‘نعم، أعترف بأنني لطيفة فعلًا. ولكن، ثمَّ ماذا؟ ما الفائدة من الجمال وحده؟’
كانت جوسيليا تبلغ من العمر قرابة ثمانية أشهر.
ومع ذلك توقّف نموّها عند حجم شبل نمرٍ لم يتجاوز شهره الأوّل.
وقد اجتمع الأطباء الملكيّون والكهنة حولها، وأعلنوا أنّ بطء نموّها يعود إلى كونها نمرًا أبيض، بل ذهبوا إلى حدّ القول إنّ قوّةً خفيّةً ما تعيق هذا النموّ.
صحيح أنّها كانت أول نمرٍ أبيضيُولد في العائلة الإمبراطورية لبينترين، غير أنّها لم تكن أول نمرٍ أبيض يُولد في العالم.
فقد وُلدت نمورٌ بيضاء في عائلاتٍ أخرى من قبل، إلا أنّها جميعًا كانت هزيلةً وضعيفة، ولم يُكتب لأيٍّ منها طولُ العمر.
ومن ثمّ استنتج قوم الوحوش المحيطون بها أنّ بطأ نموّ الأميرة جوسيليا، وهزال جسدها، ما هو إلا أثرُ كونها نمرًا أبيض.
حين سمعت ذلك، انتابها الغيظ، فأخذت تخدش الأرض بمخالبها الصغيرة في حنقٍ لا يُطاق.
‘ومتى إذًا سأكبر؟ ومتى سأنجح في التحوّل إلى هيئةٍ بشرية؟ هذا أمرٌ لا يُحتمل!’
عادةً ما يتمّ اكتمال التحوّل البشريّ لدى قوم الوحوش ما بين الرابعة والثامنة من العمر، لكنّ جوسيليا، بهذا البطء، لم تكن تعرف متى سيحين دورها.
كان ذلك يُثقل صدرها ويزيدها إحباطًا يومًا بعد يوم.
فكلّ من حولها من خدمٍ ووصيفاتٍ وأوصياء قد اتخذوا هيئاتٍ بشرية، بينما هي ما زالت صغيرةً تمشي على أربع.
تاقت إلى أن تسير على قدمين وأن تتكلّم مثلهم.
‘آهٍ…’
بعد أن أنهى ريتاين خطبته الطويلة المفعمة بالتحذيرات وغادر القصر الإمبراطوري، قفزت جوسيليا إلى حافة نافذةٍ عاليةٍ وأخذت تحدّق في الخارج، مستغرقةً في التفكير.
ومنذ أن تقرّر أنّ بطأ نموّها سمةٌ ملازمةٌ للنمر الأبيض، ازداد الجميع – وفي مقدّمتهم الإمبراطور ريتاين – حرصًا عليها وحمايةً لها.
وضعت جوسيليا كفّها الأماميّ على زجاج النافذة وتنهدت.
‘سحقًا… كم أكره كوني نمرةً بيضاء. ليتني كنتُ نمرًا عاديًّا فحسب! لو وُلدتُ كنمرةٍ ذهبية، لما واجهتُ كلّ هذا العناء.’
كانت تشعر بالأسف لأمّها التي بذلت حياتها لتلدها، ولأولئك الذين انتظروا ولادة النمر الأبيض الموعود، لكنّها – بصفتها صاحبة الشأن – لم تشعر إلّا بالضيق والامتعاض.
‘آهٍ… لولا تلك النبوءة اللعينة.’
كانت تلك النبوءة هي السبب الذي جعل الوحش الإلهيّ غاناش ينتظر ولادة نمرٍ أبيضٍ في العائلة الإمبراطورية لبينترين.
وقد روت لها سوفي تلك القصة في إحدى ليالي الطفولة من كتاب الحكايات.
منذ زمنٍ سحيقٍ جدًّا،
قبل أن تنقسم القارّة الواسعة إلى شرقيّةٍ وغربيّة،
كان البشر وقوم الوحوش يعيشون في سلامٍ نسبيٍّ ووئام.
ثمّ فجأةً، اجتاحت الأرض موجةٌ من الدماء.
فقد ظهر كائنٌ عظيم يُدعى الوحش الإلهيّ المظلم، وجمع أتباعه وعمّ الخراب في العالم، يقتل بلا رحمةٍ كلّ حيّ.
اتّحد البشر وقوم الوحوش في وجهه، لكن بما أنّه كان زمنًا لم تتكوّن فيه بعدُ الأممُ والنظمُ، فقد عجزوا عن مقاومته مقاومةً منظّمة، فهُزموا شرّ هزيمة.
وحين ضاقت الأرض من هول الدماء، تدخّلت الوحوش الإلهية نفسها لإيقاف ذلك الجبّار.
لكنّ صدام القوى الإلهية العظمى جعل القارّة نفسها تتحوّل إلى أنقاض.
تزايد عدد القتلى والجرحى حتى غدا الأمر كارثةً لا تُحتمل.
وحينها، لم يعد هناك مجالٌ للتردّد.
تقدّمت آناش – النمرة البيضاء الإلهية، إحدى إخوة الوحوش الإلهيين من نسل النمور – إلى ساحة القتال.
وفي معركةٍ طاحنةٍ لا مثيل لها، حاصرت الوحش الإلهيّ المظلم، وضحّت بنفسها، مفجّرةً قوّتها الخارقة الفريدة لتقضي عليه، فهلكا معًا.
ولا تزال آثار تلك المعركة الجبّارة محفورةً في وجه القارّة حتى يومنا هذا، وأبرزها تلك الجبال والأنهار التي تفصل بين القارّة الشرقية والغربية، شاهدةً على تضحيتها الخالدة.
كانت معركةً مهولةً مروّعة بلغت من شدّتها أن شقّت القارّة نصفين، فخلّفت جبالًا شاهقةً وأنهارًا عميقةً لا تُجتاز.
‘ومن ثَمَّ، تقاسم البشر وقوم الوحوش القارّة المنقسمة، أليس كذلك؟’
تذكّرت جوسيليا تلك الحكاية التي قرأتها في كتب الأطفال، وأغمضت عينيها متأمّلة.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، كانت القارّة الغربيّة قد دُمّرت تمامًا على يد الوحش الإلهيّ المظلم، فبقي معظم الناجين في القارّة الشرقيّة.
ومن بينهم، أعلن البشر – وقد استبدّ بهم الحقد على الوحش الإلهيّ المظلم – أنّهم سيرفضون من حينها بركة قوم الوحوش.
فأقام عددٌ من كبار السحرة البشريّين سفنًا هوائيّةً سحريّة، ونقلوا بها البشر إلى القارّة الغربيّة.
آنذاك، سخر قوم الوحوش منهم، معتقدين أنّ أولئك البشر سيهلكون عاجلًا.
‘لكنهم يعيشون الآن على ما يرام، أشعر بالفضول تجاه شعب إمبراطوريّة ريلبرغ أيضًا.’
وبأيّ حال، ختمت الحكاية بذكر أنّ قوم الوحوش الذين ظلّوا في القارّة الشرقيّة، أسّس فيهم آل بينترين – سلالة النمور – الإمبراطوريّة العظمى.
‘إذًا، يؤمن الوحش الإلهيّ غاناش بأنّ النمر الأبيض المولود في العائلة الإمبراطوريّة لبينترين قادرٌ على وراثة قوّة آناش، أليس كذلك؟ أو لعلّه يظنّ أنّه تجسيدها من جديد.’
كان يُقال إنّ سبب ندرة ولادة النمور البيض، وموتهم السريع، يعود إلى أنّ آناش – النمرة البيضاء الإلهيّة الوحيدة التي كانت تباركهم – قد اختفت.
لكنّ الكهنة والعلماء أجمعوا على أنّ النمر الأبيض المولود في منزل بينترين هو – في الغالب – آناش بعينها.
فالنمر الإلهيّ الأبيض الذي استطاع دحر الوحش الإلهيّ المظلم، لا بُدّ أن يكون ذا قوّةٍ خارقةٍ لا تُضاهى.
‘سخيف… توقّعهم بأن أكون أنا آناش…!’
