أكاديمية “سانت هينيج” هي مؤسسة عريقة أُنشئت في شرق إمبراطورية نِسمان، بتمويل من بيت المركيز هينيج.
كان أغلب طلابها من أبناء الأسر النبيلة، فيما عدا قلة من العامة الذين التحقوا إمّا بفضل منحة دراسية، أو برعاية أحد النبلاء.
تتراوح أعمار الطلاب بين التاسعة والثانية عشرة. ورغم أنّ النظام الدراسي يُقسَّم في الأساس حسب العمر، إلا أنّ وجود نظامي الرسوب والتسريع جعل من الممكن أن يختلف العمر عن مستوى الصف في بعض الأحيان.
“يا رجل، أتراك تدرس حتى في وقت الغداء؟”
رفع الفتى رأسه عند سماع الصوت، فبانت ملامحه الهادئة، شعره الأسود وعيونه الرمادية الصافية. كان “إيان” يواجه “ريتشارد وولبرني”، ذي الشعر والعينين بلونٍ ضارب إلى الحمرة، وقد اقترب منه حتى كاد وجهه يمسّه.
“…يتظاهر بالود مجددًا.”
فكّر إيان في نفسه، لكنه أظهر ابتسامة مهذبة وقال:
“إن أردت اللحاق بالدروس فلا بد أن أدرس بجد. أنت تعرف أنني قفزتُ صفًّا.”
إيان في العاشرة من عمره، بينما ريتشارد في الحادية عشرة. الفارق بينهما عام واحد، لكن بما أنّ إيان تقدّم إلى الصف التالي، صار الاثنان في الصف نفسه.
“صحيح، إن كنت قد قفزت صفًّا بالحظ ثم فشلت في تحصيل الدرجات، فسيكون الأمر محرجًا فعلًا.”
ابتسم إيان بخفوت في داخله. هو الذي دخل الأكاديمية في المرتبة الأولى وظلّ متصدّرًا نتائج الاختبارات، بينما لم يتجاوز ريتشارد سوى المتوسط. ومع ذلك يتحدث عن “الحظ”! أيُّ سخرية أبسط من هذه؟
“أخي، عليّ أن أدرس. إن لم يكن لديك أمر مهم، فلنؤجّله إلى وقت لاحق.”
“مهلًا، ألا تملّ من الدراسة الدائمة؟ دعك من هذا، فما زال وقت الغداء طويلًا، فلنخرج ونلعب قليلًا.”
“همم… لست متأكدًا.”
“أو نذهب إلى المقصف؟”
قال ريتشارد وهو يلقي ذراعه على كتف إيان. لزم إيان الصمت لحظة.
“لماذا يبالغ في إظهار الود هذه الأيام؟”
كان ريتشارد في العادة لا يترك فرصة إلا وافتعل شجارًا معه.
إيان، بعمر العاشرة، أطول من أقرانه بنصف كفّ، بملامحه المرتّبة وابتسامته الآسرة، ثم هو وريث دوقية باييرن، وصاحب ثروة طائلة ورثها عن والديه الراحلين. أضف إلى ذلك تفوّقه الدراسي وطباعه الطيبة. لم يكن غريبًا أن يجذب الانتباه منذ لحظة دخوله، حتى من طلاب أكبر منه سنًّا.
أما ريتشارد، فهو وإن كان الحفيد الأكبر لبيت المركيز وولبرني، إلا أن سمعته في المدرسة لم تتجاوز “الفتى المتغطرس المثير للمشاكل”. أصغر حجمًا وأقصر قامة من إيان، كثيرًا ما بدا مهووسًا بالغيرة، مثقلًا بعقد النقص.
والآن، بعدما كان لا يكف عن المناكفة، صار فجأة يتودّد؟ لا بد أن وراء ذلك غرضًا خفيًّا. وربما يجدر بإيان أن يسايره قليلًا ليعرف مبتغاه، وإن كان الأمر يبعث على الضجر.
بينما كان إيان يتردّد، سأله ريتشارد بخفة:
“بالمناسبة… دوق باييرن. صحيح أنه لن يحضر مهرجان هذا العام أيضًا؟”
بمجرد أن نطق بالاسم، انكمشت أعصاب إيان كما لو شُدّت أوتار مشدودة.
“ماذا عن عمي؟”
قالها بابتسامة ما زالت ثابتة على شفتيه، وإن كان قد أدرك للتو أن ما سيقوله ريتشارد الآن هو لبّ سبب تقرّبه منه مؤخرًا.
“أردت فقط أن أتأكد. فهو لا يحضر أبدًا، ويرسل ذاك المساعد ذو الشعر الأبيض بدلاً عنه.”
“إن كان مشغولًا فلن يستطيع المجيء، وإن لم يكن مشغولًا فسيحضر. أنت تعرف أن لعمي الكثير من المسؤوليات.”
“لكن، ألا ترى أن الأمر مبالغ فيه؟ كوصيٍّ عليك، ألا يجدر به أن يوليك اهتمامًا أكبر؟”
ابتسم إيان بخفة.
ها قد ظهرت نوايا ريتشارد التي كان يلمسها منذ البداية.
“ربما محق.”
“أنت لا تعود إلى منزلك حتى في العطل، بل تذهب إلى بيت أخوالك. هذا يشبه الإهمال… بل هو إهمال صريح.”
“صحيح. وماذا في ذلك؟”
قال إيان مائلًا رأسه قليلًا. وهنا ألقى ريتشارد جملته الحاسمة:
“لماذا لا تغيّر الوصيّ؟”
“أخي، الوصيّ تعيّنه المحكمة. كيف لي أن أغيّره؟”
“بسيطة. إن قلت إن دوق باييرن يهملك ولا يهتم بك، فسيتدخل الكبار ويجدون لك بديلًا. صدّقني، سيكون أفضل لك كثيرًا.”
“همم… وإن غيّرته، فمن سيكون البديل برأيك؟”
“لديك قريب… أظنه عمّك الأكبر؟ على كل حال، ابن الكونت أثلوت.”
“آه.”
أثلوت، الكونت.
“يا بُني، لا يجوز لك أن تثق بذاك اللعين آش. إنّه بلا شك طمع في ثروة أبيك فقتله بدم بارد. تعالَ إذن إلى بيت جدّك الأكبر.”
أمام الناس يتظاهر بالطيبة.
“… علينا أن نلاطف الصغير قليلًا، نكسب ثقته وننال حق الوصاية عليه، ثم نحوّل ثروته إلى جانبنا. وما الذي يعرفه طفل في مثل سنّه؟”
أما في الخفاء، فما هو سوى لصّ طمّاع يسعى لابتلاع ميراث والده.
(إذن، هذا هو السبب الحقيقي وراء تودّد ريتشارد… الكونت أثلوت).
وبمجرد أن تبيّن له الأمر، ارتسم على ملامح إيان تعبير بارد خالٍ من أي اهتمام وهو يقول:
“سأفكر في الأمر.”
لكنها لم تكن سوى كلمات. فالحقيقة أنّه يكره الكونت أثلوت أشد الكراهية، ولا يثق بأي راشد في العالم سوى خاله الوحيد.
—
قصر دوق باييرن، قاعة الاستقبال.
رجل في أوائل الستينيات من عمره جلس متوتّرًا. إنّه الفيكونت كورتني، وقد كان يمرّر كفّه المبتلّ بالعرق البارد على ركبته، بينما يراقب الدوق الشاب آش دي باييرن يحتسي الشاي برصانة وأناقة.
لقد مضت دقائق طويلة منذ تبادلا التحية الأولى، والدوق يلتزم الصمت تمامًا. ومع أنّ ملامحه بدت عادية، إلا أنّ كورتني شعر وكأن جبلًا يجثم فوق صدره. فهو يعلم في قرارة نفسه أن ثمة ما يخفيه.
(لا يكون قد اكتشف الأمر…؟)
كل عام مرتين، تقام مناسبات وطنية كبرى يتكفّل النبلاء بمدّ يد العون لها. كبار الأمراء يقدّمون نصف التبرعات على الأقل، والبقية يتكفّل بها النبلاء من طبقته. وبما أنّ كلًّا يسعى لنيل رضا البلاط الإمبراطوري، فالتبرع بأكبر كمية ممكنة صار عرفًا بينهم.
لذا، عمد إلى مزج غلال قديمة متعفّنة بغلال طازجة وأرسلها.
(لا، لا يمكن أن يكون قد كُشف الأمر. لقد مرّت سنوات ولم يثر أحد شكوكًا…).
لكنّه ما كان ليُستدعى إلى هذا اللقاء، ولا ليُترك في الانتظار ساعتين كاملتين لولا أنّ شيئًا ما وقع بالفعل. حاول أن يهدئ قلقه، إلا أنّ الصمت الذي سيطر على القاعة كان خانقًا. حتى لم يجد بُدًّا من الكلام.
“جلالتكم… أيمكنني أن أسأل عن سبب استدعائي؟”
طَق.
وضع آش فنجانه على الطاولة ببطء وقال بنبرة باردة:
“أما تعرف؟”
“أ… أعذرني يا مولاي، ولكن لا يخطر ببالي أي أمر بعينه…”
لقد منحه فرصة ليعترف طواعية. لكنه اختار دفن رأسه في الرمال. يا له من أحمق.
“أيها المساعد.”
بإشارة من آش، تقدّم هوشي من خلفه وقدّم ملفًا إلى الفيكونت.
“ماذا… ما هذا؟”
وبينما تناول الملف، أخذت يد كورتني القوية ترتجف كغصن في مهبّ الريح. لم يكن يريد أن يصدق، لكن المستندات أمامه لا تكذب.
إنها أدلّة تثبت أنّ شحنته من الغلال الفاسدة قد سبّبت كارثة في مخازن الدولة.
“مستحيل! هذا افتراء سخيف، جلالتكم! لا أعقل أن أكون قد…!”
سنوات وهو يتلاعب بلا عواقب، حتى خُيّل إليه أنّ الأمر مأمون. كم يودّ لو أنّه استمع إلى نصيحة مستشاره حين حذّره هذه المرة بالذات من المخاطرة.
“كنت أعلم أنك ستنكر، لذلك أعددت ما هو أوفى.”
ابتسم هوشي ابتسامة وادعة، ثم أخذ يضع وثيقة تلو أخرى أمامه. ورقة، ثم ثانية، ثم ثالثة… حتى تكوّم كومة صغيرة من الأدلة. ومع كل صفحة، ازداد لون وجه كورتني شحوبًا، حتى غدا أشبه بالرماد.
“ه… هذ… هذا… كيف حصلتم على هذا؟”
كانت الملفات مليئة بالفساد الذي سعت أسرته طويلًا لدفنه. والآن صار مكشوفًا تمامًا.
فضيحة كهذه كفيلة بمصادرة أملاكه وتخفيض رتبته إلى مجرد بارون، وربما الحكم عليه بالأشغال الشاقة.
“قل لي، وأنت لست مجنونًا، بأي عقل ارتكبت مثل هذه الحماقة؟”
تسلّل صوت الدوق الناعم والمتثاقل إلى ذهنه المذعور، وكأنّه خيط يطوقه بلا فكاك. لم يعد هناك مهرب.
بروح مستسلمة، سأل كورتني بصوت واهن:
“مولاي، ما الذي تريدونه مني…؟”
“قبل عامين، المحاكمة التي أسندت وصاية أحد الورثة إلى ابنك الثاني… أريد الدليل، ومعه اعتراف خطي بأن خالي الأكبر قد تدخّل فيها.”
“ه… هذا مستحيل!”
“قدّمه لي، وسوف أدفن هذه القضية إلى الأبد. بل وسأتغاضى عن فساد آل كورتني برمّته.”
ارتجفت عينا الفيكونت بالشك.
(أتراه جادًّا؟ مقابل هذا فقط؟)
ما بين مستقبل ابنه الثاني ومصير الأسرة كلّها، ما الحاجة إلى الموازنة؟
ففي هذا العالم، حيث لا يرث إلا الابن الأكبر، سقوط الابن الثاني لا يُعدّ سوى تضحية بديهية. أجل، حتى وإن تحطمت حياته المهنية كقاضٍ مرموق، فذلك أهون من أن تسقط سلالة بكاملها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات