الفوتمان موظفًا بسيطًا، راتبه بالكاد يكفي قوت يومه، ومع ذلك وجدت تحت سريره صندوقًا يحوي زجاجات من الخمور الفاخرة، وعلب تبغٍ ثمين، وأحذية جلدية راقية—كلّها أشياء يستحيل أن يشتريها بأجره الزهيد.
وإلى جوار تلك المقتنيات المخفية، كان هناك صندوقٌ صغير يضمّ رسائل متبادلة.
أمسكت نينا بالرسائل وبدأت تقرؤها ببطء، بعينين تزدادان برودًا كلما قلبت الورق. ثم تمتمت وهي تطبق فمها بإحكام، كمن يعضّ على كلماته:
“يا له من وقحٍ لا يعرف قدر نفسه…”
كانت إحدى الرسائل تقول:
> [وماذا ينفع أن تكون المرأة جميلة ومن بيتٍ نبيل؟ حين تتعلّق بالرجل أكثر من اللازم تصير ثقيلةً على القلب. زوج أختي المسكين… سيدته لا تفهم شيئًا في مشاعر الرجال. لو كنت مكانه، لعلّمتها كيف تأسر قلب رجلٍ بحق، يا للأسف…]
رفعت نينا رأسها من الرسالة ببطء، وارتسم على شفتيها ابتسامةٌ باردة مليئة بالتهكم.
(حتى ملوك البلاد يُغتابون في غيابهم، لكن من تراه هذا السافل حتى يتجرّأ ويقيّمني؟!)
تمتمت بسخرية لا تخلو من ازدراء.
في تلك الأثناء، كان تشارلز قد تبعهم بدافع الفضول، يقف عند الباب متردّدًا. قال بنبرةٍ خافتة وهو يلمس مؤخرة عنقه بخجل:
“في الحقيقة، سيدتي… بدأتُ أرتاب فيه منذ مدة. لم يكن من ذوي الحسب، ومع ذلك كان دائم التباهي بمشترياته الجديدة، فقرّرت أن أتحقق من الأمر.”
التفتت إليه نينا، فالتقت نظراتها بعينيه المتألقتين كطفلٍ ينتظر المدح.
ابتسمت بخفة وقالت:
“أحسنت يا تشارلز. لقد خففت عني عبئًا كبيرًا اليوم.”
اتسعت عينا تشارلز بدهشةٍ ممزوجة بالفرح. لم يعتد سماع كلماتٍ طيبةٍ منها. كان معتادًا على التعنيف لا على المديح. فحكّ رأسه بخجلٍ وقال متلعثمًا:
“أه، لستُ أستحق هذا، سيدتي. نحن فقط… نؤدي ما وُعدنا به، لا أكثر.”
لكنها كانت تعلم أن ما يسمّى بـ”الوعد” ذاك لم يكن إلا صفقةً غير عادلة.
فلولا أوامرها، لما كلّف الخدم أنفسهم عناء جمع المعلومات أو مراقبة زملائهم.
قالت وهي تنظر إلى ما وجدوه من غنائم الخائن:
“لقد بذلتم جهدًا كافيًا. خذوا هذه الأشياء واقتسموها فيما بينكم. وإن كان مقاس الحذاء مناسبًا لأحدكم، فلا بأس أن يأخذه.”
ثم أضافت بابتسامةٍ هادئة:
“في النهاية، لا بدّ من بعض المكافآت الصغيرة بين الحين والآخر. وإلا فكيف يجد المرء لعمله طعمًا؟”
تردد تشارلز لحظة، ثم قال متحمّسًا:
“أحقًا؟ نشكركِ جزيل الشكر، سيدتي!”
“لكن تأكدوا أن تقسموها بعدلٍ تام، حتى لا يبدأ أحدكم بالتذمّر.”
“نعم، بالطبع، شكرًا جزيلاً، سيدتي!”
راقبت نينا ملامح السعادة على وجهه، لكن إحساسًا غريبًا جعلها تلتفت جانبًا.
كانت تشعر بنظراتٍ تخترقها من الخلف.
عندما التقت عيناها بعيني جيفري، وجدت فيهما شيئًا لم تستطع تفسيره على الفور—نظرة إعجابٍ ناعمة، ممزوجة بشيءٍ يشبه التقدير.
سألت بتوترٍ خفيف:
“ما بالك تنظر إليّ هكذا؟”
ابتسم جيفري بخفوتٍ وهزّ رأسه.
“اعذريني، سيدتي. لقد تأثرت فقط بسعة صدرك. تصرّفك هذا… نبيل حقًا.”
“لا داعي للاعتذار، جيفري. لم يكن في نظرتك ما يسيء.”
لم يكن الأمر يزعجها في الحقيقة. بل على العكس، كانت تعلم أن جيفري أحد أوفى رجالات زوجها، وأن كسب احترامه أمرٌ لا يُستهان به.
(لم نكن على خلافٍ من قبل، في الواقع…) فكّرت في نفسها.
كان جيفري مختلفًا تمامًا عن ميلاني المتشددة والمتذمّرة.
رجلٌ هادئ، متسامح، كريم الطبع.
والآن حين تتأمل الأمر، تدرك أن لطفه ذاك لم يكن شفقةً، بل تفهّمًا لإنسانةٍ لم تعرف يومًا كيف تُحبّ أو تُحَبّ.
(لم يكن في صفّي، لكنه لم يكن عدوي أيضًا… وهذا يكفي.)
تنهدت نينا بصمت ثم قالت وهي تبلل شفتيها الجافتين:
“على كل حال، أريدك أن ترفع ما توصلنا إليه إلى الدوق. لا يبدو أن هذا الفوتمان تسرّب إلى أسرار القصر الكبرى، لكن الأمر يخصّ بيت آل باييرن، ويجب أن يعرف الدوق به.”
انحنى جيفري احترامًا وقال:
“كما تأمرين، سيدتي.”
“أعتمد عليك.”
وبينما كانت تغادر الغرفة، شعرت بخفةٍ غريبة في صدرها.
لقد استغرق الأمر وقتًا أطول مما ظنّت، لكن أخيرًا—أخيرًا—أمسكت بالجرذ الذي كان ينخر بيتها في الخفاء.
وشعور الراحة الذي غمرها كان أشبه بانتزاع سنٍّ متعفّن بعد ألمٍ طويل.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 34"