بعد عودتها من نزهة الصباح، دخلت نينا غرفتها تستقبل الخادمات الواقفات عند الباب بابتسامة متكلفة تحمل شيئًا من الحرج.
“أهلاً بكنّ، كنت بانتظاركن.”
تبادلت الخادمات نظرات متسائلة قبل أن تنطق إحداهن:
“لكن… لمَ استدعيتِنا يا سيدتي؟”
“لدي بعض الطلبات الصغيرة، وأردت مساعدتكن فيها.”
“طلبات؟”
مرّت على وجوههن نظرة خاطفة تحمل ضيقًا وشيئًا من التبرم، كأنهن توقعن ذلك منذ البداية.
ونينا، وقد أدركت جيدًا ما دار في خواطرهن، لم يكن أمامها سوى أن تتقبل الأمر. فهي من زرع مثل هذا الانطباع، ولا بد أن تتحمل ما نتج عنه.
قالت، وهي تبتلع مرارة شعورها:
“سمعت من رئيسة الخدم أن بعضكن تورّط مؤخرًا في دعوى قضائية. هل واجهتن صعوبات أثناء متابعة الإجراءات؟”
قبل ذلك بنصف ساعة تقريبًا، وبعد أن عادت إلى غرفتها، كانت قد سألت ميلاني إن كان بين الخادمات من خاض تجربة المحاكم، أو لديهن أقارب مرّوا بها. ورئيسة الخدم، بما أنها المسؤولة عن التوظيف والإجازات، كانت الأقدر على معرفة أحوال أسرهن. وهكذا وقع الاختيار على جيسي ويونا.
تأملت نينا نظراتهما المترددة المتبادلة، ثم تابعت:
“ربما تعلمان أن سيدات المجتمع في الحفل الخيري ينقلن إلى عامة النساء شيئًا من معارفهن المنزلية، أشياء أشبه بما يدوَّن في كتب التدبير المنزلي. لكنني لا أريد أن أطرح موضوعًا من هذا النوع.”
كان الحفل الخيري الإمبراطوري يقام مرتين في السنة. ولم يكن مجرّد وليمة لتوزيع الغداء والعشاء على الفقراء، بل كان أيضًا مناسبة يقدّم فيها الطبقة الحاكمة ما تظنه “معارف نافعة” لطبقة المحكومين.
غير أن المواضيع التي تخرج من عقول النبلاء، الذين لم يختبروا حياة العامة يومًا، لم تكن سوى عناوين متوقعة:
كيف تحافظ الأسرة على الوئام.
كيفية اختيار أوراق الشاي الجيدة.
طرق انتقاء المكونات الطازجة أو وصفات مأخوذة من بيوت النبلاء… وما إلى ذلك.
ومهما يكن، فمثل تلك المعلومات ليست عديمة الفائدة تمامًا. لكن هناك كثيرات غيرها قادرات على تقديمها. أما هي، فكانت تفكّر في مسار مختلف.
“جدي كان قاضي القضاة، وأنا حفيدته. لهذا أود أن أقدّم للناس شيئًا يتعلق بالاستشارات القانونية أو بكيفية التعامل مع الدعاوى القضائية. لكن كي أنجح في ذلك، لا بد أن أعرف أولًا أي المواضع هي الأكثر صعوبة حين يطلب الناس الاستشارة.”
تغيّرت ملامح جيسي، وترددت قليلًا قبل أن تجيب:
“لو كان الأمر كذلك، فنحن نود مساعدتك، لكن الدعوى الخاصة بنا لم تُعرض على المحكمة بعد…”
“لكن لا بد أنكن طلبتن استشارة قانونية على الأقل؟”
“حتى ذلك، لم نفعل بعد…”
“ألم تتسلمن عريضة الدعوى بعد؟”
ترددت جيسي ثم قالت بصوت منخفض:
“في الواقع… لم نستلم أي عريضة. بل نحن مَن ينبغي أن يرفع الدعوى. لكن المال لا يكفي، وفكرة الاستشارة نفسها تخيفنا بعض الشيء…”
كان معظم المحامين هنا من أبناء بيوت النبلاء. وفي عالم تحكمه الفوارق الطبقية بوضوح، بدا طبيعيًا أن يشعر العامة بأن أبواب مكاتب المحاماة أعلى من أن تطالهم.
لكن نينا فكرت بقلق:
“أن يصل بهم الأمر إلى الخوف حتى من الاستشارة نفسها… هذا خطير.”
واستشعرت كم بدا القانون بعيدًا ومنقطعًا عن حياة هؤلاء الناس.
قالت بنبرة مطمئنة:
“إذن، ما رأيكن أن أساعدكن على خوض تجربة الاستشارة هذه؟”
“ماذا؟”
اتسعت عينا الفتاتين دهشة.
“أريد فقط أن أعرف أي الأمور تكون صعبة حين يطلب المرء المشورة. فأنا، بحكم سماعي الكثير من جدي، ألفتُ القوانين نسبيًا، ولا أستطيع أن أفهم معاناتكن ما لم أسمعها منكن مباشرة.”
قالت يونا مترددة:
“إن كنتِ ستساعديننا فنحن ممتنّات، لكن… هل سنكون حقًا عونًا لكِ يا سيدتي؟”
“بلى، ستكونن كذلك. لا تقلقن من هذه الناحية. ثم… يبدو أن من سيعيننا قد وصل للتو.”
التفتت نينا نحو الظل الذي بدا من خلف كتفيهما وقالت:
“البارون سامردن؟”
تأرجح الظل للحظة كأنه اهتز، ثم اختفى.
“…البارون؟”
أهو ليس هوشي؟
نهضت نينا من مكانها متعجبة، وإذا به يطلّ فجأة برأسه ويقول:
“هاهاها، هل انتهيتن من الحديث؟”
قالت بحدة:
“إن كنت قد وصلت، فلِمَ لم تدخل؟ ماذا كنت تفعل واقفًا هناك؟”
ابتسم ابتسامة باهتة وأجاب:
“خشيت أن أقطع حديثكن، فانتظرت حتى تنتهين.”
“مضحك!” فكرت نينا بغيظ.
ها هو ذا، حقًا لا يُنكر أنه من خاصّة زوجها. كان واقفًا عند الباب يتنصّت، لا لشيء إلا ليتأكد إن كانت تُدبّر شيئًا وراء ظهره.
نينا، غير آبهة بما جرى أو بما قد يظنه الآخرون، نهضت من مقعدها دون أن تُبدي أدنى انزعاج وقالت:
“على أية حال، يقولون إن الحديد يُطرق وهو ساخن، فلنذهب الآن حالًا لطلب الاستشارة.”
“أ… أحقًا، البارون سمرْدن سيساعدنا نحن؟”
كيف لمعاون دوق باييرن أن يتدخل في شأن كهذا، ولماذا أصلًا؟
ارتسم الاستفهام في سؤال جيسي، فأجابت نينا بوضوح لا يقبل التأويل:
“إنه ليس ليساعدكم مباشرة، بل ليشهد خطواتكم في الاستشارة، ويتابع كيف يجري الحوار.”
فهو سيحلّ محلها في مراقبة طريقة المحامي وكيفية تجاوبهما، ليستخلص مواضع الخلل. أما هي، فوجهها معروف أكثر مما ينبغي، ولا بد أن يلفت الأنظار. لكن البارون سمرْدن يستطيع أن يخفي هويته ببساطة، يكفي أن يضع شعراً مستعارًا عشوائيًا أو ينزع نظارته ليبدو شخصًا آخر. ثم إنه بحكم خدمته دوق باييرن، واطلاعه على مئات العقود وتعاملاته الكثيرة مع المحامين، أهلٌ لأن يؤدي الدور الذي تنتظره منه.
—
وخلال الطريق إلى المدينة، وجدت نينا الفرصة لتعرف تفاصيل أوفى عن وضع جيسي ويونا.
فجيسي كانت حتى الآن ترسل مالًا بانتظام إلى أخيها الأصغر، لتكفل به والديها المسنين البعيدين، غير أنها اكتشفت مؤخرًا أن والديها قد توفيا منذ نصف عام. ظلت طوال تلك المدة تواصل إرسال المال، جاهلة بالحقيقة، حتى بلغها الخبر أخيرًا. ولهذا، وقد نال منها شعور بالخيانة من أخيها، أرادت استرداد ما دفعته طوال تلك الشهور.
أما يونا، فأخبرت أن أختها الكبرى اشترت متجرًا، غير أن المالك السابق يصرّ الآن أنه لم يتسلّم ثمنًا، ويُشدد على ادعاءاته بوقاحة.
قصص كهذه اعتادت نينا أن تراها في نشرات الأخبار أو على صفحات الإنترنت، وها هي تسمعها في هذا العالم أيضًا.
“مهما تغيّرت الأمكنة، دائمًا هناك من يستحق أن يُسمّى قمامة، أليس كذلك؟”
بعد أن أوصلت جيسي ويونا ومعهما هوشي إلى مكتب المحاماة، جلست نينا باسترخاء في أحد المقاهي تحتسي شايًا مثلجًا، تتمتم في سرّها. لكن نظرات مارشا المباشرة جعلتها ترفع حاجبًا باستفهام.
“ما الأمر؟”
“لا شيء… فقط أرى أن سيدتي تغيّرت كثيرًا.”
“آه…”
“ولست أعني ذلك على نحو سيئ. لكن فيما مضى، لم يكن يعنيك شيء سوى الدوق وحده. أما الآن…”
مارشا ابتسمت ابتسامة خجولة كأنها تفرح بما تراه من تبدل.
‘حقًا، لقد تغيّرت كثيرًا…’
ففي حياتها السابقة، حين بلغ الشقاق بينها وبين زوجها أقصى مداه، كانت تصبّ سخطها على الخدم وتُعاملهم بقسوة.
“لكن… من أنا لأقول ذلك؟”
فهي أيضًا لم تكن في نظر الآخرين، وخاصة زوجها، سوى قمامة.
باغتها هذا الخاطر، فشعرت بالخجل يكسو وجهها بحرارة، فهزّت يدها أمام وجنتيها كأنها تبردها، ثم تمتمت بغير اكتراث ظاهر:
“لا بد لي من أن أتغيّر. لا يمكن أن أعيش حياتي كلها هكذا، في فوضى لا تنتهي.”
بل عليها، وإن كان البداية رديئة، أن تكتب خاتمة لائقة لتاريخها بصفتها دوقة باييرن. أجل، من أجل الذين تضرروا بسببها أيضًا.
قالت مارشا: “أما أنا فأرى أن سيدتي تغيّرت فعلًا كثيرًا. ولو أنك فقط تعودين دون أن تُصابِي بأذى في كل مرة تحاولين فيها نجدة أحد، لكان كل شيء مثاليًا.”
ابتسمت نينا وقالت بثقة: “لن يحصل شيء من ذلك. فأنا أعلم قيمة حياتي جيدًا.”
رنين.
انطلقت أجراس الباب الصغيرة، فالتفتت نينا نحو المدخل. وكان الثلاثة قد أنهوا الاستشارة، وها هم يتقدّمون نحوها.
“أعتذر عن الإبطاء.”
“كيف جرت الاستشارة؟”
“لقد زرنا خمسة مكاتب على التوالي، غير أن…”
قطع هوشي كلامه فجأة وهو يرمق جيسي ويونا المنكمشتين باضطراب.
“لماذا تتوقف في منتصف الحديث؟” سألت نينا.
حينها ارتسمت على شفتيه ابتسامة ملتوية، ورقصت في عينيه الزرقاوين، المختبئتين خلف جفونه نصف المغمضة، لمعةُ تسلية ظاهرة.
“أظنني الآن أفهم سبب اختيارك لهذا الموضوع بالذات، سيدتي.”
أي استشارة هذه التي أثارت فيه مثل هذا الانطباع؟ تساءلت نينا وهي تميل رأسها بتعجّب. فأكمل هوشي:
“لو كان لدينا أشخاص آخرون نجري عليهم التجربة لكان أفضل، لكن على الأرجح لن يختلف الأمر كثيرًا. لذا، سأقصّ عليكِ التفاصيل في طريق العودة.”
“حسنًا، فلنفعل ذلك.”
ارتشفت نينا ما تبقى في كأسها من الشاي المثلج حتى آخر قطرة، ثم نهضت واقفة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات