18
“لا عضلة ممزقة، ولا ساقًا مبتورة. بهذا القدر، يمكن القول إننا محظوظون.”
في حياتها السابقة، كان مركيز سولدسبرود قد أجري له جراحة كبرى انتهت ببتر ساقه.
وكادت حكايته تنتهي على هذا النحو.
لكن بما أنّ الجرح هذه المرة لم يتجاوز خدوشًا متفرقة، فقد اكتُفت بدهن الدواء فقط، وانتهى الأمر.
“قال الطبيب إن الندوب قد تبقى!”
كان من المفترض أن تنهار من الألم، وأن تعذبها فكرة أن يبقى الأثر محفورًا على جسدها.
لكنها تحدّثت كأن الأمر لا يعنيها، كأنها تتحدث عن شخص آخر.
فانفجرت في نيفيل صائحة بانزعاج:
“لا داعي لكل هذا التهويل.”
“أجنّنت حقًّا! هل تظنين أنك تعيشين في عالم لا يعرف كيف يُعامل المرأة إذا حملت ندبة؟”
“……أعرف. ومع ذلك، لا يهم.”
في عيون النبلاء، ندبة على جسد امرأة تُعدّ عيبًا لا يُغتفر.
لكن هذه الحادثة جعلت آل غرينفيل مدينين لها بدين واضح.
وإذا ما فشلت في الحصول على الطلاق الآمن، فربما استطاعت على الأقل أن تستعين بقوة دوقية غرينفيل.
“أختي، اما زلتِ لا تنوين الطلاق من زوجك……؟”
سأل نيفيل بعينين مغلقتين من الضيق.
سمعتها تتردى بالفعل إلى أسوأ سمعة، ومكانتها الاجتماعية تهبط بسرعة، فهل تُضاف ندبة إلى ساقها فوق كل ذلك؟
عندها سيغدو من المستحيل أن تجد خاطبًا يليق بمقامها.
ومع ذلك تقول إنها لا تكترث؟ أليس ذلك يعني أنها لا تنوي الطلاق أصلًا؟
“…على كل حال، لم يحضر والداي اليوم، صحيح؟”
ابتسمت نينا ابتسامة واهنة وحرفت الحديث.
فلو علما بأمر الطلاق، لشرعا منذ الآن في البحث سرًا عن زوج جديد لها.
ولكي تغادر إلى حيث لا يعرفها أحد، وجب أن يبقى الأمر سرًا حتى اليوم الأخير.
“هما في البيت. بسبب الشائعات الغريبة المنتشرة…”
كما توقّعت.
لابد أن دوقة نورد هي من نشرتها، وقد وصلت بالفعل إلى مسامع والديها.
فمن المستحيل أن يجهلا أمرًا كهذا وهما أوسع نفوذًا حتى من نيفيل.
“أنت تعلمين، مهما قالا إنهما سيقطعان علاقتهما بك، فلا يستطيعان تحمّل سماع أحد يسيء إلى ابنتهما.”
أي والدين يمكنهما أن يقفا مكتوفي الأيدي أمام من يشتم ابنتهما؟
غيابهما عن المناسبة لم يكن إلا ليجنّبا أنفسهما الانفجار غضبًا، وليحميا صديقهما دوق غرينفيل من الحرج.
“لكن قولي لي، هل ذلك صحيح؟ أعني… ما أشيع مؤخرًا…”
“…أجل، على الأرجح صحيح.”
أرادت أن تنكر على الأقل أمام العائلة، لكن هل تستطيع أن تحجب السماء بكف يدها؟
“اللعنة، ومن هذا الذي يلوك الأمر على لسانه؟ لا بد أنه قريب من البيت!”
“……ما زلنا نبحث عنه.”
عصافيرها الصغيرة، المدينون لها بالفضل، يبحثون عنه بعيون يقظة طامحة للسداد.
صحيح أنهم ليسوا عملاء مدرَّبين، لكن لا سر يبقى للأبد، وسيمسكون به يومًا.
