” ظهرت المشكلة اولا في مخازن الفول التابعة للكونت كورتني. كثرة ظهور الديدان هناك أثار شكوكي، وحين تفقدنا الأمر وجدنا أن أكثر من نصفها قد تعفّن.”
آنذاك فقط أدرك آش سبب البهجة التي ارتسمت على وجه هوشي.
فابن الكونت كورتني الثاني هو نفسه القاضي الذي تولى محاكمة الاستئناف في قضية الوصاية.
“إذن الخطة أن نستغل هذه الحادثة لانتزاع شهادة منه بأن كبير القضاة تلاعب في المحاكمة.”
فإذا تبيّن أن الكونت كورتني قد زوّد غيره بمواد غذائية فاسدة أدت إلى الإضرار بممتلكات بيوتٍ نبيلة أخرى، فإن غضب العرش لن يرحمه.
وحينها لن يجد الكونت بدًّا من إقناع ابنه بأن يعترف على جد نينا.
“مراعاة لصحة كبير القضاة المتقدمة في السن… أليس من الأفضل أن نمنحه فرصة للتقاعد الآن؟”
“…….”
آش لم ينبس بكلمة.
فقد عادت إلى ذاكرته صورة نينا في ذلك اليوم، متراكبةً على ملامح وجه مساعده الذي كان يبتسم بمكر وصوته ينخفض إلحاحًا.
“……حسنًا. سأمضي وفق ما تقول. لكن فقط… فقط إن غيّرت رأيك يومًا ما، فلتعلم أن بإمكانك إخباري متى شئت.”
غير أن جرح السنين لم يكن ليُلتئم ببضع محادثات.
سنتان كاملتان حفرتا هوّة عميقة بينه وبينها، ولم يكن من السهل سدّها.
ضغط على قلبه وهو يدفع القلق بعيدًا.
“……فلنمضِ بهذه الخطة إذن.”
“نعم.”
“لكن كيف حصلت على هذه المعلومة أصلًا؟ ألم تطلب إجازة لحضور زفاف أخيك؟”
“مررت قبل عودتي لمجرد الاطمئنان. فمن بديهيات المساعد الكفء أن يتأكد من كل شيء قبل حدث مهم كهذا، أليس كذلك؟”
ابتسم آش نصف ابتسامة وهو يرقب هوشي ينتفخ فخرًا بنفسه، ثم سرعان ما جفّ ذلك الابتسام.
فالوقت يضيق، ولم يتبقَ على المناسبة سوى شهرين بالكاد.
“أولًا، استدعِ الكونت كورتني، ثم اتصل بجمعيات التجارة القريبة من العاصمة لتأمين الإمدادات ومنع أي عجز في المواد الغذائية.”
“أمركم. أنسحب الآن.”
وبما أن آل باييرن هم أصحاب المستودعات والمشرفون على إدارتها، فإن آش لن يكون بمنأى عن تبعات هذه الفضيحة.
تك… تك…
كانت أصابعه تنقر سطح المكتب بإيقاع ثابت، بينما غاصت عيناه الرماديتان في عمق التفكير.
***
كانت قد أوكلت إلى “البلابل” مهمةً مقابل وعد بالحرية، وبذلك صار نصف صداعها قد شفي بالفعل.
جلست نينا تفكّر، وهي تلمس على شفتها السفلى بأطراف أصابعها.
“لكن… عليّ أن أشرح له الأمر بطريقة ما.”
لقد قطعت صلتها بأعمال الربا، و أمرت الناس بتلك المهمة بسبب دوقة نورد.
غير أن المشكلة تكمن في كيفيّة شرح ذلك لرجل لا يكاد يراها حتى يشهر سيف حدّته في وجهها.
وإن هي قصدته بحجّة أن لديها ما تقوله، فسيطردها ببرود: “كم من الأعذار تختلقين لتقتربي؟”
“……هل أطلب من رئيسة الخدم التوسّط بيننا؟”
أدارت نينا حوارًا متخيَّلًا في ذهنها:
“لقد استدعيتك لأمر.”
“أمرك سيدتي.”
“الحقيقة أنني منذ زمن كنت أُغرق الخدم في الديون لأجبرهم على ملاحقة زوجي… لكن هذه المرّة، أوصيتهم بكشف أعوان دوقة نورد مقابل إسقاط ديونهم.”
“…….”
“أرجو منك أن تبلّغي الدوق أنني عدت إلى رشدي، فلا يساء فهمي.”
“…….”
“…….”
وبلمح البصر، بردت ملامحها وهي تستعيد وعيها.
“هاه…”
كم بدا مثيرًا للشفقة أن تطلب من أحدٍ أن يوصِل رسائل تبريرها إلى زوجها.
“……لا أدري حقًا ما الصواب.”
رجل عانى الأمرّين من شكوك زوجته، لن يتوقع منها سوى الابتعاد، وربما كان ذلك عين ما يرجوه الآن: ألا تتدخل.
إذن، عليها أن تحافظ على مسافة اجتماعية معه، وأن تثبت بمرور الوقت أنها لم تعد تلك المرأة السابقة.
فالكلام المباشر لن يزيده إلا ريبة.
“لأكسب ثقته، عليّ أن أبدأ من حوله…”
الوصيف الأكبر ورئيسة الخدم.
أخلص الخدم لبيت باييرن، وجدار منيع يلتف حول زوجها كالقلعة.
لا سبيل أمامها إلا أن تبدأ من كسب ودّهما.
“سيدتي! لقد وصل زيّ رئيسة الخدم الجديدة!”
التفتت نينا نحو مارشا التي دخلت وهي تحمل صندوقًا كبيرًا يعانق صدرها، فاستنار وجهها بابتسامة مفعمة بالارتياح.
ما أروع هذا التوقيت.
فقد كانت نينا تفكر أصلًا في كيفية كسب ودّ هذين الشخصين.
“وباقي الأشياء؟”
“ما زالوا يعملون بجد على تجهيزها. قالوا إنهم قادرون على تسليم الدفعة الأولى في الموعد الذي وعدوا به. أما زيّ السيّد القيّم فسيصل على الأرجح غدًا.”
“إذن، استدعوا كبيرة الخدم أوّلًا.”
ليكن الأمر إذن، ولنبدأ بهدية صغيرة.
***
كان صيت دوقة باييرن بين الخدم في الحضيض.
نادراً ما وُجد من لم يسخر منها أو يلوك سيرتها بالسوء، داخل القصر أو خارجه.
لكن ميلاني كانت من القلائل الذين لم يجرؤوا قط على إظهار مثل هذا الكلام علنًا.
فحتى لو لم تكن سيدة القصر محط إعجابهم، أو لم ترق لهم، فهي تبقى الآمرة الناهية.
والخادم الحقيقي، حتى لو عضّ على لسانه من الغيظ أو أطلق الزفرات في داخله، فإن واجبه أن يظل صامتًا.
لا سيما أولئك الذين كرّسوا ولاءهم لبيت باييرن عبر أجيال، على خلاف الخدم المتنقلين الذين يرحلون مع أول فرصة أفضل. فمن الطبيعي أن تكون ألسنة هؤلاء أثقل وأشد كتمانًا.
ومن شيم الخدم المخلصين أيضًا…
“…لم يمض يوم واحد على قولها إنها ستعود للاهتمام بشؤون البيت، حتى استدعت أهل المشغل! أليست واضحة النوايا؟”
“كنت أظنها قد هدأت قليلًا هذه المرة. قلتُ في نفسي: لعلها استردت رشدها، لكن يبدو أن المرء لا يتغير فعلًا.”
“أيمكن أن تفكر هكذا بعد عامين قضيتهم معها؟”
“ظننت أن إصابتها في الرأس غيّرت من طباعها… حتى اختيار الخدم الجدد كان بأمرها هذه المرّة…”
توقفت ميلاني فجأة عند سماع ضحكات خافتة تتصاعد من الممر.
“كم مرة كررتُ أن أول وصايا الخدمة وأهمها هي ضبط اللسان؟ ألم تعتبرن بما حدث لزميلتين طردتا منذ أيام؟”
“ن… نعم! عذرًا!”
لم تكن زلّتهما جسيمة إلى حدّ الطرد، لكن العقوبة واجبة.
