Jojo:
30
كانت أكاديمية “سانت هينيدج” العريقة تعتمد نظام السكن الداخلي للطلاب، إذ يتوافد إليها التلاميذ من جميع أنحاء البلاد.
وعند البوابة الرئيسية، غصّ المكان بالوافدين.
أولياء أمور جاءوا من بعيد، يفيض وجوههم بالشوق لرؤية أبنائهم بعد طول غياب.
“يا رجل، لا تحدّق هكذا، قلت لك إن عمّك لن يأتي.”
تنهّد “إيان” بخفوت، محولًا نظره عن البوابة حين سمع صوت “ريتشارد”.
أكثر من أي أحد، كان يعلم أن عمه لن يأتي حقًا.
ومع ذلك، لم يستطع أن يتخلّى عن بصيص الأمل الذي يطلّ برأسه رغم إرادته.
“على كل حال، هل فكّرت في الأمر؟”
“الأمر؟”
“قلتَ إنك ستفكر في موضوع الوصيّ، تذكُر؟”
“آه.”
اتسعت عينا إيان كمن تذكّر للتوّ.
“على أي حال، بما أنك قررت، فسأخبر والديّ في ما بعد.”
ابتسم إيان بخفة.
لم يستطع إلا أن يجد في كلام ريتشارد شيئًا من الطرافة،
فهو يتحدث وكأن قراره أمرٌ مفروغ منه.
“ريتشارد، قلت إنني سأفكر، لم أقل إنني سأغيّر.”
“وهل بينهما فرق؟”
“بالطبع، فرق كبير.”
صحّح إيان له سوء الفهم بابتسامةٍ هادئة من تلك التي يبرع فيها المتفوقون المتزِنّون.
لطالما كان يجد تصرفات ريتشارد المقرّبة منه متكلفة ومزعجة،
لكنه آثر الصمت بدل أن يُشعل شجارًا لا طائل منه.
على أية حال، لم يخطر بباله يومًا أن يبدّل وصيّه الحالي.
“يا ابن الـ…! هل كنت تستخفّ بي طوال هذا الوقت؟”
احمرّ وجه ريتشارد غضبًا حين أدرك أنه كان يُساق في لعبة لم يكن طرفها الأقوى.
“أستخفّ بك؟ لا تقل هذا، أنت لست لعبة لأتسلى بها.”
“إذن توقّف عن التفكير وفعل ما أقول! هذا لمصلحتك، صدّقني!”
لم يفهم إيان متى أصبح ريتشارد حريصًا إلى هذا الحدّ على مصلحته.
بل لم يفهم أصلًا ما الذي جعل والدَي ماركيز وولبرني يُلصقان ابنهما به.
هل يجهلان أن فصاحة ريتشارد لا تصلح لإقناع حتى طفل؟
أم لأنهم يظنونه صغيرًا بما يكفي لتصديق أي شيء؟
“إن كان الاحتمال الثاني، فذلك حقًا يثير غضبي…”
ألقى إيان نظرة نحو باب الصف الأمامي وقال ببرود:
“يبدو أن الأستاذ سيصل قريبًا، من الأفضل أن تعود إلى مقعدك.”
“تفو، لم أرد أن أقول هذا، لكنك تجبرني…”
أدرك إيان على الفور ما سيقوله، فقاطعه بصوتٍ منخفض لكنه حادّ:
“اعتبر أني لم أسمع، لا تكمِل.”
تشنّج وجه ريتشارد وانقبضت شفتاه.
“تظن أن الدوق سيبقيك إن أنجب طفلًا من صُلبه؟
إن لم تُرد أن تلقى مصير أبيك، ف—”
في تلك اللحظة نهض إيان من مقعده، وجهه مغطّى ببرودةٍ قاتلة.
تراجع ريتشارد خطوة إلى الوراء لا إراديًّا.
“لو كنت تملك ذرة عقل، لعرفت أن هناك حدودًا للكلام.
هل فقدت عقلك يا ريتشارد؟”
“أيها اللعين!”
اندفع ريتشارد بقبضته دون تفكير—
طع!
استدار رأس إيان بفعل الضربة، فمسح فمه بإبهامه.
تلطّخت أصبعه بقطرة دم.
“كما توقعت، لا تفكر قبل أن تستخدم يديك. إذًا، نعم… لا عقل عندك فعلًا.”
“قلت ماذا؟!”
اندفع ريتشارد عليه مجددًا، لكن هذه المرة قبض إيان على شعره بقوةٍ مفاجئة.
“تبًا! أتركني، أيها الوغد، قلت لك اتركني!”
“لا.”
شدّ قبضته أكثر.
لو أفلته الآن، فسيُغرقه الآخر باللكمات—أحمق من يفعل ذلك.
غير أن يدًا ضخمة أمسكت فجأة بمعصمه، تقيّد حركته بخشونة.
