لا يكاد يخلو إنسان من ذكرى واحدة على الأقل، يتمنى لو يتبخر معها كذرة غبار ضائعة في الفضاء ما إن يستحضرها.
ونينا أيضاً لها مثل تلك الذكريات… لكن مشكلتها أنها لا تملك ذكرى أو اثنتين فحسب، بل الكثير، إلى حدّ لا يُحصى.
“آه…”
أصدرت نينا – أو بالأحرى سويونغ – أنيناً مكتوماً وهي تخفي وجهها بين كفيها.
أن تستيقظ من النوم فتجد نفسها قد عادت إلى حياتها السابقة؟
كيف لها أن تستوعب ذلك؟
قد يقول قائل إن من جرّبت أعجوبة أن تولد من جديد في العصر الحديث محتفظةً بكل ذكرياتها، لن يعجزها تقبّل هذا أيضاً.
لكنها لم تستطع سوى أن تصرخ بحرقة:
“لا… لا يمكن! هذا غير ممكن!”
فما إن خرج الطبيب وأكد أن حالتها طبيعية، حتى انفجرت بالبكاء والارتجاف، قبل أن ترفع رأسها بوجه يقطر حزناً ويأساً.
لقد عادت تحديداً إلى اليوم الذي يليه مباشرةً أسوأ أيام حياتها، اليوم الذي سجّل ذروة سواد تاريخها.
كان ذلك الزمن الذي أصبحت فيه سمعتها السوداء على كل لسان في المجتمع الأرستقراطي.
زوجة سيئة السمعة، مهووسة بزوجها حتى الجنون، مسرفة، متعجرفة، طاغية في البيت والصالونات.
ولم يكتفِ الناس بذلك، بل انتشر عن قريبٍ إشاعة تقول إنها توسّلت زوجها ليلة كاملة لينام معها، فصدّها ببرود.
والمأساة أنها لم تكن إشاعة… بل حقيقة.
الأولى – أي هوسها المرضي – هي ما فعلته طوال حياتها.
أما الثانية – توسّلها زوجها – فهي ما حدث تماماً في الليلة الماضية.
“لماذا؟ لماذا كان لا بد أن أعود تحديداً إلى هذا الوقت؟”
تمتمت نينا بوجهٍ شاحب وذهنٍ فارغ، فيما ذكريات ذلك الجنون تنهال عليها كالسياط.
كانت حينها امرأة فقدت رشدها أمام زوج لا يحبها.
دفعت الأموال لترشو الخدم كي يتجسسوا عليه. وإن لم ينفع المال، هدّدتهم وأمسكت عليهم نقاط ضعفهم حتى غدا كل بيتها عيوناً وآذاناً ترصد حركاته.
فتّشت أمتعته، تتبعت خطواته في الخفاء، تجرّأت حتى على ضرب النساء اللواتي تبادل معهن كلمة أو نظرة.
وما زالت تذكر خزي أفعالها السابقة، حتى لا تجرؤ على رفع رأسها.
لكن الليلة الماضية… سقطت إلى ما هو أدنى. ألقت بكرامتها وذرة كبريائها الأخيرة تحت قدميه، حين اقتحمت حجرته مترنحةً في سُكرها.
“ما… ما هذا المشهد المزري؟”
“لقد مرّ على زواجنا عامان كاملان! أليس من حقنا أن نقوم بواجباتنا كزوجين؟ إلى متى ستتركني مهمَلة؟”
“لقد قلت لك منذ البداية، حتى لو تزوجنا فلن يحدث بيننا أي شيء.”
“حتى لو كان ذلك وعدك… أيعقل أن ينام زوجان في سريرين منفصلين لعامين؟ هل تُخفي امرأة أخرى؟ أم تراك تميل إلى الرجال؟ وإلا فما السبب؟!”
قالها بعينين بارّدتين، ينظر إليها وكأنها غريبة تهذي:
“حتى جسدي لا يتحرك معك… فكيف تظنين أنني سأجامعك؟”
أي امرأة تسمع من زوجها أنه لا يجد فيها ذرة جاذبية، كيف يمكن أن تحتفظ بسلامة عقلها؟
“آااه! آآآه!”
عاثت نينا فوضى في حجرته، حطّمت ما وقعت عليه يدها، ثم اندفعت هائمة في الممرات تصرخ، قبل أن تهوي من فوق الدرج.
وهكذا انتهت ليلة الأمس.
“يا إلهي… سأجن حقاً.”
تمتمت نينا وهي تغسل وجهها بيديها الجافتين.
لم يعد هناك شك: هذا جسدها في حياتها السابقة.
بعثرت شعرها، قرصت وجنتيها، لكنها بقيت هي… لم يكن حلماً.
—
كان زواجها من دوق باييرن وليد مكيدة نسجتها بنفسها.
“سمعت أنكم خسرتم الدعوى حول وصاية ابن أخيكم… إن قبلتم الزواج بي، فسأساعدكم على الفوز.”
حينها كان قد فقد شقيقه غير الشقيق، وبقي الصبي اليتيم وحيداً، فتنازع حول وصايته الأقارب.
المحكمة كانت تميل إلى اختيار أوصياء متزوجين بدل العزّاب، فاستغل خصومه تلك النقطة ليطعنوا في أهليته.
وزادوا على ذلك باتهامه بأنه ابن زوجة ثانية، طامع في ميراث ليس له، خبيث يتربص بمال الصغير.
النتيجة: خسر في المرحلة الأولى من القضية، وخسر ثانية في الاستئناف. ولم يتبقَ أمامه سوى الجولة الأخيرة.
“وإن رفضت عرضك؟”
“ستخسرون مرة أخرى، بلا شك.”
“…إذاً أنتِ من عبث بالمحاكمة كلها.”
نعم. كانت هي.
استغلت اسم جدها، أحد قضاة الإمبراطورية الكبار، لتضغط على المحكمة.
ذلك العام بالذات رُقّي جدها إلى منصب القاضي الأعلى، ما يقابل في عصرنا منصب وزير العدل.
ومنح الإمبراطور الجليل جدها خاتماً تذكارياً يحمل نقشه الخاص.
“قال لي جدي يوماً: قد لا تكون للخاتم قوة قانونية، لكن لا قاضٍ يجرؤ على تجاهله.”
أجل، نينا سرقت الخاتم، وقلدت خط جدها، وأرسلت مذكرات إلى القضاة.
كل ذلك لمجرد أن تنتزع منه الزواج.
“حسناً… فلنتزوج. لكن إياك أن تظني أنني سأمنحك ما تريدين.”
هكذا قال.
لم يكن أمامه خيار آخر: جدها يملك من النفوذ ما يكفي ليُسقط فرصته في الحصول على الوصاية حتى لو كان متزوجاً.
ولذلك عقد قرانه عليها.
(كنتُ حمقاء…)
اعتقدت وقتها أن الزواج سيغيره، وأنه في النهاية سيقبلها كزوجة.
كانت تثق في نسبها الرفيع، وجمالها، وثقافتها.
لم تكن ترى في المجتمع كله امرأة تنافسها مكانة أو كمالاً.
لكنها أخطأت.
لقد أوفى بوعده حتى النهاية.
ليلة الزفاف لم يقترب منها. سنتين كاملتين قضياها في سريرين منفصلين، ومائدة طعامين منفصلتين، حتى الشاي احتسياه في أكواب مختلفة.
وفي الأماكن العامة بالكاد تظاهر باللياقة، لكن حتى تلك اللِياقة كانت مشوبة بالضجر.
زواج على الورق، لكن في الواقع… لم يكونا سوى غريبين.
—
الحصانة، المناعة، الاعتياد… نعم، كلها أشياء مهمة.
لكن نينا لم تعرفها.
ولدت ضعيفة الجسد، مدللة بعطف والديها ورعايتهما.
نشأت مدللةً، معتادة أن تكون محاطة بالحب.
ثم كبرت لتجد نفسها، بفضل مكانة عائلتها، تتربع كملكةٍ على عرش المجتمع الراقي.
عاشت نينا حياتها مدللةً، بعيدة عن الشقاء والحرمان، فلم تعرف يومًا طعم التهكم أو الازدراء أو النبذ. ولذلك، حين باغتها بعد الزواج برود زوجها، واستهزاء المجتمع، وقسوة الألسنة، لم تجد في نفسها مناعةً تحميها. ومع كل صفعة من قسوة العالم، راحت تتصدع وتتهشم قطعةً بعد أخرى.
حاولت ـ بطريقتها الملتوية ـ أن تصلح العلاقة، لكن محاولاتها كانت أشبه بمن يحاول إصلاح حريق بالزيت، فما زاد الأمر إلا سوءًا. حتى انتهى بها الحال إلى الكارثة التي وقعت البارحة.
وما كان من بعدها إلا أن انتهت حياتها بالطلاق، لتغرق في وجودٍ بائسٍ، تصفه كلماتها نفسها بأنه حياة “قذرة لا يُطاق ذكرها”، قبل أن تفارق الدنيا.
“يا للجنون…” همست نينا، تتنفس باضطراب.
اللوم، السخرية، الازدراء… كل ذلك، كانت تظن أنها قادرة على تحمله، فالجرح مهما عمّق لا يقتل صاحبه.
لكن ما وقع بعد عام من ذلك كان مدمّرًا بحق.
حين رفع زوجها سيف الطلاق، أطاح أولاً بجدّها من منصبه. ومع سقوط الجد، تداعى كل شيء: أبناء العائلة الذين تسلقوا مناصب الإمبراطورية تحت جناحه طُردوا واحدًا تلو الآخر، وانهارت أركان البيت سريعًا حتى سقطت الأسرة كلها إلى هاوية لا قرار لها.
جدها ووالداها أُلقي بهم في السجن بمكائد الخصوم، بينما ظل الدائنون يطرقون بابها بلا هوادة.
رجال خسيسون عرضوا عليها أن تكون زوجة ثانية لهم، ساخرين من سقوطها.
ورغم كل ذلك، بقيت تكذب على نفسها، رافضةً التصديق بأن أسرتها العريقة قد تهوي إلى هذا الحد.
لكن حين مات أخوها الوحيد، وضُرب الحجز على القصر، وجدت نفسها مطرودة إلى الشوارع، تجر قدميها بين الأزقة حتى لفظت أنفاسها الأخيرة بشكلٍ بائس.
ثم ها هي الآن، وكأنها أُعيدت إلى الحياة ببطاقة ذهاب وعودة، تُسحب من شعرها لتُلقى في ماضيها مجددًا.
“…هل أتظاهر بفقدان الذاكرة بما أن رأسي أصيب؟”
مدّت يدها تتحسس الضمادة خلف رأسها، ثم هزت رأسها سريعًا. لا، ما الفائدة؟ الطبيب أعلن صراحةً أنها سليمة. وحتى لو ادّعت فقدان الذاكرة، فلن تتغير نظرات الاحتقار التي يرمقها بها الناس.
(الأفضل أن أطلب الطلاق في أسرع وقت ممكن.)
كل تفكيرها كان يقول لها إنه الخيار الأمثل.
فبعد عام واحد فقط، حين يشهر زوجها خنجره المخبوء، لن ينهار بيتها وحده، بل ستنحدر حياتها هي إلى جحيمٍ لا خلاص منه.
(…يجب أن أنهي هذه الزيجة، وأبدأ من جديد في مكانٍ لا يعرفني فيه أحد.)
اتخذت قرارها. لن تتمسك بالحياة الأرستقراطية بعد الآن.
المجتمع الراقي؟ لقد احترق اسمها فيه حتى صار رمادًا. وليس لديها من الصلابة ما يمكّنها أن ترفع رأسها بين الناس بوجهٍ يلوك سيرتها.
والديها؟ غفرانهم مستحيل، لكنها قررت أن تسلك مجددًا طريق “الابنة العاقة”. فما إن تُطلق حتى يسارعوا لترتيب زيجة أخرى لها، والزواج… بات عندها لعنة تتمنى الفرار منها.
(لكن سقوط جدي… لا بد أن أمنعه، مهما كان الثمن.)
فمن لحظة سقوط الجد بدأت كل المآسي.
(صحيح أن الوضع بائس… لكن هذه العودة قد تكون فرصتي الوحيدة كي أوقف هذه المأساة التي سببتها بيدي.)
وإذا كانت قد أعيدت إلى الوراء، فلتكن عودتها بداية تطهير. عليها أن تنظف ما دنسته بنفسها، وتُطفئ الضغينة في قلب زوجها، قبل أن تخرج من حياته.
عيناها، التي ملأهما اليأس منذ لحظات، صارتا تتلألآن بإصرارٍ جديد، كجندي يائس يقاتل معركةً أخيرة لا عودة منها.
—
بينما كانت مارشا تغيّر الضماد على رأسها، قالت بصوتٍ قلق:
“سيدتي، هل تحسنت أحوالكم؟ ألا يزال الرأس يؤلمكم؟”
“لا بأس.”
كان جسد نينا مغطى بالكدمات من تدحرجها على الدرج، لكنها حمدت الله أن العظام لم تُكسر. أما الجرح في رأسها، فسيُشفى مع بعض العناية.
“إذا شعرتِ بأي ألم ولو بسيط، فلا بد أن تخبريني. قال الطبيب إن إصابات الرأس تحتاج عنايةً شديدة.”
“حسنًا، لا تقلقي كثيرًا.”
ابتسمت نينا ابتسامة متكلفة وهي تحدق في مارشا، التي كانت عيناها تترقرقان بالدموع.
لقد بدا واضحًا قلق الخادمة. فلو كان الأمر كما في الماضي، لكانت سيدتها قامت فورًا تبحث عن زوجها لتفتعل الفوضى، لكنها ظلت مستلقية بهدوء طوال الأيام الماضية، وهو أمر يثير الريبة.
(…بصراحة، من الطبيعي أن تقلق.)
ففي حياتها السابقة، حين علمت أن زوجها لم يزرها ولم يُقم معها ليلة إصابتها، انقلبت الدنيا في وجهها، وجعلت القصر كله يعيش على صفيحٍ ساخن.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 1"