“هذا جنون. إلى أين تريدين أن ينتهي بك المطاف؟ ألا يمكن أن تتخلي عن زوجك؟ ألا ترين أن لا شيء يجدي؟ هل تعتقدين أنك لا تستطيعين العيش بدونه؟”
لكن الحقيقة أنها تخلّت عنه قبل أن تعود بالزمن أصلًا.
كل ما هنالك أنها لم تستطع الطلاق بعد لاعتبارات أخرى.
“…سأتدبر عواقب ما اقترفته بنفسي. أرجوك، بلّغهم أنني آسفة. قُل لهم إنني نادمة كثيرًا، وإنه لن يكون عليهم القلق بعد الآن.”
“أختي… هل جننتِ؟”
“ماذا؟”
“الأخت التي أعرفها لا تعتذر أبدًا…”
حدّق نيفيل فيها بعينين مرتابتين.
تلك التي كانت ترفض دائمًا الاعتراف بخطأها، وتلوم أهلها لأنهم لم يقفوا إلى جانبها في وجه العالم…
تلك التي لا تعرف التراجع ولا الخضوع…
والآن تقول “آسفة”؟
“صحيح… قيل إنك أصبتِ في رأسك. ربما لهذا السبب…”
هزّ رأسه بجدية، ثم قال بنبرة ثقيلة:
“أختي، لا تدعي رأسك يُصاب مرة أخرى. عليك أن تحفظيه. وعديني.”
حتى الخادمات قلن لها شيئًا قريبًا.
فماذا يضيرها أن تستجيب لرجاء أخٍ لم تره منذ زمن طويل؟
لكن مع كل كلمة، كانت نينا تتذوق مرارة إدراك جديد: نعم، لقد كانت بالفعل امرأة بائسة.
هزّت رأسها موافقة.
“لكن، هل تستطيعين المشي وحدك؟”
“لا. أظنني سأحتاج إلى عكاز.”
كاحلها متورم قليلًا، ينبض بالألم.
ولو حاولت ارتداء حذاء في هذه الحالة، ستتفاقم الجراح.
الأفضل أن تقضي ليلة في بيت غرينفيل، وتبحث في الصباح عن عكاز قبل أن تعود.
“مارشا ستبكي بكاءً مريرًا.”
كانت نينا تحدّق إلى ساقها الملفوفة بالضمادات بعينين مثقلتين بالسكينة.
هي نفسها لم تعبأ يومًا إن بقي أثر جرح على جسدها، لكن ما أقلقها حقًا هو أن تحزن مارشا لرؤيته.
خارج الغرفة الخاصة، في الممر.
سأل آلن آش بصوت منخفض:
“هل أنت بخير؟ تبدو كأنك صُدمت كثيرًا.”
أومأ آش برأسه.
نعم، لقد صُدم حقًا.
فلم يكن يتصور أبدًا أن تُصاب زوجته بدلاً منه.
كان آلن يستند إلى جدار الممر، ثم قال بنبرة حذرة، صوته أشبه بالهمس:
“…زوجتك، فيما يخصها الأمر.”
“…….”
“بدت وكأنها كانت تعرف مسبقًا أن حادثًا سيقع.”
“ماذا تعني بذلك؟”
سأله آش بحدة، فتنهد آلن وقال:
“لقد طلبت مني أن أبتعد عن ذلك المكان، قالت إن الأمر ينذر بالسوء.”
ذلك ما جعله محتفظًا بوجه جاد طوال الوقت.
لو بقي في مكانه، لربما كان هو من لقي حتفه.
“في البداية خلت أنها تبحث عن مشكلة، لكنها بدت وكأنها تخشى أن يصيبني مكروه.”
“…….”
أسند آش ظهره إلى الجدار بعينين متشابكتين بالارتباك.
فلو لم تكن تراقب الموقف عن كثب، كيف لها أن تتصرف بتلك السرعة؟
“……هل أنت بخير؟”
تذكر كيف بادرت بسؤاله عن حاله قبل أن تنتبه حتى إلى ألمها هي.
وجهها الشاحب، الارتجاف الذي أحسه عبر جسدها الملتصق بجسده، توتر عضلاتها الصغيرة المتيبسة.
ثم لحظة انطوائها من الألم وأنينها المختنق.
كل ذلك ما زال يربك رأسه.
هل هذه فعلًا هي نينا التي يعرفها؟
تلك التي لم تكن من النوع الذي يعرّض نفسه للخطر لينقذ الآخرين.
امرأة لا تحب سوى نفسها، تؤمن أن المال والسلطة يفتحان كل الأبواب، فلا تتورع عن استخدام أي وسيلة لنيل ما تريد.
ألم تكن هي نفسها التي كبّلت خدمها بالديون حتى يستحيل عليهم الإفلات؟
بين ماضيها وحاضرها هاوية سحيقة.
أيّهما يا ترى حقيقتها؟
***
بعد أن قضت نينا ليلة في قصر دوق غرينفيل، صعدت إلى العربة.
“سأخبر والدينا أنكِ بدأتِ تستعيدين رشدك هذه المرة. أرجوكِ، لا تتورطي في مصائب أخرى واعتني بنفسك.”
كان ذلك نيفيل، الذي بدلًا من أن يعلن قطيعة، اختار أن يقلق عليها.
“أرجو أن تسامحيني على وقاحتي، وأشكركِ من قلبي لأنكِ أنقذتني وصديقي، سيدتي.”
اعتذر مركيز سولدسبرود.
“أنا آسف حقًا، لا أعلم كيف يمكنني أن أُكفّر عن هذا، لكن إن كان بوسعي أن أفعل أي شيء، فسأفعله.”
“سيدتي، وأنا أيضًا أشعر بمسؤولية كبيرة عن الحادث. التعويض واجب عليّ، لكن إن احتجتِ إلى أي مساعدة أخرى، فلا تترددي.”
تلك كانت كلمات دوق غرينفيل وزوجته، وهما يمنحانها ما يشبه سندًا بالفضل.
وأخيرًا……
ها هو آش، الذي يشاركها العربة في طريق العودة.
كانت قد قالت له أن يعود بمفرده فهي بخير، لكنه أجابها بصرامة:
“…أتريدين مني أن أترك زوجتي، التي أُصيبت بسببي، وأمضي وحدي؟”
وهكذا، شاء أم أبى، رافقها حتى المنزل.
حقًا، لقد جنت أرباحًا كثيرة من رحلة واحدة.
الرجل الذي كان يضيق حتى بأن يتنفس معها تحت سقف واحد، ها هو الآن محبوس معها في فضاء مغلق.
《أيعني هذا أنني لم أعد اثير نفوره كما من قبل؟》
ظنت أن كسر قاعدتها بعدم حضور المناسبات الاجتماعية قد جلب ثماره.
لكنها سارعت إلى التراجع:
《لا، لا ينبغي أن أخدع نفسي.》
فهي لمحت قسوته تعود إلى عينيه حين شعر بأنها تراقبه.
أدركت من جديد أن عليها أن تكون حذرة في شأنه.
فمهما كان دين الإنقاذ عظيمًا، إلا أن مصير أسرتها مهدد بالسقوط، وأيّ اطمئنان متعجل قد يدمّر كل شيء.
ونظراته أكدت أنه ما زال لا يثق بها قيد أنملة.
“حقًا إنه حصن منيع…”
وفي صمت خانق، ظلّت العربة تمضي ساعات طوالًا.
إلى أن توقفت أخيرًا.
لقد وصلا إلى المنزل.
كل ما أرادته نينا هو أن تستحم وتغفو.
بعد يوم كامل من الصمت الثقيل في عربة مغلقة، شعرت بأنها منهكة جسدًا وروحًا.
طوى آش الصحيفة التي كان يقرأها ونزل أولًا.
أما هي فتمسكت بالجدار، تتلمس خطواتها بحذر.
وما إن خطت إلى الخارج، حتى انبعث ألم حاد ممتد في ساقها اليمنى مع كل حركة.
“آه…”
تأوهت وهي تمد رجلها إلى الخارج بحذر، فإذا بالوجع يلسعها من جديد.
التعليقات