“ما الذي تظن نفسك فاعلًا؟!”
شعرٌ أحمر قاتم، وعيونٌ بلون الجمر ذاته—
حتى الأعمى كان ليدرك أنه من عائلة ريتشارد نفسها.
إنه ماركيز وولبرني.
“لقد انتهى أمرك، أيها الوغد.”
قال ريتشارد منتشيًا، وقد عاد إليه كبرياؤه بمجرد أن رأى والديه.
“يا للضجر…”
أفلت إيان أنفاسه، وهزّ معصمه المتألم بتبرّم، تقطيبٌ خفيف يعلو وجهه.
—
في غرفة الأساتذة بأكاديمية سانت هينيدج،
كانت ماركيزا وولبرني تصبّ جام غضبها على أستاذ الصف،
وهي تشير بعصبية إلى وجه ابنها المتورم.
“لقد سلّمنا إليكم ابننا اعتمادًا على سمعة الأكاديمية،
فهل هذه هي الثقة التي كنا نمنحها؟!”
انحنى الأستاذ قليلاً وهو يجيب بصوتٍ متردد:
“أعتذر، سيدتي… لا أجد ما أستطيع قوله دفاعًا عن نفسي.”
“بهذا الشكل، لا أرى سببًا يجعلنا نستمر في دفع التبرعات السخية لإبقاء ابننا هنا، أليس كذلك؟”
“أعتذر بشدة، ليس لدي ما أقوله دفاعًا عن نفسي.”
“من الطبيعي أن يتشاجر الأطفال أحيانًا، لكن أليس من واجب المعلّم أن ينتبه كي لا تصل الأمور إلى هذا الحد منذ البداية؟”
حوّلت الماركيزة وولبرني نظراتها من الأستاذ الذي كان يعتذر بانحناءات متكرّرة، إلى الفتى الواقف إلى جواره—إيان.
عادةً، حين يُستدعى طفل إلى غرفة الأساتذة بسبب مشكلة كهذه، ينكمش خائفًا أو يتهرّب بعينيه.
لكن هذا الفتى كان واقفًا بثبات، يشاهد ما يجري وكأنه لا علاقة له به.
من هذه اللامبالاة الهادئة، أدركت الماركيزة أنه ليس طفلًا عاديًّا.
سألت بصوتٍ أكثر لينًا من نبرتها مع الأستاذ:
“أنت هو إيان، صحيح؟”
“نعم، سيدتي.”
ابتسمت بخفة وقالت:
“سمعت عنك كثيرًا من ريتشارد. تمامًا كما قال، أنت وسيم للغاية. سمعت أيضًا أنك ذكي ومجتهد، وأنك تعامل ريتشارد كأخٍ مقرب، أليس كذلك؟”
كانت قد تلقت طلبًا خاصًا من الكونت أثلوت، مرفقًا بوعدٍ بمكافآت ضخمة إن هي ساعدته في أمرٍ محدد.
ولتحقيق ذلك الهدف، كان عليها أن تكسب ودّ هذا الطفل أولًا.
ومع ذلك، لم تكن لتتغاضى عن حقيقة أنه أمسك بشعر ابنها وسحبه.
ومادام الصبيّ يعاني من حرمانٍ عاطفي، فلن يكون من الصعب تهدئته ببعض الكلمات اللطيفة.
“لن نثير ضجّة حول ما حدث هذه المرة، لكن عليك أن تعتذر لريتشارد. أنتما ستعيشان معًا في الأكاديمية، لذا من الأفضل أن تبقيا على وفاق، أليس كذلك؟”
وأضاف الماركيز وولبرني من جانبه بنبرةٍ متصنّعة:
“نعم، اعتذرْ وانتهى الأمر. بعد ذلك، تعال وتناول الغداء معنا، لا يصح أن تأكل وحدك دائمًا، يا بني.”
لكن إيان لم يكن فتى يمكن التلاعب به بسهولة.
قال بهدوء، دون أن يخفض رأسه:
“لكن من بدأ بالسبّ والضرب هو الأخ ريتشارد، وأنا فقط دافعت عن نفسي. فلماذا عليّ أنا أن أعتذر؟”
“صحيح أنك تجاوزت سنّك الدراسي، لكن ريتشارد يبقى أكبر منك سنًّا.
والأصغر يجب أن يعتذر للأكبر عندما يخطئ.”
“لكنني تعلمت أن الاعتذار واجب من أخطأ، لا من هو أصغر سنًّا.
هل كوني أصغر يعني أنني مخطئ تلقائيًّا؟”
قالها إيان بلهجة ثابتة، رافعًا رأسه بكرامة، دون أن يظهر أي ارتباك.
حينها تبادلت الماركيزة نظرة قصيرة مع الأستاذ، فيها ما يكفي من الإشارة لفهم مقصدها: تصرّف، وإلا ستدفع الثمن.
فهم الأستاذ الرسالة على الفور، وقال بنبرةٍ مترددة:
“إيان، لا تجعل الأمر أعقد من اللازم، من الأفضل أن تبادر أنت بالاعتذار لريتشارد.
المهرجان المدرسي سيبدأ قريبًا، ولا وقت لدينا لهذه الخلافات.”
كان يظن أن إيان، بما اشتهر عنه من نضجٍ وهدوء، سيقبل الأمر لإنهاء الموقف بسلام.
لكن—
“هذا غير صحيح، أستاذي. لماذا تطلب من إيان الاعتذار؟”
اخترق الصوت الواضح، الرنان، سكون الغرفة كحدّ السيف.
رفعت الماركيزة عينيها نحو مصدر الصوت، لترى امرأة ذات شعرٍ ورديٍّ ناعم وعينين زرقاوين تشعّان كصفحة بحرٍ في يومٍ صافٍ.
إنها نينا.
نعم، تلك نينا المشهورة،
زوجة دوق باييرن، والعار الوحيد الذي لطّخ اسم تلك العائلة النبيلة.
وقد دخلت الآن إلى غرفة الأساتذة—ومعها الدوق نفسه.
***
أخيرًا وصلا إلى وجهتهما.
طوال الطريق كانت نينا تنظر في مرآة صغيرة، تعدّل ملامحها وتحاول أن تبدو واثقة قدر الإمكان.
وما إن نزلت من العربة حتى رتّبت ثيابها بعناية، لكن حركاتها كانت مضطربة قليلاً.
كانت تخشى أن تكون سمعتها السيئة قد وصلت إلى هذا المكان أيضًا.
الانطباع الأول هو كل شيء، هكذا كانت تقول دائمًا.
أرادت أن تُظهر للأساتذة هيئة وصيّةٍ راقية ومسؤولة،
وفي الوقت نفسه أن تترك انطباعًا جيدًا لدى إيان—
حتى لو كانت في المستقبل “عمّته بالزواج” لا أكثر.
أما أمام إيان نفسه، فكان الأمر أعمق.
إنه ابن الرجل الذي كانت تحبه بجنون في حياتها الماضية.
“تُرى، كيف يكون؟”
فكّرت وهي تسير بخطواتٍ هادئة بين مباني الأكاديمية.
إن كان يحمل دم آل باييرن، فلا شك أنه جميل الطلعة.
لكن ماذا عن طباعه؟ هل هو هادئ أم متكبّر؟ وكيف هي دراسته؟
إن كان يشبه آش في شخصيته، فسيكون كقطٍّ أسود أنيق، حادّ النظرات، صعب المراس.
ابتسمت لنفسها: “ربما عليّ أن أناديه ميني-آش!”
تأملت الساحة الخضراء المزدانة بالأشجار، والمباني البيضاء الفخمة ذات النوافذ المقوّسة.
بالفعل، كانت الأكاديمية جديرة بلقبها العريق.
حتى من الخارج فقط، يمكن الشعور بقيمة الرسوم الباهظة التي يدفعها الطلاب هنا.
“هل تعرف إلى أين نذهب لنصل إلى فصل إيان؟” سألت وهي تلتفت إلى آش الذي كان يسير بصمتٍ إلى جوارها.
“أعرف.” أجاب بصوتٍ مقتضب.
“إذن، تفضل بالقيادة، يا دوقي.”
كان وجهه جامدًا، والعضلة الممتدة على عنقه بارزة من شدّ التوتر.
نظرت إليه نينا بدهشةٍ خفيفة.
“حقًا؟ هذا الرجل الذي لا يتأثر بشيء عادةً… يبدو عليه القلق!”
وجوده بجانبها، وهو أكثر توترًا منها، جعلها تهدأ على نحوٍ غريب.
“يا إلهي، كيف كنتُ أجرؤ في حياتي السابقة على التورط مع شخص كهذا؟”
وبينما كانت توبّخ نفسها سرًّا، اقتربت منه قليلًا وهمست بثقةٍ ناعمة:
“حتى لو شعرت بالتوتر أو الحرج، لا تقلق. سأهتم أنا بكل شيء.”
فمهما كان اللقاء الأول بينهم محرجًا، كانت نينا مستعدة لقيادته بنعومةٍ وذكاء.
ابتسمت بثقةٍ رقيقة.
لكنها لم تكن تتخيل أن أول لقاءٍ لها مع ابن اخو زوجها لن يكون في قاعةٍ مشرقة ولا في حديقة المدرسة…
بل هنا—في غرفة الأساتذة.
حين اخترق صوتها الهادئ المشهد المتوتر، كانت تقف أمام الجميع،
نظرتها باردة كالسيف، وإيان خلفها بخطوةٍ واحدة فقط.
“هذا غير عادل، أستاذي. لماذا تطلب من إيان الاعتذار؟”
التعليقات لهذا الفصل " 30"