ميلاني أطبقت شفتيها وقد ارتسمت على وجهها ملامح حيرة مكتومة، كأن السؤال باغتها وأفقدها القدرة على الكلام.
قالت نينا بصوت هادئ لكن حازم:
“أنا لا أزعم أن روح الاقتصاد والتقشّف أمر سيئ على إطلاقه. فالاعتدال فضيلة، ومن ذا الذي ينكر ذلك؟”
صمتت ميلاني، وعيناها غارقتان في تعقيدات يصعب فكّها.
أردفت نينا:
“لكنني لا أريد أن يتحول البشر إلى سلعة تُستهلك ثم تُستبدل لمجرد أننا نوفر بضع عملات معدنية. بهذا النهج، لن يحصد خدم الدار إلا أمراض المهنة، وسيمضون إلى التقاعد المبكر بعدما يُستنزفون حتى العظم. أليس هذا بعينه ما يُسمى معاملة الناس كالأدوات المستهلكة؟”
لمعت عينا ميلاني للحظة، قبل أن تهمس بصوت خافت، كأنها تذعن لواقع لا يمكن إنكاره:
“……صدقتِ، البشر ليسوا أدوات تُستهلك.”
أكان كلام نينا قد نجح في أن يلامس قلبها؟ بدا أن بؤبؤيها البنيين قد صفا فيهما ضوء جديد، كأنها أدركت للتو حقيقة لم تسمح لنفسها من قبل أن تواجهها.
ابتسمت نينا قليلًا وقالت:
“ما دمتِ فهمتِ قصدي، فأريدك أن تطلبي غدًا كل ما هو ضروري من المستلزمات. وأضيفي أيضًا خادمات جديدات إلى الطاقم.”
رفعت ميلاني رأسها بتردد:
“لقد وجدتُ بالفعل بديلتين عن الفتاتين اللتين طُردتا مؤخرًا، أترغبين حقًا في المزيد من التوظيف؟”
ارتسمت على شفتي نينا ابتسامة رقيقة. لقد تغيّر أسلوب ميلاني. لم تعد تواجه الأوامر بالاعتراض أو العناد، بل صارت تسعى لتأكيدها بوضوح. وهذا يعني شيئًا واحدًا: أنها قبلت أن تقف في موقعها الطبيعي، كبيرةً للخادمات، إلى جانب سيّدتها.
“حتى مع احتساب هاتين، ما زال البيت في حاجة إلى مزيد من الأيدي. إن ضغط العمل وساعاته خانقة إلى حد لا يُطاق.”
فالعمل المنوط بالخادمات، لا سيما المسؤولات عن التنظيف، أقرب إلى الأشغال الشاقة. فالأفران، والسلالم، والأرضيات، والنوافذ، والحمّامات… قائمة لا تنتهي.
وما هو أشد، أنهن كثيرًا ما يضطررن لحمل أعباء أقسام أخرى فوق مهامهن الأصلية.
كثيرًا ما يبدأ يومهن مع الفجر، في الخامسة صباحًا، ولا يضعن أيديهن حتى منتصف الليل.
“ببضع مساعدات إضافيات، سيجدن على الأقل ساعات يخلدن فيها إلى نوم هادئ.”
أطرقت ميلاني ثم قالت رسميًا:
“أمركِ، سيدتي. سأُنجز كل ما طلبتِ بحلول الغد.”
وخرجت دون أن تضيف كلمة أخرى.
“هـــــاااه……”
انفلت من صدر نينا زفير طويل. لقد كانت متوجسة أن تتحول محاولة إقناع ميلاني إلى صدام مرير، لكن الأمر انتهى بسهولة فاقت توقعاتها.
“سيدتي، ها هو الماء.”
كان صوت مارشا يقترب وهي تحمل الكأس بخفة، ثم قدمته لها بابتسامة.
“شكرًا لكِ.”
لقد تحقق الهدف الأول: استعادت زمام الإدارة الداخلية، وأرست الأساس لتلميع سمعتها داخل البيت.
لكنها كانت تعلم أن النتائج تحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك لتظهر سريعًا.
كان عليها أن تدعم خطوتها بدفعة إضافية، كدواء يُسرّع المفعول.
نهضت نينا من مقعدها، وفتحت باب غرفة الملابس باندفاع.
“مارشا.”
“نعم، سيدتي؟”
غرفة فسيحة تغصّ بأزياء فاخرة تتلألأ ألوانها وأقمشتها تحت ضوء النهار.
تأملت نينا المكان بنظرة شاردة، وهي تسترجع كيف كانت هذه الثياب تملأ فراغ قلبها ذات يوم.
قالت ببطء:
“لنَبِع بعض الفساتين.”
أشرق وجه مارشا بحماس، كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ زمن.
فمسؤولية ترتيب غرفة الملابس المزدحمة دائمًا ما تقع على عاتقها، وكلما خفّ العبء هناك، زاد ارتياحها.
“بأيها أبدأ؟”
“انتقي بعض الفساتين التي خرجت من الموضة أولًا.”
كانت الفساتين باهظة الثمن.
وفساتين نينا بوجه خاص قد تبلغ قيمتها – بلغة النقود الحديثة – من مئات الآلاف إلى الملايين.
فالثمن يتحدد تبعًا للمصمم، ونوع القماش، والجواهر المثبتة، والدانتيل المنسوج بأنماط دقيقة… عوامل تجعل الفارق في القيمة شاسعًا.
“لنكتفِ بخمسة فساتين كبداية.”
وكأنها كانت تخطط لهذا منذ زمن، أخرجت مارشا بخفة خمسة فساتين لم يعد رائجًا ارتداؤها.
“بهذه، نستطيع شراء أربع أو خمس بقرات على الأقل.”
اتسعت عينا نينا بدهشة طفيفة:
“حقًا؟ لم أتوقع أن تكون قيمتها هكذا.”
ضحكت مارشا بخفة:
“وهذا لا يُقارن بما دفعتهِ حين اشتريتها، لقد كانت قيمتها عشرة أضعاف هذا! يا للخسارة… خاصة أن بعضها لم ترتديه سيدتي قط.”
جمعت الفساتين بين ذراعيها وهي تتمتم بأسف حقيقي:
“لكن، سيدتي…”
“نعم؟”
“ما السبب الذي جعلكِ تقررين فجأة بيع فساتينك؟”
نينا ابتسمت برقة وهي تنظر إلى مارشا التي كانت تترقب جوابها بعينين يملؤهما الفضول، وقالت:
“لنشترِ بعض الثياب.”
ليس ثيابي أنا، بل ثياب الخدم.
—
بعد أن أنهى عمله بعد الظهر، وقف آش يتأمل من نافذة مكتبه. كان المساء يزحف ببطء، والظلال تبتلع أطراف السماء.
“سيدي، أأدخل للحظة؟”
جاءه صوت جيفري، في اللحظة التي كان يوشك فيها أن يسترخي بعد عناء النهار.
“ادخل.”
ما إن أغلق جيفري الباب بهدوء خلفه حتى بادره آش بالسؤال:
“ما الأمر؟”
“كما أمرتم، قمت بالتحري عن حال سيدتي، لكن لم أجد أدنى خيط يوحي بأن أخبار فخامتكم قد تسربت.”
“لم تجد شيئًا؟”
“نعم، أعلم أن الأمر يصعب تصديقه، غير أن طلب سيدتي الطلاق يبدو أنه وليد تغيّر في قلبها لا غير.”
“…….”
“أستميحكم عذرًا، لكن قلوب الناس قد تنقلب في لحظة. وإن مرت بتجربة قاسية، فما الغرابة إن تبدّلت مشاعرها؟”
“هكذا إذن.”
أومأ آش بوجه جامد وهو يتقبل التفسير. فتردد جيفري لحظة ثم قال بخفوت:
“…إن أمرتم، يمكنني أن أعيد التحقيق من جديد.”
كان من الطبيعي أن يظل آش مرتابًا في زوجته، فقد شك بها طويلاً. لكنه هز رأسه رافضًا:
“لا داعي، أظن الأمر ليس ضروريًّا.”
إن كان جيفري قد بحث بنفسه ولم يجد شيئًا، فإما أن نينا قد أخفت كل أثر بإحكام، أو أنها ببساطة لم تترك وراءها ما يُفتّش عنه.
“إذن أستأذن في الانصراف.”
انحنى جيفري بأدب وغادر المكتب، فعاد آش بصره إلى النافذة.
ومهما كان ما تخطط له، فإن حقيقة أنه سيطلقها بعد عام لن تتغير.
عيناه الرماديتان، العالقتان بالموعد المرتقب، غاصتا في سكون غامض.
أما خادمات الاستقبال و”الفوتمن” فقد كان يُمنح لهم زيّ إضافي أو أكثر، لكونهم الوجه الظاهر للمنزل أمام الغرباء. غير ذلك لم يكن أحد يُستثنى من القاعدة.
بيت باييرن لم يختلف عن سواه، سوى أن زيّاتهم تميزت برقيّ وأناقة جعلت الكثير من طالبي العمل يتطلعون إلى خدمته.
لكن، وماذا بعد؟
ففي عالم بلا غسالات، كان تبادل ارتداء زيّين فقط، أمرًا لا يُطاق، يكاد يكون جحيمًا بعينه.
“…سيدتي، لقد عدت!”
دخلت مارشا متهللة الوجه بعد عودتها من مهمتها.
“كيف جرى الأمر؟”
“لقد سلّمت كل شيء لمشغل الأزياء في المدينة. سيبعثون إلينا بالدفعة الأولى في غضون عشرة أيام على الأكثر.”
مآزر الخادمات، فساتينهن الموحدة، القبعات،
وقمصان الخدم، سراويلهم ومعاطفهم،
إضافة إلى زيّات السائقين والفوتمن…
كنت أخشى أن يستغرق إنجاز هذا العدد الكبير من الطلبات وقتًا طويلًا، لكن ما دمت سأحصل عليها أسرع مما توقعت، فهو أمر يبعث على الطمأنينة.
“وماذا عن زيّات كبير الخدم ورئيسة الخادمات؟”
“طلبت أن تُسلَّم فور الانتهاء منها. وهذا الباقي من النقود.”
أخرجت مارشا كيسًا ثقيلاً وهي تبتسم ابتسامة خجولة. كان المال المتبقي بعد أن باعت الفساتين وأعطت مشغل الأزياء عربونًا للتفصيل.
“لقد بذلتِ جهدًا عظيمًا، اعتبري هذا مصروفًا إضافيًا مني لكِ.”
انتزعت نينا قدرًا من المال يساوي تقريبًا أجرة ثلاثة أشهر وأعطته لمارشا.
“يا إلهي، يبدو أنني وُلدتُ لأكون خادمة سيدتي الخاصة فقط…!”
نعم، ابقِ إلى جانبي دائمًا.
ففي المستقبل سأجعلك تنعمين حقًا بما تستحقين.
ضحكت نينا للحظة وهي ترى مارشا تكاد تطير فرحًا بالمكافأة السخية… لكن سرعان ما خبت ابتسامتها.
“…اليوم هو ذاك اليوم، أليس كذلك؟”
“نعم، لقد حان.”
ارتسمت على شفتي نينا ابتسامة مرة وهي تسترجع ما اقترفته.
أجل، قد أتى أخيرًا اليوم المنتظر.
اليوم الذي ينبغي أن تُحرّر فيه ضحايا رباها من قيودهم.
“أظن أن عليَّ أن أتفقد الخزنة.”
فتحت نينا الخزنة المخبأة في أعماق غرفة الملابس. كان بداخلها رزم من المال، وسندات دين، ودفاتر الربا، وما إن بدأت تتصفحها حتى شعرت بالاشمئزاز.
حقًا؟ لقد كانوا يسددون بانتظام، ومع ذلك فالفوائد تفوق أصل الدين؟
كانت تلك الدفاتر شاهدة على حقيقة أن الغاية لم تكن المال، بل إذلال الناس وإخضاعهم. نسب فوائد قاسية ووحشية، بلغت حدًّا يجعل من معجزة الربا أن دينًا قدره مليوني وون يتضاعف ليصير أربعين مليونًا في نصف عام فقط.
…أصل الدين سُدِّد منذ زمن بعيد.
ومع ذلك، كان المدينون يسددون “فوائد الفوائد”، يكدحون ليل نهار وهم في الحقيقة يموّلون شبكات المراقبة والتجسس.
نينا، وهي تقرأ ما كانت قد اقترفته في حياتها السابقة، لم تتمالك نفسها من هز رأسها مرارًا وقد غمرها شعور بالمرارة.
“سيدتي، لقد وصلوا.”
كانت جاثية أمام الخزنة تحصي الأموال حين جاءها الخبر بأن “الطيور” التي تعمل لصالحها قد حضرت. أسرعت بترتيب السندات والمال وخرجت.
في قاعة الاستقبال، كان ينتظرها رجال في منتصف العمر، بوجوه شاحبة وعيون غارقة في القلق.
“سيدتي، نرجوكِ هذه المرة فقط، أن تنظري بعين الرحمة… لقد مرض والداي، واضطررت إلى إنفاق المال على الأدوية، ولم يعد بوسعي…”
“سيدتي… أرجوكِ، فقط أمهليني أيامًا قليلة. هناك مال سيصلني قريبًا، وأقسم أنني سأسدد فورًا!”
كانوا رجالًا أُثقل كاهلهم بديون لم يقترضوها بأنفسهم، بل ورّطتهم بها عائلاتهم، ليجدوا أنفسهم مكبلين كالعبيد، يُستنزفون بلا رحمة.
وفي حياتها السابقة، حين واجهتها توسلاتهم، لم تجد في قلبها سوى سخرية باردة.
“إن لم يكن لديك مال، فيجب أن تكون لك قيمة على الأقل. لكن أنتم… لا تقدمون سوى تقارير تافهة لا فائدة منها، ثم تأملون في رحمتي؟ هل الفقر دائمًا يُجرد الناس من الحياء؟”
كانت تنفجر في وجوههم بالهستيريا، ثم بعد أن تُشبع غيظها، تتظاهر بالكرم، وتمنحهم “مهلة” وكأنها تتفضل عليهم.
آنذاك لم تشعر بأي ذنب، ولا طاف ببالها وخز ضمير. كل ما كان يسيطر عليها هو هدف واحد: أن تُحكم الطوق حول عنق زوجها.
“أرجوكِ، امنحيني فقط بضعة أيام… سأجلب لك معلومات ذات قيمة حقيقية!”
قالها أحدهم، وهمَّ أن يجثو على ركبتيه.
لكن نينا رفعت يدها باضطراب، وفي عينيها مزيج من التوتر والحزن:
“كفى… كفّوا عن ذلك واهدأوا.”
أكان اسمه تشارلز؟
ذلك الرجل الذي كان يعتني بالخيول، يؤدي أعمال الإسطبل، ويعاون السائس. كان بين حين وآخر يرفع إليها تقارير عن تحركات الدوق، التقطها عرضًا من كلمات السائس، لكن الحقيقة أنها كانت عديمة النفع.
“ذهب إلى اجتماع سياسي”، “حضر مأدبة رسمية”… أخبار كان يمكن لأي عين عابرة أن تلحظها بلا عناء.
ولم يكن حال الآخرين أفضل. تقاريرهم أيضًا خاوية، لا تحمل أي وزن.
لكن المسألة لم تكن في جدوى تلك المعلومات.
بل في أن وجود هؤلاء “المخبرين” كان أحد الأسباب التي أودت بجدها إلى السقوط…
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات