قال آش دي باييرن، وهو يمرر أصابعه على غرّته المصففة بالمادة الزيتية، يعدّل ملبسه بعناية، وقد ارتسمت على وجهه علامات الاستفهام.
“ماذا تقصد؟”
ابتسم هوشي ابتسامة خفيفة وأشار نحو النافذة.
“انظر هناك، أليسوا جميعًا يبتسمون؟”
كانت الخادمات يعبرن الممر بخطوات مفعمة بالخفة، وهن يحملن في أحضانهن أثوابًا جديدة. وكما قال هوشي، بدا أنّ في الأمر ما يبعث على السرور، فالبسمة لم تفارق وجوههن.
ظل آش يراقب المشهد بلا اهتمام يُذكر، حتى انقدحت في ذهنه فجأة كلمات تقرير مديرة الخدم الأخيرة:
“سيدتي أهدت الخادمات زيًّا رسميًا جديدًا. وسمعت أنها تعتزم توزيعه على باقي الخدم تباعًا.”
تذكّر حينها أنّ إرسال مارشا إلى مشغل الملابس لم يكن إلا لهذا السبب. والأثواب التي تحتضنها الخادمات الآن لا شك أنها الزيّ الرسمي الجديد الذي وزعته زوجته.
“على كل حال، سيدتي هذه الأيام أكثر هدوءًا من المعتاد.”
“همم… لا أدري إن كان يمكن وصف ذلك بالهدوء.”
فبعد أن أعادت مديرة الخدم سلطة الإشراف المنزلي إلى مارشا، بدا الأمر وكأنها، بعد فشل ورقة الطلاق، تحيك خطة جديدة في الخفاء… حتى أنها تهتم الآن بأزياء الخدم، وهو أمر لم يشغل بالها قط من قبل. وهذا كله لا يوحي إلا بشيء واحد: أنها ربما عدلت عن نية الطلاق، وراحت تعمل على ترسيخ مكانتها كسيدة الدار.
“لكن لا يمكن إنكار أنها لم تعد تلاحقك كما كانت تفعل سابقًا.”
“……”
هذا صحيح.
آخر مرة رأى فيها وجهها كانت يوم “تلك الحادثة”.
قبل ذلك اليوم، كانت تتجسس على خطواته كما لو كانت فأرًا يلتقط فتات المعلومات، تفتّش في أسراره، تشككه، وتطارده بأسئلتها الموجعة. لكن منذ تلك اللحظة، انقطعت كل تلك الأفعال دفعة واحدة.
عامان كاملان لم يخلُ فيهما البيت من صخب وصراخ… والآن وقد حلّت هذه السكينة فجأة، صارت أشبه بإنذارٍ ثقيل، كهدوءٍ يسبق العاصفة.
وما ذلك إلا شهادة حيّة على أنّ زواجه لم يكن إلا جحيمًا.
“لكن… لعلّها لا تفكّر في التغيب عن اليوم، أليس كذلك؟”
“من يدري.”
“إنه عيد ميلاد دوق غرينفيل، لا مناسبة عابرة!”
كان عيد ميلاد دوق غرينفيل حدثًا لا يشق له غبار في المجتمع المخملي، ملتقى حافلًا بالحضور من كل الأعمار، وموطئًا للوجاهة والنفوذ. فالدوق شقيق الإمبراطورة الحاليّة، وصديق حميم لدوق تايلور، وأحد أعمدة السلطة في البلاط.
بمثل هذا الحفل، حيث يلتقي الوجوه البارزة، يغدو الأمر فرصة سانحة أمام الشباب والشابات للبحث عن شركاء حياة.
لكن، هل يُعقل أن تتغيب زوجته—التي لم تكن تطيق أن يلتقي بعيني امرأة أخرى دون أن تثور عاصفة غيرتها—عن مثل هذه المناسبة؟
“إن شاءت ذهبت، وإن لم تشأ فلن تذهب.”
لم يطلب منها أن ترافقه، وهذا يعني أنّ احتمالية عدم حضورها قائمة، لكن بما أنّه عيد ميلاد غرينفيل بالتحديد، فحضورها ليس مستبعدًا على الإطلاق.
“إن كنت قد انتهيت من استعداداتك، فكفّ عن الكلام وتعال.”
ارتدى آش معطفه وغادر الغرفة. وأثناء سيره في الممر، ارتفع في داخله توتر خفي، خشية أن تفاجئه زوجته بظهور مباغت. غير أنّه اجتاز البهو، واعتلى العربة دون أن يلمح ظلًّا لها.
“يبدو أنها لن تحضر فعلًا.”
تمتم هوشي وهو يجلس إلى جانبه في العربة.
أما آش فأغمض عينيه بملامح جامدة. فما إن غادر البيت حتى غدت مسألة حضورها أو غيابها بلا قيمة لديه.
لكن فكرة لقاء الدوق غرينفيل سرعان ما أثارت في داخله حدةً مكبوتة.
كان غرينفيل يولي نينا عناية خاصة كأنها ابنة شقيقته، وفي المقابل لم يُخفِ امتعاضه من الفوضى التي لازمت زواج آش، الأمر الذي جعل حضوره هناك بمثابة وقوف في مكان غير مرحب به.
غير أن السياسة تفرض قواعدها؛ فالدوق غرينفيل مثله مثل آش، من جناح أنصار الإمبراطور. وأي إشارة للخصومة في العلن لن تُحسب إلا مكسبًا للمعسكر المناوئ. لذا لا مفر من مظهر الودّ، وإن كان مصطنعًا.
كنت أخشى أن تجعل كل هذه الأمور الناس يتجاهلون أوامري، لكن لحسن الحظ لم يحدث ذلك.
“كيف كانت ردود فعلهم؟”
كان ذلك في الصباح الباكر، حين وصلت إلى غرفة الملابس الأزياء الرسمية التي طلبتها. وبمجرد أن وصلت، استدعيت مديرة الخدم والقيّم، وأمرت بتوزيعها على العاملين في البيت. ومع ذلك، كنت متشوقة لمعرفة رد فعلهم.
هل يا ترى تحسّنت سمعتي قليلًا في أرجاء هذا المنزل؟
اقتربت مارشا بخطوات حثيثة، وملامحها متورّدة من الحماس، وهمست لي قائلة:
“الجميع مسرورون، لدرجة أنهم قالوا: كأن الشمس أشرقت من الغرب!”
كما توقعت، لقد أحبوا الأمر.
فالأقمشة في هذا العالم لا تُقارن بأقمشة عصرنا الحديث؛ متانتها ضعيفة للغاية. والزيّ الرسمي الذي يحصل عليه الخدم عند تعيينهم لا يصمد طويلًا، ما يضطرهم في الغالب إلى إنفاق ما في جيوبهم لإصلاحه أو حياكة زي جديد. لذلك، ليس غريبًا أن يغمرهم الفرح وقد حميتُ محافظهم من الإنهاك.
“وماذا بعد؟”
ترددت مارشا قليلًا، وارتسمت على وجهها ملامح مترددة، جعلت نينا تنظر إليها بقلق.
“لماذا؟ ما الذي قيل؟”
“ذاع بينهن أن سيدتي تغيّر طبعها بعد إصابتها في الرأس… وأن تلك الضربة كانت أحسن ما جرى لها.”
“……”
على إثر تلك الكلمات، ارتسمت على وجه نينا تعابير متناقضة، يصعب الجزم أهي ابتسامة ساخرة أم تكشيرة حزينة.
“أتريدين أن أمزّق تلك الأفواه بنفسي؟” سألت مارشا بانفعال.
“لا، دعي الأمر. المهم أن الخير يجرّ الخير.”
على الأقل، هذا يعني أن هناك من بدأ يصدق أنها قد تغيّرت فعلًا.
وفوق ذلك، فحادثة إصابتها في رأسها لم تعد سرًّا يخفى على أحد في القصر.
كل ما تمنت نينا أن يُمحى من ذاكرة الآخرين، هو ما بدر منها تلك الليلة حين ارتمت باكية متوسلة عند قدمي زوجها… ليتها تستطيع محو ذلك السقوط المهين من الذاكرة.
“لكن ذلك مستحيل… لا مفر منه.”
ابتلعت نينا ابتسامة مرة وهي تفكر في ذلك الماضي الذي يلاحقها كظلٍّ لا ينفك عنها.
“ومع مرور الوقت، سيزول كل شيء… الزمن كفيل بأن يُنسي حتى أعظم الجراح. تمامًا كما يعود بعض الفنانين إلى الأضواء بعد فضائح مدوية، وكأن شيئًا لم يكن.”
قالت مارشا عندها، بلهجة مترددة:
“لكن… حقًا، سيدتي، ألن تحضروا حفلة عيد ميلاد دوق غرينفيل؟”
“لا، لن أحضر.”
مالت مارشا برأسها في حيرة، وكأن الأمر غير مفهوم بالنسبة لها—كيف تتغيب عن الحفل الذي يقيمه الدوق، وهو الذي كان يوليها مودة خاصة؟
لكن نينا كانت لها أسبابها.
حين سقطت عائلتها في هاوية الانهيار… لم تستطع أن تتلقى يد العون من دوق غرينفيل، رغم صداقته القديمة لوالدها. فحين غضبت العائلة الإمبراطورية على بيت تايلور، وكان ذنبهم ظاهرًا للعيان، لم يكن من الحكمة أن يقف غرينفيل إلى جانبهم. ذلك كان كفيلًا بجرّه هو نفسه إلى الهلاك. وقد تفهمت نينا ذلك.
فمهما كانت قوة الصداقة، لا أحد يقفز طواعية إلى سفينة تغرق. لا بد أن يحافظ هو أيضًا على بيتِه وأهله.
ولذلك، لم يكن في قلبها ضغينة عليه.
غير أنّ المشكلة الحقيقية كانت شيئًا آخر… حقيقة أنّ أخبار رفض زوجها لها حين طلبت منه وصالًا، قد انتشرت في كل أرجاء المجتمع، حتى بلغت مسامع شقيقها الأصغر نيفيل، الذي يكبرها بعامين فقط.
“أن تكوني أختي… هذا أمر بغيض ومخزٍ لي.”
كلماته تلك، التي قذفها في وجهها يوم عيد ميلاد دوق غرينفيل، ما زالت تُدمى قلبها كلما تذكرتها.
“أشتاق إليكم…”
اشتاقت إلى جدها، ووالديها، وحتى إلى نيفيل.
لكنها تعلم أنها لا تستطيع رؤيتهم الآن.
“على الأقل، يجب أن أستعيد بعضًا من كرامتي، قبل أن أقف أمامهم.”
ثم إنّ زوجة دوق غرينفيل لم تكن تحبها أصلًا.
قد ينظر إليها الدوق بعطف، كما لو كانت ابنة أخ له، لكن الدوقة لم تر فيها سوى عبءٍ لا ترغب في الاقتراب منه—ابنة صديق زوجها الذي تورط في فضيحة مدوّية.
“يبدو أنّ الدوق يغادر الآن.”
نظرت نينا حيث أشارت مارشا، فرأت عربة تغادر القصر.
“لكن… كيف يغادر هكذا دون أن يسأل إن كنتِ ترافقينه؟ أليس ذلك غريبًا؟”
ابتسمت نينا ابتسامة باهتة وقالت:
“وماذا عنكِ يا مارشا؟ لو كنتِ مكانه، هل كنتِ ستسألين؟”
أطرقت مارشا بشفتيها في امتعاض وقالت متذمرة:
“لكن أليس هو نفسه من رفض الطلاق؟ إذن، أليس من حقكِ أن يسألك إن كنتِ ترافقينه؟”
“ذلك لأنكِ تقفين في صفي تقولين هذا. لكن في الأصل، السبب الذي جعله يرفض الطلاق ويقرر تبني نينا لم يكن إلا عدم ثقته بي. لو لم يكن هناك زواج بيننا منذ البداية، لما وقع شيء من هذا كله… لذلك، فلنضع اللوم عليّ في النهاية. هذا أهون عليه.”
أطلقت مارشا تنهيدة حزينة، في حين لمعت على وجه نينا ابتسامة مُرة.
“صحيح… بالمناسبة، سمعت حديث الخادمات قبل قليل، يقلن إن زلزالًا وقع مع الفجر.”
“زلزال؟”
“نعم. كنّ ينظفن المدفأة في قاعة الطعام، وفجأة اهتزت الأرض تحت أقدامهن.”
“هل أصيب أحد؟”
هتفت نينا بخوف، فلو أنّ ثريا سقطت من السقف، أو انكسر شيء ثقيل، لأُصيب أحدهم قطعًا.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات