أصوات الأطفال تتردّد في أرجاء الساحة كهمس أوراق الشجر حين يلامسها النسيم — ضحكات متفرقة، أحاديث صغيرة، وخطوات خفيفة تتناثر فوق الأرض المرصوفة بالحجارة البيضاء.
في أثناء انشغال آش بالحديث مع عميد الأكاديمية، كان إيان يتمشى في باحة المدرسة الهادئة إلى جوار نينا، بين أصوات الطلبة التي تشبه ضجيجًا أبيض يبعث على السكينة.
قالت نينا مبتسمة وهي تشير إلى أحد المقاعد الخشبية تحت شجرة ضخمة:
“ما رأيك أن نجلس هناك قليلًا؟”
رفع إيان نظره إليها، وفي عينيه بريق فضولٍ وطمأنينة.
شَعرها الوردي الخفيف بدا كزهور الربيع، وعيناها الزرقاوان تشبهان سطح بحيرة ساكنة تحت ضوء النهار.
حتى في نظر طفل صغير، كانت امرأة جميلة ورقيقة الملامح.
(الحمد لله…)
لقد كان يشعر بالقلق لأنه لم يتمكن من حضور زفافها، ولم يكن هناك أحد يخبره عنها أو يصفها له. لكنه الآن، وقد التقاها أخيرًا، شعر بالارتياح. إنها حقًا تبدو إنسانة طيبة.
أخرج من جيبه منديلاً مطويًّا بعناية، وبسطه فوق المقعد.
“تفضلي، اجلسي هنا.”
ابتسمت نينا برقة وقالت:
“شكرًا لك، ما ألطفك.”
فأجابها بجدية طفولية:
“أسمع ذلك كثيرًا.”
ضحكت نينا بخفة، فضحك هو أيضًا، وكأن الهواء بينهما صار أكثر دفئًا.
“بالمناسبة، هل أنت بخير؟ هل يؤلمك مكان الضربة؟”
“لا تقلقي، ريتشارد يضرب كما لو أن قبضته من قطن. لم يكن الأمر مؤلمًا أصلًا.”
ثم أضاف بابتسامة مطمئنة:
“واساسا الممرضة وضعت لي مرهمًا في غرفة الإسعافات، لذا الجرح سيشفى قريبًا.”
تنهدت نينا بارتياح، لكنها لم تُخفِ قلقها.
“هذا جيد، لكن ألا يجب أن تعود الآن إلى صفك؟”
“إن عدت، فستبقين وحدك يا عمتي، لذا سأبقى إلى جانبك قليلًا.”
قالها وهو يبتسم، عينيه تنحنيان كالهلال، وكأن العالم كله يبتسم معه.
“كلامك لطيف، لكنني أستطيع الجلوس وحدي يا صغيري. لا أريدك أن تفوت ما أعددته من دروس أو نشاطات.”
هزّ رأسه نافيًا، ثم تمتم بخجل:
“في الحقيقة… حصلت على وقت حر اليوم لأنني شاركت بلوحة في المعرض الفني. و—”
توقف لحظة، ثم قال بصوت منخفض:
“لا أريد أن يراني أصدقائي بهذا الشكل… فهلا تبقين معي قليلًا؟”
تجعد وجهه الصغير بأسى طفولي صادق. كان يحاول أن يبدو قويًا، لكن نبرته المرتجفة كشفت رغبته في البقاء بجانبها.
أطلقت نينا تنهيدة قصيرة، ثم قالت بلطف:
“حسنًا، لا مفر إذن. سأبقى معك.”
رفعت يدها ولمست شعره بخفة، ترتب خصلاته التي عبث بها الهواء. كانت لمستها دافئة، حانية، تفيض بعاطفةٍ لم يحتج أن يسمّيها.
قال بعد لحظة صمت:
“شكرًا… على ما فعلته قبل قليل.”
رفعت نينا رأسها نحوه متسائلة:
“تقصد في غرفة المعلمين؟”
“نعم. في الحقيقة، حين اختبأ ريتشارد خلف والديه، شعرت بالغيرة منه.”