قهقهت جوسيليا في سخريةٍ لا تصدّق، وحدّقت مطوّلًا في وسادات مخالبها الطريّة التي كانت تستند إلى زجاج النافذة.
‘آناش؟ هراءٌ لا أكثر.’
زمّت شفتيها، ولعقت كفّها الأماميّ الورديّ برفق.
مرحبًا؟ إنّكم مخطئون تمامًا!
أسناني لم تنبت كاملة بعد، وما زلتُ أتناول طعام الأطفال!
لا أستطيع حتى مضغ اللحم كما ينبغي، فأيّ نمرٍ أسطوريٍّ هذا الذي تتحدّثون عنه؟
وقد جُرح كبرياؤها، فبدت كئيبةً مستاءة، وأسندت ذقنها إلى كفّيها على حافة النافذة، تُحرّك ذيلها في ضيق.
“آه! سموّ الأميرة، كيف صعدتِ إلى هناك؟!”
“أر،أرجوكِ، انزلي حالًا!”
كان الفارس زافييت والخادمة يوني قد شاهدا جوسيليا متمدّدةً على أعلى حافةٍ في القصر، فهرعا إليها يلوّحان ويخبطان الأرض قلقًا.
قبل أن يجتمع الناس ويعمّ الضجيج، قفزت جوسيليا بخفّةٍ إلى الأرض، وهبطت برشاقةٍ مدهشة.
“آه! سموّ الأميرة!”
“كيانغ!”
‘هل رأيتم؟ ما زلتُ أقدر على فعل هذا على الأقل.’
لكنّ الفارس زافيت، وقد رأى تلك القفزة، لم يرَ فيها إلا دلالًا طفوليًّا فاتنًا من شبلة نمرٍ صغيرة.
شدّ قبضتيه وارتجف محاولًا كبح ابتسامةٍ حائرة، بينما رمقته يوني بنظرةٍ حادّة، ثمّ وخزته في خاصرته واحتضنت جوسيليا بحنانٍ مفرط.
“آخ!”
“هل آذاك شيء؟ يا إلهي!”
“غررررر!”
رأت جوسيليا منظر الفارس زافيت وهو يصرّ على أنّ ضلوعه تكسّرت من شدّة وخز يوني، فضحكت في سرّها، ثمّ أفلتت نفسها من ذراعيها وتمدّدت على الأرض بتململ.
‘آهٍ، حقًّا… أريد أن أكبر بسرعة.’
لكن، لِمَ أستعجل النموّ؟ أهناك سببٌ لذلك؟
أمالت رأسها في حيرةٍ، وقد راودها شعورٌ غريبٌ يملؤه القلق والاضطراب.
‘كأنّ أحدًا يطاردني… كأنّ شيئًا يسعى نحوي!’
في تلك اللحظة، انتصبت أذناها الصغيرتان حين التقطتا جلبةً في ممرّ القصر.
‘مثل هذا الضجيج لا يحدث عادةً إلّا حين يأتي أبي إلى جناح الأميرة.’
دون أن تدرك، أطلقت على الإمبراطور ريتاين وليّ أمرها اسم ‘أبي’، وشعرت برجفةٍ تسري في جسدها، فقد انتابها إحساسٌ غامضٌ بالخطر.
لكنّ الإمبراطور ريتاين كان قد غادر القصر هذا الصباح بنفسه، بل ودّعها قائلًا إنّه لن يراها لبعض الوقت، فلا شكّ أنّه بعيد.
‘وهذه الهالة مختلفة عن هالته تمامًا!’
توترت جوسيليا توتّرًا شديدًا لم تشعر به منذ زمن، ووقف فراؤها منتصبًا من الحذر.
وفجأةً انفتح الباب بعنفٍ شديد!
واتّسعت عيناها دهشةً حين رأت الشخص الذي اقتحم جناحها بلا إذن.
‘هاه…!’
بلا وعيٍ منها، رفعت مؤخّرتها واتّخذت وضع الهجوم.
كان الطارق فتىً يرتدي زيًّا أسود قاتمًا، تعلوه وشاحٌ ذهبيّ، وسيفٌ يلمع عند خاصرته.
التعليقات لهذا الفصل " 7"