“ستنظفان الدرابزين في وقت العشاء اليوم.”
بعبارة أخرى: بينما يجلس الجميع إلى المائدة، سيبقيهما الحرمان من الطعام على بطون خاوية.
تركت ميلاني الخادمتين الباكيتين خلفها وتوجهت إلى جناح سيدتها.
“هل بيت كهذا عاجز إلى حدّ أنه يحتاج تضحياتكن البائسة كي يقوم على قدميه؟”
ومع ذلك، تسللت إلى نفسها خيبةٌ مبطّنة.
هل كان ما أظهرته سيدتها في الأيام الأخيرة مجرد قناع كما حذّرها الدوق؟
خبر استدعاء أهل المشغل أعاد إليها قلقًا قديمًا: لعل بذور البذخ قد عادت لتنبت من جديد.
(لا بد أن أتحقق من خطط سيدتي بنفسي.)
فلو انغمست مرة أخرى في الإسراف، فقد تُهدر حتى ما تبقى من ميزانية القصر الضئيلة.
“كبيرة الخدم!”
وأثناء صعودها الدرج الرئيسي بوجه متجهم، ظهرت مارشا بخدّين مورّدين من الحماس.
“مارشا، ألم أقل لكِ أن الهدوء من شيم أهل الدار؟”
ابتسمت مارشا معتذرة، وهي ترد بخفة:
“أعرف، لكنني كنت أبحث عنك. سيدتي الدوقة تطلبك.”
“سيدتي؟”
“نعم، تعالي بسرعة.”
تابعت ميلاني السير خلف مارشا، تنظر إليها بامتعاض لأنها ما زالت تدندن رغم ملاحظتها قبل لحظات.
“سيدتي، استدعيتني؟”
كان اللقاء في صالون الدوقة الخاص.
وعلى الطاولة أمامها صندوق صغير مغلف بعناية. بدا أن خبر قدوم خياط المشغل كان صحيحًا، لكن… ربما لم يكن الأمر كما ظنّت.
“هذا لكِ.”
أخذت ميلاني الصندوق مترددة، وسألت بحذر:
“هل لي أن أعرف ما بداخله؟”
فقد كانت سيدتها في بدايات زواجها قد حاولت استمالة الخدم بالهدايا والمال.
“إنه زيّ رسمي جديد لك. دفعته من مالي الخاص، فلا تقلقي بشأن ميزانية القصر.”
“لكن… لماذا؟”
غامت نظرات نينا بلون البحر البعيد، وارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة، كأنها تسترجع ذكرى بعيدة.
“أتذكرين؟ حين التقيتُك أول مرة، كنتِ ترتدين هذا الزيّ بعينه.”
تلاقت عيناها مع طوق كمّ ميلاني، ذاك الطوق الكحلي الداكن.
لون يوشك أن يكون أسود، يشيخ مع الزمن لمن يتأمله عن قرب.
أما الأزرار المعدنية في الأصفاد، فقد تراكمت عليها خدوش السنين، شاهدة على صرامة ميلاني حتى مع نفسها.
“أنا أقدّر فيكِ عادتكِ في الاعتناء بالأشياء القديمة، وطباعكِ، وقلبكِ. لكن في هذا الزيّ ذكريات عن وجهي الأحمق، تلك الذي كنت عليه من قبل.”
تراجعت نينا خطوة إلى الخلف، وكأنها تقول إنها لن تتراجع عن منح الهدية.
وكانت على شفتيها ابتسامة شجن لا تشوبها مرارة ولا كراهية، بل صفاء امرأة خلعت عن نفسها شوائب الماضي.
“لا أعلم كم سأبقى هنا بعد الآن. لكنني أودّ، إن ذُكرت، أن يُقال إن خاتمتي لم تكن سيئة تمامًا. ربما هو رجاء أناني… لكن هذا كل ما أملك.”
شعرت ميلاني بانقباض في صدرها.
فلم يكن هذا مجرّد ندم عابر أو اعتراف عادي، بل بدا وكأن سيدتها تفكر في الطلاق حقًا.
بشفاه مطبقة وحيرة ثقيلة، ظلت صامتة، يتصارع في داخلها إدراكٌ مربك.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 14"