“مولاي… إن كتبتم لي تعهّدًا خطيًّا هنا والآن، فسوف أضمن أن أستخلص من ابني ما تطلبونه من أدلة واعترافات.”
عندها التوى طرف شفتي آش دي باييرن في ابتسامة ساخرة، ازدراءً لجرأته الوقحة:
“وأي حق لك أن تطلب منّي مثل هذا؟”
“لـ… لكن، لا بدّ لي من ضمانٍ أيضًا…”
عندها انكمش بريق عيني آش الحادّتين قليلًا. وأدرك الفيكونت أنّه لو أضاف كلمة أخرى لذهبت فرصته الوحيدة في النجاة أدراج الرياح. فما كان منه إلا أن تراجع بخنوع:
“آه، أفهم. سأطيع رغبة جلالتكم… فأرجو أن تحفظوا وعدكم.”
أومأ آش برأسه، ثم أشار بيده علامة على انصرافه. فما كان من كورتني إلا أن أسرع يجمع الأوراق المبعثرة أمامه كمن يتمسّك بقشّة في بحر هائج. وكأنّ انحناءه فوقها سيجعل خطاياه تختفي، يا له من مشهد يبعث على السخرية.
“مثير للشفقة، أليس كذلك؟” تمتم هوشي، وهو يراقب ظهر الفيكونت يختفي مسرعًا. “لا يدرك أنه باع مستقبل ابنه الأصغر كي يؤجّل سقوط أسرته، ويشعر براحة زائفة كأنه نجا بالفعل.”
زمجر آش وهو يجيب، كمن يعضّ على كلماته:
“لو لم يكن أحمق، ما كان ليتجرأ على مثل هذه الألاعيب.”
لم تُحسب الخسائر التي تسبّب بها كورتني بعد، لكن المؤكد أنها ليست بالهيّنة. ومع ذلك لم يطالبه آش بتعويضٍ مباشر؛ لأنه في عرف الدوق، قول ذلك لا يعني سوى: “اختر بنفسك بأي طريقة تفضّل أن تموت.” وما كان هذا وقتها. لم يكن ينوي أن يتحمل الخسارة وحده.
“على أي حال، إن بلغ الخبر إلى سيدتي، فسوف تتأذى كثيرًا.”
كان آش قد نهض، وأخذ يرتّب سترته بحركة معتادة، لكنه توقّف عند كلمات هوشي.
“إنها تبذل جهدًا مضنيًا لتظهر لكم أنها تغيّرت، بينما أنتم تُهيّئون لها خنجرًا خلف الظهر… مؤسف حقًا.”
ابتسم آش ببرود، وكأنّه يسخر من جرأة مساعده. (أيُعقل أن يكون قد نسي مَن هو سيده؟).
“ينبغي أن أكون مستعدًا لأي طارئ.”
ذلك ما قاله لنفسه. فبعد أن وعدته زوجته بالتغيير، أظهرت بصدقٍ علامات سعيها لتكون مختلفة، بل ضحّت بجسدها وصحتها لتُنقذه. كان من الممكن أن يثق بها مرة واحدة. لكن أن يُخدع مجددًا؟ أن يُفاجَأ بضربة من الخلف؟ ذلك ما لا يقبله. الأفضل أن يكون لديه ورقة مواجهة يخبئها في جيبه. وإلا فكيف يحمي مكانته هذه؟
“مع ذلك، سيدتي تخطّط لخطة محكمة هذه المرة. ألا تحملون لها شيئًا من الثقة؟”
حدّق آش في هوشي بدهشة لا تخلو من الغضب، كأنّه يسمع كلامًا لا يصدّقه. (أمجنون هذا الرجل؟ منذ متى وقف في صفّ نينا ضدي؟).
(لا فائدة من إطعام الوحوش. كل ما أجنيه منها خسارة).
كان واضحًا أنّه التقط ضعفه الخفي، ذلك الإحساس بالذنب الذي ما كان ليشعر به قبل فترة وجيزة لو أن الأمر يتعلق بالتخلّص من نينا. والآن صار يبتسم بخبث ليمتحنه.
آش، وقد كبح غضبه، أجاب بلهجة عابرة:
“من يدري؟ ربما أحتاج تلك الورقة بعد الطلاق.”
