كشف زوجها أمام الملأ أنّ جدّها قد تدخل في محكمة الوصاية التابعة لعائلة باييرن كي يُبرم ذلك الزواج، مقدّمًا الدليل على ذلك—رسالة مزيّفة كان قد كتبها بنفسه.
ولم يكتفِ بهذا، بل فضح أيضًا أنه كان يمارس الربا على أولئك الناس.
تعيين قاضي القضاة هو من صلاحيات الإمبراطور.
والإمبراطور، الذي يولي عناية فائقة بالمسؤولية الأخلاقية للطبقة الحاكمة، تلقّى ذلك الانحراف الأخلاقي من القاضي وأسرته المباشرة كمسألة في غاية الخطورة.
فالسبب الذي مكّن الإمبراطور الحالي من ترسيخ سلطانه لم يكن إلا احترام الرعية له، الناشئ من عدله وطيب سريرته.
“وها أنا أصلًا كنت في وضعٍ حرج مع العائلة الإمبراطورية بسبب ما بدر مني في حفلٍ خيري…”
قد يُمكن الادعاء بأن عربدتها في المجتمع الراقي كانت بدافع الغيرة والخصام العاطفي،
لكن الربا المفروض على عامة الشعب لم يكن سوى استغلال صريح للطبقة الخاضعة.
زوجها رفع الأمر إلى البلاط الإمبراطوري، وشكّك في أهلية القاضي الأعظم، الأمر الذي أثار خيبة عميقة لدى الإمبراطور ودفعه إلى خلع جدي عن منصبه.
ثم تتابعت الحوادث حتى سقط بيت تايلور الدوقي، الذي كان قد شيّد تاريخًا مجيدًا وطويلًا.
ومهما يكن، فقد كان ذلك السبب الذي وجّه الضربة القاضية إلى الجدّ، ولهذا وجب على نينا أن تحسم هذا الملف، سواءً طمعًا في نيل ثقة زوجها أم لا.
جلست نينا على الأريكة، ونظرت إلى تشارلز وأربعة من “الزنابير” الواقفين أمامها بارتباك.
قالت بهدوء:
“تعالوا جميعًا، اجلسوا هنا.”
وربما لأنها كانت المرة الأولى التي تعرض عليهم الجلوس معها، فقد تبادلوا النظرات بحيرة.
كانوا يخشون أن ينالهم غضبها إن تجرأوا على الجلوس قبالتها.
“لو تركتهم على حالهم لظلوا واقفين إلى الأبد متوجسين…”
تنهدت في سرها، ثم شددت نبرتها قائلة:
“إلى متى ستجعلونني أنظر إليكم من أسفل؟”
“لـ… لا، يا سيدتي!”
ارتبكوا جميعًا وجلسوا مسرعين.
“أنتم تستطيعون قراءة ما يكفي من الكلمات لتفهموا مضمون هذه السندات التي كتبتها، أليس كذلك؟”
“ن… نعم، ولكن لماذا…؟”
بما أنهم خدم لدى بيتٍ نبيل، فقد تعلموا شيئًا من القراءة والكتابة.
لكن الطرف الحقيقي في تلك العقود لم يكن هم، بل أمهاتهم العجائز أو إخوتهم وأخواتهم الذين لا يعرفون الكتابة من الأساس.
“…لهذا حان الوقت لتحريركم.”
دفعت نينا أمامهم العقود ومعها كيسًا ثقيلاً.
“هذه السندات، وهذا ما دفعتموه من فوائد طوال الوقت. أعيدها إليكم كاملة.”
ارتسمت على وجوههم الخمسة ملامح ذهول.
لقد جاؤوا وهم مستعدون للركوع والتوسل، فإذا بها تَعِدهم بالتحرر من قيود الدين!
صحيح أنهم سمعوا أنّ سيدتهم قلّلت من خروجها في الآونة الأخيرة، لكنهم ظنوا أنّها كانت تمضي وقتها في الراحة والترف، لا في مثل هذا القرار.
“سي… سيدتي، لماذا تفعلين هذا فجأة؟”
امتزجت الدهشة بالريبة في نظراتهم. أترى تخفي نوايا أخرى؟
أطلقت نينا تنهيدة طويلة.
لقد تعلمت من علاقتها بزوجها أنّ الاعتذار وحده لا يكسب ثقة الآخرين.
وكذلك الحال مع هؤلاء.
إذن لا بد أن تمنحهم سببًا يجعلهم يطمئنون إلى استرجاع المال.
“هناك شرط.”
“شرط؟ أي شرط…؟”
“أريد منكم شيئًا واحدًا فقط.”
كانت تعلم أنّ أمامها مهلة لا تتجاوز عامًا واحدًا قبل الطلاق، وخلال هذه الفترة عليها أن تصنع لنفسها بيئة مريحة.
ومن المحتم أن ترافق زوجها في المناسبات الاجتماعية، لكن لا بد من تنقية الأجواء قبل ذلك.
“هل يتعلق الأمر بالدوق؟” سألها تشارلز بنظرة مترددة.
هزّت نينا رأسها نافية:
“لا، لا علاقة له بالدوق. لكن هناك من يسرّب شؤون المنزل إلى الخارج… خصوصًا إلى بيت دوق نود.”
ومهما كانت فضائحها صاخبة، ومهما استحال إسكات الألسنة جميعها، فقد بدا لها أنّ شيئًا ما غير طبيعي.
فكلما تتبّعت الإشاعات التي طالتها في المجتمع الراقي، انتهت الخيوط دائمًا إلى دوقة نود.
“أتقولين إننا إن كشفنا ذلك، ستعفين عن الديون وتردين إلينا كل الفوائد؟”
سألها تشارلز بدهشة لا يصدقها عقل.
فأجابته بصوت خفيض وحازم:
“بل وأكثر من ذلك، إن نفذتم ما أوصيكم به بدقة، سأمنحكم مكافآت إضافية.”
في حياتها السابقة، كان الجميع قد تواطأوا على إنكار الأمر، فاستحال عليها القبض على الفاعل.
لكن الآن؟ إن كانت هي من تحررهم من ربقة الدين، وتغدق عليهم أيضًا حلاوة الجزاء…؟
تأملت نينا العيون المرهقة أمامها وقد تلألأت فيها شرارة الرجاء، وابتسمت ابتسامة ذات مغزى.
***
“…تقول إن تلك المرأة كفّت عن لعبها بالربا؟”
“نعم. تبيّن بعد تحرٍّ هادئ أنّها وعدت بأن تردّ كل ما دفعوه من مال إن هم كشفوا لها من يسرّب أخبار القصر إلى الخارج.”
من ينقل الأسرار إلى الخارج…
كانت الفضائح التي تثيرها نينا من الضخامة بحيث تضاعف مبيعات صحف القيل والقال أضعافًا مضاعفة.
وإذا وصل الأمر إلى أعمدة الصحافة الصفراء، فهذا يعني أنه خبر لا يُمكن دفنه حتى لو أُحكم الصمت على أفواه الخدم.
ولذلك فاقتفاء أثر الواشي لن يكون بالأمر الهيّن، إذ يكاد لا يوجد خادم لا يتحدث عن تصرفاتها.
ما إن أنهى جيفري تقريره حتى لاذ آش دي باييرن بالصمت لحظة، ثم قال ببرود:
“…اخرج.”
وما إن غادر الرجل، حتى أنزل آش قلمه الفاخر على سطح المكتب محدثًا طقطقة حادة.
“…أي امرأة في الدنيا، يقال لها من فم زوجها إنه لا يجد رغبة فيها، كيف لها ألا تتألم؟”
كان ذلك لأن ملامح زوجته جالت في ذهنه فجأة: وجهها الشاحب، عيناها الزرقاوان وقد خيّم عليهما ظلّ قاتم، كتفاها المتهدلتان بكسرة، صوتها المبلل برطوبة الحزن.
فجأة، وعى أنها إنسانة يمكن أن تُجرَح هي الأخرى، وأنه قد تفوّه بكلمات لم يكن عليه أن يقولها. تسلّل شعور مزعج إلى صدره.
“…لا بد أنّ عقلي أصابه خلل.”
جُرحت أو لم تُجرح، فما شأني أنا؟
ثم هل جرحت حقًا؟ فبمجرد أن استعادت سلطتها على الخدم، سارعت بإرسال وصيفة إلى غرفة الملابس، كأنها لم تُقلع عن طباعها القديمة.
لا شك أنّ معاشرة تلك المرأة سنين طويلة قد أفسدت رأسه.
استشاط غضبًا من نفسه لأنه كاد ينخدع للحظة بمظهرها الكسير، فمدّ يده بعصبية يزيح خصلة شعر عن جبهته.
طرقٌ خفيف.
“إنه أنا، هل لي بالدخول؟”
“…ادخل.”
دخل بخطى رشيقة رجل عجوز، شعره الأبيض كثيف ومنفوش، تتلألأ عيناه من وراء نظارة رقيقة الإطار من الفضة.
إنه البارون هوشي ب. سمرُدن، معاونه الذي كان قد غاب في إجازة شخصية.
“معاليكم، لقد أعددت هدية بمناسبة عودتي، ألا يمكن أن تستقبلوني ببشاشة أكثر قليلًا؟”
أي مكيدة كان يحيك هذه المرة؟
تأمل آش ابتسامته الماكرة وهو يقطب حاجبيه ويسأله:
“أي هدية؟”
ذلك الوجه المبتسم يوهم باللطف، لكن لا ينبغي الانخداع به.
خصوصًا حين تزداد عيناه المغمضتان شبه تمامًا، حتى يكاد يشبه ثعلبًا يبتسم وهو يخفي أنيابه.
“هدية لرجل لم يؤدِّ يومًا دور الصهر الصالح، حتى الآن.”
وهذا لا يعني سوى أنه خطط لأن يكون حظه قائمًا على شقاء غيره.
“صهر ، هل تقول أنك قبضت على نقطة ضعف لبيت تايلور؟”
“نقطة ضعف؟ بل قل هدية ثمينة. لا تكن قاسيًا في الوصف.”
“أتظن أنّ تزيين الكلام يحوّل المكائد إلى هدايا؟ كفّ عن الهراء وقل ما لديك.”
أدار هوشي شفته السفلى متصنّعًا الخيبة من جفائه، ثم قال:
“قيل إن ثمة مشكلة طرأت على المؤن المخصَّصة للحفل الخيري.”
كان الحفل الخيري، الذي يُقام مرتين في العام، من أبرز واجبات الطبقة الأرستقراطية.
فالأمراء والنبلاء الكبار يدعمونه بالمال أو بالسلع، فيستعرضون بذلك سخاءهم وجلال مكانتهم.
وقد تبرع آش هذه المرة بكمية هائلة من المؤن الغذائية—ما يكفي لإطعام عشرة آلاف نسمة.
صحيح أنّ فقراء المدينة الذين كثيرًا ما ينامون جوعى كانوا سيأكلون ما وُضع أمامهم بامتنان، حتى لو كان فاسدًا، لكن في هذه المناسبة يتشارك الجميع—من الإمبراطور نفسه إلى النبلاء—الطعام ذاته.
وكانت هذه فلسفة جلالته: أنّ الحاكم الحق لا بد أن يعيش همّ رعيته ويذوق ما يذوقون.
نعم، كان من الممكن التلاعب وصنع أطعمة خاصة لأفواه الأمراء والنبلاء، لكن الفضيحة حين تُكشف ستكون كارثية.
سأله آش بوجه متجهّم:
“عند فحص الشحنة لم يكن ثمة عيب. هل ظهر الخلل أثناء النقل إلى العاصمة؟”
“لقد كان الصيف كله ماطرًا، والجو رطبًا في العاصمة. ذلك أفسد المؤن.”
وقد حُفظت هذه المؤن في مخازن بيت باييرن في ضاحية من ضواحي العاصمة، حيث خُزّن أيضًا ما تبرعت به بيوت النبلاء الأخرى.
“…وما علاقة هذا بالهدية التي تتشدّق بها؟”
انتفخ فك آش غضبًا وهو يتهيأ لسماع التفسير، فإذا بهوشي يبتسم بخبث أكبر ويقول:
“لأن المسؤول عن تلك الكارثة ليس سوى بيت اللورد كورتني.”
وما إن ذكر اسم تلك العائلة المألوفة، حتى ومضت عينا آش الرماديتان ببريق حاد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 13"