كانت تلك أول مرة في حياته يشعر بالغيرة من ريتشارد.
لأن ريتشارد كان يملك من يقف إلى جانبه، من يغضب لأجله ويحميه.
وحين وضعت نينا نفسها أمامه كحصن منيع، شعر بقلبه الصغير ينبض بعنف.
لكنه أحب أكثر من كل ذلك شيئًا واحدًا:
“عمي جاء إلى هنا بفضلك، أليس كذلك؟”
ترددت نينا لحظة، وقد تلبست وجهها ملامح حيرة خفيفة.
“آه؟ ذلك…”
فأكمل إيان بابتسامة خفيفة مائلة للحزن:
“لو لم تكوني هنا، لما جاء. ربما لم يكن سيأتي حتى يوم تخرّجي.”
ثم أضاف في نفسه:
(بل لم يكن ليستطيع المجيء أصلًا…)
فمنذ ذلك اليوم، لم يرفع عمه رأسه أمامه مرة واحدة.
كان يتصرف وكأنه هو المذنب، وكأن النظر في عيني إيان جريمة.
قالت نينا بصوت هادئ، فيه رجفة صادقة:
“ربما يصعب عليك أن تصدقني لأننا التقينا اليوم فقط، لكن صدقني، ذلك الرجل… يحبك أكثر مما تتخيل. أراهن بكل ما أملك على هذا.”
ابتسم إيان، وقال بثقة مطمئنة:
“أعرف ذلك.”
لم يكن كعمّه أثلوت، الذي لا يرى فيه سوى وسيلة لوراثة المال واللقب.
فقد كان آش هو من رعى أمره حين انشغل والده بشؤون الحكم، وهو من احتضنه يوم رفضته جدته، ومن حماه دون مقابل أو رياء.
إن لم يكن بوسعه أن يثق بعمه آش، فلن يتبقى أحد في هذا العالم يمكنه الوثوق به.
“حتى لو افترقنا، ما دام بيننا ثقة، فلا حاجة للشك.”
كانت كلماته بسيطة، لكنها خرجت من قلبٍ صغيرٍ تعلّم أن ينضج قبل أوانه.
مهما قال الناس حوله، ظل يؤمن بعينيه، بما رآه وسمعه وشعر به بنفسه.
لهذا السبب استطاع أن يعيش هنا بسلام، يدرس، ويبتسم، ويكوّن صداقات، رغم كل ما افتقده.
ورغم نوبات الشوق التي كانت تغزوه أحيانًا في صمت الليل.
“صحيح، هناك شيء أريد أن أريكِ إياه. حين يعود عمي، هل تأتين معي لنريه معًا؟”
تجمّدت نينا وإيان، ثم استدارا معًا نحو مصدر الصوت.
كان آش دي باييرن يقف خلفهما، ذراعيه متشابكتين، ونظرة غامضة في عينيه الرماديتين.
“وما ذاك الشيء الذي تريد أن تُريني إياه يا إيان؟”
***
كانت هناك امرأة تقف عند نافذة يغمرها ضوء الشمس، تعبث بأناملها الرقيقة ببتلات الزهور الموضوعة في المزهرية.
شعرها بلون البلاتين اللامع، وعيناها زرقاوان صافيتان كسماء الصباح — كانت تلك سيسيليا تايلر، سيدة في أواسط العمر، ما تزال تحتفظ بجمالٍ أخّاذ يثير في النفس الإعجاب والرهبة في آنٍ واحد.
“هاه…”
تنفست تنهيدة طويلة، تحمل بين ثناياها ثِقَل الفكر ووجع القلب.
كلما ازدحمت رأسها بالأفكار، اعتادت أن تهدّئ نفسها بمداعبة الزهور، تمسح بتلاتها الرقيقة بإبهامها وسبابتها، كما لو أن نعومتها قادرة على أن تسحب الهموم من صدرها.
كان ذلك طقسًا قديمًا، عادة التصقت بها منذ شبابها.
لكن، أيّ زهرةٍ في الدنيا قادرة على محو القلق الذي يسكن قلب أمّ تخاف على ابنتها؟
“عزيزي…”
نادته سيسيليا بصوتٍ واهنٍ بالكاد يُسمع، لكن نبرتها بقيت باردة وهي تواصل مداعبة بتلات الزهور بين أصابعها.
كانت تعرف تمامًا السبب الذي جعله يأتي إليها في هذا الوقت الذي كان يفترض أن يقضيه في مكتبه، منشغلًا بشؤون الحكم، ويخاطبها بذلك الصوت الحزين المتهدّج كجروٍ مكسور الجناح.
قال كايدن متوسلًا:
“عزيزتي، مهما كان ما حدث، فقد أُصيبت الطفلة. ألا يجدر بنا على الأقل أن نبعث برسالة نطمئن فيها على حالها؟”
ردّت ببرود حاد كحدّ السكين:
“لا تقل كلامًا فارغًا كهذا.”
تأوه زوجها في ضيقٍ وقال:
“لكن نيفيل قال إن نينا أُصيبت إصابةً خطيرة، بل إنها جُرحت وهي تحاول إنقاذ زوجها! ألا يقلقك هذا؟”
كيف لا تقلق على ابنتها؟
لكن كلماتها خرجت من فمها على النقيض تمامًا من ما يضجّ به قلبها.
“هي من أعلنت بنفسها أنها لم تعد تملك أمًا. قالت إنها ستعتبر نفسها بلا والدين، فماذا عساي أفعل؟ لماذا أكتب رسالة إلى غريبة؟ إنها لم تمت بعد، فلا داعي لهذا الضجيج.”
أُصيبت وهي تحمي دوق باييرن؟
كانت سيسيليا تعرف جيدًا مدى هوس ابنتها بالدوق آش دي باييرن.
لذا لم تشكّ في صحة الخبر.
لكن لهذا السبب تحديدًا، كان عليها أن تكون أكثر برودًا وصلابة من أي وقتٍ مضى.
قال كايدن وهو يحاول أن يلين قلبها:
“يقولون إن في ساقها ندبةً واضحة… أرجوك يا عزيزتي، اكتبي لها ولو بضع كلمات…”
قاطعت حديثه بهدوءٍ حاسم:
“كفى. مهما قلتَ، لن يتغير رأيي. ولا تفكر أبدًا في مراسلتها من وراء ظهري.”
كانت نينا ابنةً انتظرتها المعجزة.
بعد تجربتين موجعتين من الإجهاض، جاءت أخيرًا إلى الحياة كما لو كانت هديةً إلهية نزلت لتواسي أمًّا أنهكها العجز والدموع.
حينها، كانت سيسيليا تمضي لياليها تبكي في صمت تحت قسوة حماتها، التي لم تكن تكفّ عن توبيخها قائلة: “كل النساء يحملن وينجبن، إلا أنت.”
وحين حبلت بنينا، كان ذلك خلاصها ونورها.
لكن ضعف جسدها المتأصل خانها في النهاية.
ولدت نينا قبل أوانها بشهرين، ومنذ أن فتحت عينيها الصغيرة على العالم، كانت تخوض صراعًا عنيفًا مع الموت.
طفولة ملأتها الحمى والمرض والوهن.
كانت سيسيليا تعلم في أعماقها أن كل ما ألمّ بابنتها سببه جسدها الضعيف الذي لم يحتضنها كامل تسعة أشهر.
كل الأطباء الذين لجأت إليهم قالوا الشيء ذاته:
“هذه الطفلة لن تعيش طويلًا.”
ولهذا… كانت تلبي لها كل ما تريد.
أيًّا كان ما تطلبه، تمنحه لها بلا تردد.
وإذا أخطأت، لم تكن تعنّفها، بل كانت تهدهدها برفق حتى لا تنكسر نفسها الهشة.
كانت تريد أن تمنحها جسدًا سليمًا، حياةً طويلةً ومستقرة.
لكن حين لم تستطع، ملأها الذنب والخوف.
قالت لنفسها: إن كانت حياتها قصيرة، فلتنعم على الأقل بكل ما تتمناه.
إلا أن تلك الرغبة في الحبّ المفرط، في الحماية العمياء، كانت أصل الخطأ كله.
لم يكن يجب أن يكون الأمر هكذا…
لم تكن وحدها من بالغ في تدليل الطفلة؛ حتى والدها وأجدادها أحاطوها بدفءٍ مفرطٍ، كأنها جوهرة لا يجوز لمسها.
وما إن كبرت بسلام حتى صارت تؤمن أن ما تريده يجب أن تملكه، مهما كان الثمن.
—
“إذن من الآن فصاعدًا، فلنفترض أنني لا أملك ابنة.”
قالت سيسيليا ذلك ببرودٍ موجع.
“ابنةٌ تجعل والديها سببًا في طلاقها، لا أريدها. من الأفضل أن أعتبرها غير موجودة.”
كل ما أراداه هو إنقاذها من زواجٍ تعيسٍ يتآكل فيه قلبها كل يوم، لكنّها اختارت أن تغرس خنجرها في صدر والديها.
وكانا يعلمان، في أعماق نفسيهما، أن ما آلت إليه لم يكن سوى نتيجةٍ لتربيةٍ خاطئة، لتدليلٍ أعمى.
تنفس كايدن بعمق، وصوته مثقل بالهزيمة:
“حسنًا… كما تريدين.”
قالت سيسيليا بنبرة منخفضة لكنها ثابتة:
“حتى تعود مطلقة، لن أعتبرها ابنتي.”
كان ينبغي ألا تدفعها إلى ذلك الزواج منذ البداية.
حين اكتشفت أن نينا سرقت خاتم ختم والد زوجها لتجبر العائلة على القبول بالزواج، كان عليها أن توقفها فورًا.
لكنها خافت — خافت من الفضيحة، من سقوط أبيها من منصبه، من أن تُزَجّ ابنتها في السجن.
فأغمضت عينيها وتجاهلت الحقيقة.
لم تدرك أن ذلك الإغماض كان أول مسمارٍ في نعش حياة ابنتها.
ومنذ ذلك الحين، مضت سنتان من زواجٍ لم يكن إلا جحيمًا صامتًا.
سمعتها التي تلطخت في المجالس، والأحاديث التي تدور حولها بلا رحمة، كلها كانت نتيجة تلك اللحظة من الضعف.
لا، لم يعد مسموحًا أن تواصل التستر على أخطاء نينا.
ليس بعد الآن.
هذه المرة، ستقف في وجهها من أجلها، لا ضدها.
“تأكد من أن تخبر والدك أيضًا.”
قالت ذلك وهي لا ترفع عينيها عن الزهور التي بين أصابعها.
“اخبره له ألا يستقبل نينا مطلقًا، ما دامت لم تطلق رسميًا.”
لقد وبختها، وصرخت فيها، وتوسلت إليها، وجربت كل وسيلةٍ ممكنة.
لكن الفتاة لم تتغير، بل ازداد تمسكها بما يدمّرها.
حين لا يكون الشخص قدرك، عليك أن تتعلم أن تتركه.
لكن ابنتها لم تستطع — ظلت ممسكةً بوهْمها حتى اختنقت حياتها في جحيمٍ من صنع يديها.
قال نيفيل إن نينا تغيرت.
لكن سيسيليا لم تصدق.
لو كانت تغيرت حقًا، لكانت طلبت الطلاق منذ زمن.
لكن صمتها الطويل لم يكن سوى دليلٍ على أنها ما زالت أسيرة ذلك الوهم القديم.
كانت تعرف — كما يعرف كل من أحبّ بصدقٍ ذات مرة — أن نينا لن تجد سعادتها مع دوق باييرن.
كيف يمكن لاثنين جرّحا بعضهما إلى هذا الحد أن يكملا معًا ما تبقّى من عمرٍ محطم؟
لا دواء يمكنه إصلاح علاقةٍ تهشمت إلى هذا الحد.
وفي تلك اللحظة، عقدت سيسيليا عهدًا صامتًا مع نفسها:
من أجل ابنتها، هذه المرة فقط — لن تسمح لضعفها بأن يتغلب عليها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 32"