الغضب والكبرياء إلى جانب ذلك كانت رؤيتها لأبيها بتلك الهيئة البهية والوسامة والطول، وهو يشع بالثراء الفاحش لوحده، يثير غضبها ويُلهب سخطها على حالها.
فوفقًا لسوفي كانت هي النمر الأبيض الذي طالما ترقبه الجميع.
لم يكن في وسعها أن تعيش هكذا.
وما لا تطيقه بالأخص هو أن تكون سوفي التي كانت بمنزلة أم لها محتجزة معها في غرفة ضيقة.
صبرت جوسي وترقبت.
كانت على يقينٍ بأنّ الإمبراطور سيعود إليها ثانيةً، وعندها ستُظهر له عظمتها وتطالبه بمعاملةٍ تليق بمقامها.
وكما توقّعت تمامًا، عاد الإمبراطور ريتاين متخفّيًا في ليلةٍ لاحقة، ولم تمضِ أيامٌ حتى أصبح يزورها على نحوٍ متكرّر، بل وأصبح يجاهر بزيارته نهارًا في حضور سوفي.
وفي كلّ مرّةٍ يأتي فيها، كانت جوسي تبذل جهدها لتُظهر شجاعتها وهيبتها.
وفي أحد الأيام، وقف الإمبراطور ريتاين ويداه متشابكتان على صدره، ينظر إلى جوسي بنظرةٍ جادّةٍ وقال بصوتٍ مهيب.
“لا يصحّ هذا أبدًا. إنّ الأميرة هشّةٌ جدًّا، ولا يمكن تربيتها في غرفةٍ كهذه.”
“صدقتَ، جلالتك!”
“تهيّئي للنقل فورًا سوفي لانغراس. سيكون قصر آرترا مقرًّا لإقامة الأميرة.”
كان قصر آرترا أفخمَ القصور في القلعة الإمبراطورية لعائلة بينترين، يقع في الجهة الجنوبية الشرقية.
ارتجف صوت سوفي من شدّة التأثّر، إذ ستتمكّن أخيرًا من خدمة الأميرة النفيسة في مكانٍ يليق بها.
غير أنّ الإمبراطور ريتاين، الذي ظلّ يرمق جوسي طويلاً، رفع يده ليغطي وجهه وأطلق تنهيدةً منخفضة.
لكنّ الرسّام لم يُبدِ اعتراضًا، فقد اعتاد مثل هذه الطلبات العجيبة، وأخذ يرسم في صمتٍ مطبق.
تنهدت جوسي وهي تنظر إلى الخدم الذين بدأوا يعتادون على أفعال الإمبراطور ريتاين المجنونة شيئًا فشيئًا.
‘الجميع قد جن.’
لا، في الحقيقة، هي من كانت المشكلة الكبرى.
فالإمبراطور ريتاين الذي كان يتدلّى إلى جوارها ضاحكًا، يبتسم بملامح غارقةٍ في الولع الأبويّ، كان مشهدًا سخيفًا بحقّ… لكنّها بدأت، على نحوٍ غريب، تألفه.
وبغير وعيٍ منها، أخذ ذيلها يتمايل ببطء.
في البداية، كانت تُشحذ مخالب انتقامها ضدّ الأب الذي أهملها في تلك الغرفة الضيّقة (مع أنّ مخالبها، في الواقع، لم تكن سوى مخالبٍ طريةٍ ضعيفة)، لكنّ جذوة حقدها أخذت تخبو مع الأيام.
وذات مرّة، بينما كانت تغفو نصف غفوةٍ على ضوء المساء،
مدّ الإمبراطور ريتاين يده يتحسّس ظهرها برفق، وهو يظنّها نائمة، وهمس بصوتٍ متهدّجٍ فيه شجنٌ دفين.
“أظنّني بدأتُ أفهم شعور بريانا حين ضحّت بحياتها لتلدكِ. لا تغفري لي يا جوسي لأنّي أهملتكِ.”
اهتزّ كيان جوسي من وقع كلماته، فقد حمل صوته مزيجًا من الذنب، والوحدة، والأسى، فاخترق أعماقها.
ورغم أنّه بدا أحيانًا كمن فقد صوابه، فإنّها لم تستطع أن تكره حبّه.
بل وجدت نفسها تقرّر في سرّها أن تغفر له… ولو نصف غفران.
‘من أين له بمثل هذه القلادة؟’
نظرت جوسي إلى العقد الذي يلتفّ حول عنقها، والمصنوع من حجرٍ روحيٍّ أبيضٍ مفعمٍ بالسحر.
ولأنّ السحر لا يُلقى على مثل هذه الأحجار إلا بمعرفة سحَرةٍ عظام، أدركت أنّه لا بدّ أنّه استقدم سحرةً من الإمبراطورية الغربية.
‘لا بدّ أنّه أمرٌ بالغ الصعوبة.’
ذلك لأنّ قوم الوحوش لا سحرةَ بينهم.
فهم يولدون ببركة الوحوش الإلهية، ولا يملكون سوى القوى الخارقة التي تُمنح لهم بالفطرة.
لا يستطيعون تحريك طاقة المانا لاستخدام السحر، ولا تثبيتها في الأشياء لصنع الأدوات السحرية.
فالسحر حكرٌ على السحرة الذين يعيشون في إمبراطورية ريلبرغ في الغرب.
منذ عصورٍ بعيدة، أولئك الذين رفضوا بركة الوحوش الإلهية واختاروا أن يعيشوا كبشرٍ خالصين، عبروا إلى القارّة الغربية.
وهناك، اجتمع كبار السحرة وبنوا برجًا أسموه برج السحرة.
ومن هذا البرج، بدأت إمبراطوريتهم تنهض، إذ استخدموا السحر لتطوير الزراعة، وحين ازدهرت الأرض وتكاثرت الشعوب، وُلدت إمبراطورية ريلبرغ.
ومع الزمن، توسّعت حتى صارت من أعظم أمم الغرب.
كانت إمبراطورية بينترين وريلبرغ متجاورتين جغرافيًّا، لكنّهما مختلفتان في الجوهر.
فبينما تُورَّث العرش الإمبراطوري في بينترين عبر الدماء الملكية، كان حُكم ريلبرغ يُمنح لأقوى ساحرٍ في البرج، إذ يُعدّ ‘الأعلى مرتبة’ هو الحاكم.
ولذلك، لم يكن في ريلبرغ ما يُعرف بـ’الأسرة الإمبراطورية’.
وكما لم تتذكّر جوسي شيئًا من ماضيها في إمبراطورية بينترين، كذلك لم تكن تعرف شيئًا عن ريلبرغ.
بل إنّها لم تكن تعلم أصلًا أنّ هنالك مخلوقاتٍ تُدعى بشرًا عاديين يختلفون عن قوم الوحوش.
‘لا أذكر أيّ شيء بوضوح.’
تجهّمت جوسي وهي توبّخ ذاكرتها العاجزة عن استحضار ماضيها السابق
“جوسي، هل حدث شيء غير معتاد؟”
سأل الإمبراطور ريتاين بنبرةٍ لطيفة، فانتفضت جوسي عائدةً إلى وعيها.
“كياانغ.”
“الخروج إلى الخارج خطر، فلا تذهبي. سأغيب على الأرجح هذه المرّة لوقتٍ طويل، لذا أخبركِ مسبقًا.”
رفعت جوسي رأسها كما لو كانت تقول له ألّا يقلق.
ضحك ريتاين برقة، ومدّ يده ليمسح رأسها بحنانٍ عدّة مرّات، ثمّ استدعى كبيرة الوصيفات وحرس القصر، وبدأ يوجّه لهم تعليماته المفصّلة.
لقد أعلن أنّه سيغادر العاصمة اليوم ليتفقّد منطقةً بعيدةً بنفسه.
التعليقات لهذا الفصل " 6"