17
“…كيف حالك؟”
انتبهت نينا، التي تداركت نفسها إثر التحية الدافئة من دوق غرينفيل، فأجبرت ابتسامة على شفتيها وقالت:
“نعم، وماذا عن صحتكم يا دوقي؟”
“بالطبع، كنت بخير.”
“…….”
حلّ صمت ثقيل بعدها.
على الأرجح أن الدوق أيضًا قد سمع الشائعات عن تضرعها لزوجها بأن يشاركها الفراش.
انعكست في عينيه مشاعر متداخلة: أسف، قلق، وأشياء أخرى يصعب توصيفها.
“لقد حييتكم، لذا سأدعكم الآن. من المؤكد أن لديكم ضيوفًا آخرين لتحادثوهم.”
“ذلك…….”
“لا بأس، سأعود لأودعكم قبل أن أغادر.”
ابتسمت نينا بمرارة حين التقت نظراتها بنظرة دوقة غرينفيل، التي رمقتها بحدة كأنها تأمرها أن تنصرف فورًا.
ولم تكن نينا تنوي أصلًا إطالة الحديث.
فالأهم الآن هو منع الحادثة التي ستقع في هذه الأمسية.
الثريا المعلقة فوق القاعة، المزيّنة بعشرات وربما مئات القطع الكريستالية، تكاد تضاهي وزن إنسان بالغ.
فإن سقطت فوق الرؤوس… النتيجة لا تحتاج إلى كلمات ليتخيلها المرء.
أول ما فعلته نينا كان أن رفعت عينيها نحو الثريا المهددة.
ارتجف جسدها وقشعر جلدها.
فالماركيز سولدسفورد كان واقفًا في نفس البقعة التي وقع فيها الحادث في حياتها السابقة.
حتى الآن، لم يبدُ أن شيئًا تغير في الثريا.
لكن مجرد وقوفه تحتها لا يعني إلا شيئًا واحدًا: أن الكارثة وشيكة.
لم يدم طويلاً ذاك الوهم الدموي الذي غطى بصرها كطَيف.
اقتربت نينا من الماركيز، ووجهها شاحب من شدة التوتر.
“…لقد مرّ وقت طويل منذ ان رأيتك يا ماركيز سولدسفورد.”
“نعم.”
ألن .
بشَعرٌ بلونٍ بنيّ قاتم يميل إلى الحمرة، وعينان باللون نفسه.
وطول يتجاوز المئة وثمانين سنتيمترًا بقليل، وجسد متين، وملامح توحي بالود.
أنهى جوابه ثم حرّك جسده قليلًا ليبتعد عن مواجهتها.
كانت تلك الحركة وحدها كافية لتذكيرها بأنها غير مرغوبة.
ولم يكن هذا الرد مفاجئًا لها.
فكلما التقيا، لم يتبادلا سوى التحيات الباردة العابرة.
ولهذا، هي أيضًا لم تسعَ يومًا للتقرب منه.
“…سمعت أن بيت الماركيز بعيد عن هنا. ألم تكن الرحلة متعبة عليك؟”
“كما ترين، لم تكن.”
أجاب ألن مقتضبًا، وهو يدير كأس الشمبانيا بين أصابعه.
في بريق عينيه، وفي حركته الرخية، كان يشي بوضوح: الحديث معك ممل.
عادةً يكفي هذا التلميح لتنسحب المرأة.
لكن نينا لم تستطع.
فوق رأسيهما تتأرجح أداة قتل معلّقة بخيط واهن.
ولم يكن أمامها إلا أن تواصل الحديث، ولو بالقوة.
“…هل علمت أن زلزالًا وقع فجر اليوم؟”
“من يدري. فجر اليوم كنت غارقًا في النوم.”
“أما نحن، فقد تضرر قبو النبيذ في بيتنا بسبب الزلزال، ولهذا…”
صرير.
صوت بالغ الخفوت، بالكاد تسمعه أذن مشدودة بكامل انتباهها إلى السقف.
لكنّه كان كافيًا ليوحي بأن شظايا الكريستال الحادة ستنهال عليهم كالمطر في أية لحظة.
ارتعشت نينا، وعيناها لا تفارقان السقف، ثم أسرعت تُكمل كلامها:
“…ألم تسمع للتو صوتًا غريبًا؟”
“ماذا تقصدين؟”
“قبل قليل… لا، لا تبقى هناك. لم لا تأتي إلى هنا؟ لا أدري لماذا، لكن منذ سمعت خبر الزلزال هذا الصباح وأنا أشعر بشؤمٍ عظيم.”
غير مبالٍ بما يختلج في صدرها، رشف ألن من كأسه بهدوء وأجاب:
“لا أفهم أي نوايا تدفعك للاقتراب مني، لكن إن كنتِ تنوين استغلالي في شيء، أنصحك بأن تتراجعي.”
“نوايا؟ ما الذي تقوله؟ لم يكن إلا حدسًا سيئًا أردت أن أشاركك إياه، لا أكثر. أظنك تبالغ في ردّ الفعل.”
“مبالغة في رد الفعل، تقولين…؟”
ابتسم ألن ابتسامة باهتة، وأطلق ضحكة صغيرة باردة، ثم بصوت ناعم يخفي حدّة الطرد قال:
“أليس خيرًا لكِ أن تنأي بنفسك عن شائعات غريبة قد تلاحقك إن وُجدتِ في صحبتي؟ لذا ألتمس من سعة صدرك أن تعذريني… وتُخلي لي المكان.”
إلى أن وصل به الأمر أن يشير بذقنه في حركة فاصلة بانه يريد ان ينهي الكلام معي ، وكأنه يضع النقطة الأخيرة على لوحة مكتملة.
على الرغم من ملامحه الودودة، كان واضحًا أنه رجل ذو ميول حادة، لا يخفي عداوته لمن لا يروق له.
(لا جدوى… لنجعل الأمر صريحًا، سأكون أنا غريبة الأطوار هنا.)
قالت نينا بثبات مصطنع:
“ولماذا عليّ أن أفسح الطريق؟”
(أرجوك…)
“هل يتعين على الضيف إذن أن يتنحى؟”
(أرجوك، أرجوك…)
“يمكنني بالطبع أن أتنحى، لكن المكان ليس ملكًا للماركيز. إن كنت لا تطيق الحديث معي، فالرحيل بنفسك هو الحل الأوضح.”
(أرجوك…!)
لكن كلماتها الوقحة لم تدفعه للانسحاب، بل بدا وكأنها أيقظت فيه روح التحدي.
بدلًا من أن يبتعد، ارتشف الشمبانيا بهدوء وحدّق بها مباشرة، وكأنه يقول: فلنرَ من الذي سيتراجع أولًا.
(هذا لن يجدي.)
قررت أن تصارحه بشأن الثريا، أن تخبره أنها في حالة خطرة.
(إن أخبرتُه، فأسوأ ما يمكن أن يحدث أن يسخر مني… لا بأس.)
“ماركيز، في الحقيقة…….”
لكنها لم تكمل.
“ما الذي يجري هنا؟”
لقد ظهر آش.
كانت عيناه الرماديتان قاطعتين كسيوف، كفيلتين بتمزيق الجلد.
“ألن، انصرف الآن.”
كان صوته مضغوطًا بالغضب، مكتومًا لكنه مزلزل.
هزّ الماركيز رأسه متبرمًا، ثم انسحب متأخرًا.
“تأخرتَ عن الحفل لا بأس، لكن ما الذي دفعك للتقرب من صديقي…….”
دهشت نينا للحظة، لم تكن تتوقع هذا الموقف قط.
“يا عزيزي، ابتعد حالًا!”
جرسٌ معدني رقيق.
سمعته بوضوح—رغم أنه لم يكن يُسمع إلا بتركيزٍ حاد على السقف.
لكن اهتزاز الكريستال في الثريا لا يعني إلا شيئًا واحدًا.
“ماذا…؟”
صوت خيطٍ يُقطع، في لحظة خاطفة.
من دون تفكير، اندفعت نينا بكل قوتها، دافعةً آش بعيدًا عن مكانه.
دمدمة مدوّية حادة ارتجت خلف ظهرها.
“…….”
خيم الصمت بعد الانفجار المفاجئ.
كانت نينا قد أغمضت عينيها بقوة، جسدها يرتجف.
لكنها فزعت حين أحسّت بشيء صلب تحت خدها. رفعت رأسها… فإذا بآش ممدد تحتها.
“…هل أنت بخير؟”
لقد فوجئ إلى حد أن عينيه اتسعتا، متصلبتين من الصدمة.
ولمَ لا؟ لم يكن ليتصور سقوط الثريا، ولا أن تكون هي من يندفع لإنقاذه.
(يا ويلي، يجب أن أبتعد فورًا.)
لقد ارتمت عليه بكامل جسدها، وهو من يتقزز من مجرد لمس أطراف أصابعها.
لكن حين همّت بالحركة—
“آه، هه…”
ارتجفت شفتاها، وخرج أنين متقطع.
ألمٌ لاذع وحارق اجتاح ساقها اليمنى وصعد حتى خصرها.
“أه…”
وضعت يدها على الأرض تستند، وحدقت في مصدر الألم.
تناثرت شظايا الكريستال على ثوبها، وتحتها أخذت بقعة من الدم في الاتساع.
“نينا!”
ما إن أدركت أنها أصيبت، حتى انفجر الألم في ساقها بعنف، فملأ عينيها بدموع حارة.
“آه…”
حتى أدنى حركة أطلقت ومضات من الألم على طول أعصابها.
وكأن سكينًا حادة مزّقت ساقها مرارًا.
(لا… لا بد أن الإصابة ليست خطيرة جدًا، أليس كذلك؟)
“نينا، هل أنت بخير؟ هل تستطيعين التحرك؟”
“أ… أنا بخير.”
قالت نينا وهي ترسم ابتسامة واهنة على وجهها الشاحب.
كان نيفيل يترقب الفرصة منذ زمن ليقطع صلته بها نهائيًا، لكن حين رآها مصابة بدا وكأن تلك الفكرة قد تبخرت من رأسه.
اقترب نيفيل، وجهه شاحب حد الموت، مرتبكًا لا يعرف ما يفعل.
“يا إلهي، بسرعة… بسرعة! استدعوا الطبيب الخاص حالًا!”
“عزيزي، علينا أولًا أن ننقل السيدة إلى مكان هادئ، هيا!”
ظهر دوق غرينفيل وزوجته بدورهما، وجهيهما متجمدان كالثلج، يقودان الموقف بخطوات مرتعشة.
أي فاجعة هذه التي تقع في حفل ميلاد كان يفترض أن يغمره التهاني والفرح؟
كان من الطبيعي أن ينهار تماسكهما—فهما المضيفان، المسؤولان عن بهجة الضيوف وسلامتهم.
الذهول، الاضطراب، القلق… جميعها انسكبت في القاعة دفعة واحدة.
“أنا حقًا لا بأس بي…”
تمتمت نينا وسط وابل من النظرات المنصبّة عليها، لكنها تصلبت فجأة حين أحست بجسدها يرتفع عن الأرض.
“إلى أين علينا أن نذهب؟”
لقد كان آش، يحملها بين ذراعيه كما يُحملَ الأميرة.
ذراعان قويتان تمنحان الطمأنينة، ورائحة جسده الحادة والثقيلة تحيط بها.
كانت هذه أول مرة تجد نفسها في أحضان زوجها.
أمر لم تحلم به، ولا حتى خطر لها في خيالها.
(…هل يمكن أن يُحتسب هذا ظرفًا خاصا؟
ليت الأمر كذلك.)
“من هنا، من هنا!”
نادَت الدوقة بارتباك وقد شحب لونها، فتبعها آش بخطوات ثابتة، وهي ما تزال بين ذراعيه.
“أختي، هل أنتِ بخير؟ أليس كذلك؟”
كان نيفيل يثرثر بجنون، لا يكف عن السؤال، فيما تبعهم ألن بوجه متحجر كمن تلقى صدمة عنيفة.
أن يغمرها هذا القدر من القلق من كل هؤلاء الناس… شعور غريب، لم تعهده منذ زمن بعيد.
***
بعد أن أجريت لها الإسعافات الأولية على يد الطبيب الخاص، طلبت نينا أن تبقى مع شقيقها وحده، فخرج الجميع من الغرفة الجانبية.
تنهدت وهي جالسة على حافة السرير، ثم تمتمت:
“الحمد لله… الإصابات ليست بالغة كما توقعت.”
“حمد لله؟! أتسمين هذا حمدًا لله؟!”
اتسعت عينا نيفيل بغضب، وصوته ارتفع مستنكرًا.
فقد كانت قدمها اليمنى، من مشطها وكاحلها وحتى ساقها، مليئة بجروح وندوب خلفتها حواف الكريستال المهشم.
أن تتشوه ساق سيدة أرستقراطية بهذه الصورة، ثم تزعم أن الأمر بسيط؟
في أذن نيفيل، لم يكن ذلك سوى ضرب من الجنون.
التعليقات