وكان صادقًا في ذلك. فعلى الرغم من أن علاقتهما توترت، إلا أنّ الجميع يعرف كم كان كبير القضاة وزوجته دوقة تايلور يُدلّلان نينا. فإذا لم تعد تتصرّف بطيش كما في الماضي، فسرعان ما سيعود دفء العلاقة بينهم. وحينها، حتى إن وافقت نينا على الطلاق، فلا أحد يضمن ردة فعل تلك العائلة.
ثم أي فرصة أثمن من الإمساك بموطن ضعف بيتٍ عريق كآل تايلور؟ لا بدّ من اقتناصها متى سنحت.
ضحك هوشي وهو يلوِي خصلات شعره الأبيض بين أصابعه:
“سنرى. الأمر رهن المستقبل.”
“ماذا تعني؟”
تأمّل آش مساعده وهو يبتسم بمرح طفولي مشاغب.
“هناك أمور… لن تكشف إلا في حينها.”
وكعادته، كلما شمّ رائحة متعة أو مكيدة، صار يتفوه بكلام غامض ويضحك، كأنّ العالم كله مسرحٌ ممتع لا يريد مغادرته.
—
ومن الأسباب التي تدفع الناس إلى تجنّب الاستعانة بمحامين، أصل هؤلاء ونسبهم.
فالغالبية الساحقة من رجال القانون هم من أبناء الأسر النبيلة، ومعهم يتسلّل شعور بالتفوق ونزعة نُخبوية تُرهب الموكّلين من عامة الشعب وتُثنيهم عن طلب العون.
لكن السبب الأكبر في الحقيقة…
“المال. قضيتي ومالي على المحك، فما يهمّني إن كان المحامي نبيلاً أو عاميًا؟ الحقيقة أنني أُحجم لأن أتعاب المحاكم باهظة، والإجراءات طويلة ومعقّدة، حتى يملّ المرء ويستسلم قبل أن يبدأ.”
المال، هو بيت القصيد.
“المال، إذن…”
تمتمت نينا وهي تتذكر حديثها مع هوشي الذي زارها بعد الظهيرة، وأصابعها تعبث بسطح ذقنها بتوتر. في البداية، كانت تنوي أن تكتفي بالتحضير لشرح النقاط التي ينبغي الانتباه لها في الاستشارات القانونية وبعض الحيل المتعلقة برفع الدعوى، لكنها أدركت فجأة أنّ عليها التفكير أولاً في كيفية تقليل النفقات المرافقة لمثل هذه القضايا.
وأول ما خطر في بالها: أجرة الاستشارة.
“تخيّل، لقاء لا يتجاوز وقت شرب فنجان شاي، ومع ذلك يطالبون بثلاثين سيلفر!”
ثلاثون سيلفر.
“بالمقارنة مع زمننا الحاضر، فذلك يعادل ثلاثمائة ألف وون مقابل خمسة عشر إلى عشرين دقيقة فقط…”
حتى المحامون في أكبر مكاتب المحاماة وأشهرها، حين يتقاضون أجوراً باهظة، فإنهم يقدّمون استشارة لا تقل عن ساعة كاملة. صحيح أن النبلاء من النخبة لن يبيعوا وقتهم بثمن بخس، لكن مهما فكرت، يظل المبلغ مبالغاً فيه إلى حد غير معقول.
وما لم يتضمن ذلك المحاضرة طرقاً لتقليل النفقات المرافقة للدعاوى إلى جانب الحيل القانونية، فجدواها ستكون منعدمة تماماً.
“إن كان متوسط أجر الاستشارة حقاً ثلاثين سيلفر، فالأجدى بي أن أترك هذا الموضوع جانباً وأتخذ من آداب النبلاء مادة لمحاضرتي، كما يفعل غيري…”
لكن حتى إن وجدت حلاً لمسألة أجرة الاستشارة، فماذا عن رسوم البدء في الدعوى وأتعاب التوكيل؟
لا شك أنها ستكون أعلى بكثير.
أليس على حتى الميسورين أن يستعدوا للإفلاس بمجرد شروعهم في رفع قضية؟
ذلك ضرب من العبث.
كان سيكون رائعاً لو تمكنت من معرفة المبالغ التي يتقاضاها المحامون كأتعاب توكيل حسب نوع القضايا، لكن جمع مثل هذه المعلومات عبر استشارة فردية لكل حالة أمر مستحيل.
وبينما كانت نينا تفكر ملياً، قفزت إلى ذهنها فجأة ذكرى قديمة.
فتحت درجاً وأخذت تبحث فيه، حتى أخرجت من علبة مجوهراتها خاتماً محفوراً بختم. خاتم ضخم، ذكوري، لا يليق بعلبة حلي سيدة.
كان هو الخاتم الذي استعملته ذات يوم لعقد قرانها بزوجها.
“قالوا لي مراراً: إنه نفيس جداً، فلا تستخدميه إلا بحذر شديد…”
لقد منحها الخاتم زواجها، لكنه كان أيضاً بداية سلسلة من الكوارث. لمعت في قلبها نوبة مريرة من الندم، لكنها سرعان ما أزاحتها.
“سأستعمله مرة واحدة، في أمر حسن، ثم أعيده إلى جدي.”
فكما أن التجار يؤسسون اتحادات فيما بينهم، كذلك للمحامين “جمعية”.
جمعية المحامين.
قد تختلف عن نقابات المحامين الحديثة في طبيعتها ووظائفها، لكن…
“على أي حال، إن تمكنت من الحصول على مساعدة رئيس الجمعية، فربما أتمكن من معرفة الأسعار المعقولة أو المتوسط التقريبي للأتعاب.”
وبينما تتشبث بأمل أن تتلقى جواباً يشفي غليلها، بدأت نينا تكتب طلباً رسمياً موجهاً إلى رئيس الجمعية في دوقية باييرن.
كانت واثقة أنه قد سمع الكثير من الشائعات السيئة عنها:
الوصمة الوحيدة في تاريخ آش دي باييرن.
عار القاضي الأعلى.
فضيحة أسرة دوق تايلور.
وإذ كانت تستعين به، وهي تدرك أنه يحمل ضدها أحكاماً مسبقة، فقد خطت كلماتها بحرص شديد، جملة بعد جملة، غاية في الأدب واللطف.
أوضحت أنها تحتاج هذه المعلومات لا لشيء سوى للمشاركة في مناسبة خيرية تنظمها العائلة الإمبراطورية، ورجته أن يقدّم لها العون.
وأقسمت في الطلب أنها لن تستخدم تلك المعلومات لأي غرض شخصي آخر.
بهذا، بدا الطلب مثالياً من كل وجه.
وأضافت إليه التماساً بأن يرشح لها محامين مناسبين لدعوى جيني ويونا، وفاءً لوعد قطعته عليهما.
لقد ضمّت رسالتها كل ما تحتاجه.
“حسنٌ.”
ما إن ختمت الطلب وخبأته في ظرف لتبعث به، حتى لوّحت بيدها المتعبة لتخفف من وجع معصمها، ثم مشت نحو خزانة الأدراج.
“هممم…؟”
هناك، لفت نظرها ظرف صغير بارز من أسفل الخزانة.
“ما هذا؟”
انحنت والتقطته. بدا غير مألوف لديها، مما يعني أنها أسقطته سهواً أثناء مراجعتها لرسائلها.
“متى وصل يا ترى…؟”
نظرت إلى الجهة الخلفية من الظرف بحثاً عن المرسل.
“أكاديمية سانت هينيج…؟”
أليست هذه هي الأكاديمية التي يدرس فيها ابن أختها، إيان؟
هل حدث له أمر ما؟
“على حد علمي، لم يقع شيء… لا، لا ينبغي أن أثق بالذاكرة ثقة عمياء.”
ألم يخطر لها، بالصدفة، حادث أسرة غرينفيل؟
فما الذي يعنيه هذا الخطاب إذن؟
أخرجت سكين الرسائل وفتحت الظرف بسرعة. كان يحتوي بطاقة سميكة فاخرة.
[إلى أولياء الأمور المحترمين،
مع اقتراب العطلة الصيفية، يشرفنا أن ندعوكم لحضور المهرجان الفني السادس والثلاثين لأكاديمية سانت هينيج…]
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات