رمق الإمبراطور حاشيتَه بنظرةٍ حادّةٍ كأنّها سيوفٌ من ذهبٍ مصهور، بينما وقفوا متسمّرين في أماكنهم لا يدرون ما يفعلون.
‘ما بالُكم واقفون هكذا؟!’
ثمّ غيّر نبرته فجأة، وهو يتظاهر بالبحث في أرجاء الغرفة بنغمةٍ مُفرطةٍ في اللطف.
“أوه~ أين يمكن أن تكون صغيرتي؟”
“يا للعجب، يا للعجب! ما أغرب الأمر~! إلى أين اختفت؟”
“هل خانتني عيناي؟! آه، لابدّ أنّ في بصري خللًا، لا أرى الأميرة في أيّ مكان!”
تحوّل الموقف إلى لعبةٍ عجيبةٍ من الغمّيضة، وُلدت كلّها من سوء فهمٍ واحدٍ للإمبراطور نفسه.
أما جوسي، التي وجدت نفسها فجأة وقد أصبحت ‘نمرةً بيضاءَ غير مرئية’ ، ففغرت فاها في ذهول.
‘ما هذا الجنون؟!’
***
إنّ السبب في تمكُّن الأسرة الإمبراطورية لبينترين من إخضاع سائر الوحوش وحُكم الإمبراطورية لم يكن فقط تفوّقهم في القدرات وشراستهم في القتال، بل هناك سرٌّ آخر لا يقلّ غرابةً عن قوّتهم.
لقد كانت لديهم ‘هوس غريب’ —تعلّقاتٌ مرضيّة أشبه بالجنون—إذا أحبّوا شيئًا، عشقوه إلى حدّ الهوس، وإذا أرادوا شيئًا، تشبّثوا به كما يتشبّث الغريقُ بخشبة النجاة.
‘نعم، أسرة بينترين ليست أسرةً طبيعيّة البتّة.’
كانت تلك خلاصة ما توصّلت إليه جوسي بعد أن التقطت بذكائها كلّ ما دار حولها من أحاديث.
ولم يكن والدها، الإمبراطور ريتاين، استثناءً من هذه القاعدة العجيبة.
لقد نال بركةً عظيمةً من الوحش الإلهي غاناش، وأظهر منذ صغره موهبةً كبيرةً وبراعةً لافتة.
بوصفه رجلًا يمتلك قدرةً خارقةً لا مثيل لها، جرى تعيينه وليًّا للعهد متقدّمًا على شقيقه الأكبر.
غير أنّ نيلَهُ لتلك البركة القويّة كان يعني أيضًا امتلاكه طبعًا أكثر ميلاً إلى القتال والنزاع.
وبمعنى آخر، كلّما كانت البركة أعظم، اشتدّ جنون صاحبها.
نعم، كان الإمبراطور ريتاين مصابًا بشيءٍ من الجنون، لكن المشكلة كانت في الجهة التي وُجِّه إليها ذلك الجنون…
ولإنهاء هذه المهزلة، اندفعت جوسي عمدًا نحو الإمبراطور وهي تُطلق صوتًا حادًّا.
“كياااه!”
فما إن رآها حتى تهلّل وجهه، ومدّ ذراعيه الضخمتين ليحتضنها بلطفٍ مدهشٍ على جسده الجبّار، وقال بصوتٍ عذبٍ عاطفيّ.
“ها أنتِ هنا يا صغيرتي! وجدتكِ أخيرًا!”
رفعت جوسي عينيها إليه متنهّدةً في داخلها.
‘من بين جميع الناس، لماذا كان عليّ أن أكون هدف جنونه؟’
لقد كانت فقط تحاول أن تخلو بنفسها في ركنٍ هادئٍ لتصفّي ذهنها، لكنّ الإمبراطور أساء الفهم، وظنّ أنها ترغب باللعب معه لعبة الغمّيضة.
فاستدعى كلّ خدمه، بل وكلّ موظّفٍ في قصر الأميرة، وأجبرهم على المشاركة في ‘لعبةٍ مجنونةٍ’ بين إمبراطورٍ واحدٍ وخمسةٍ وثلاثين تابعًا!
والأغرب من ذلك أنّه وضع قاعدةً خياليةً للّعبة،
‘الأميرة الصغيرة أمام أعيننا، ولكن لا يراها أحد!’
كانت غمّيضةً تحتاج إلى براعةٍ تمثيليةٍ عاليةٍ، والجميع قد وصل إلى حافّة الإنهاك.
ولإنقاذ تلك الأرواح المنهكة، ضحّت جوسي بنفسها مجدّدًا، واندفعت نحو الإمبراطور لتُنهي اللعبة قسرًا.
ابتسم ريتاين ببهجةٍ مدهشة، وقال بمرحٍ طفوليٍّ لا يليق بإمبراطورٍ يخشاه العالم.
“بما أنّ جوسي فازت، فهل نلعب جولةً أخرى؟”
‘أرجوك، لنتوقّف عند هذا الحدّ.’
تنهّدت جوسي بأنينٍ خافت، مدركةً أنّه لا سبيل لإيقافه إلّا بطريقةٍ واحدة.
فمدّت فمها الصغير، وعضّت بلُطفٍ على إصبعه السبّابة.
ثمّ، بعد لحظةٍ، عضّت إصبعه الوسطى كذلك. نَم… نَم…
اتّسعت عيناه الذهبيتان في دهشةٍ لطيفة، قبل أن تنثني زاويتا فمه بابتسامةٍ واسعة.
لقد ذابت الصرامة من ملامحه كما يذوب الجليد في شعاع الصبح، وحلّ محلّها دفءٌ أبويٌّ ناعم.
“أوهو… هل جاعَت طفلتي الصغيرة؟”
توقّفت جوسي عن العضّ، وهزّت رأسها بالإيجاب، وقد انتصبت أذناها الصغيرتان كعلامةِ استسلامٍ راضية.
رفع الإمبراطور ريتاين يده مُعلِنًا بوقارٍ شديد.
“لقد انتهت لعبةُ الغميضة.”
ثمّ نقرَ الإمبراطور بلسانه في امتعاضٍ، وألقى بنظره على رجال الوحوش المنهَكين من حوله.
“إنّني خائبُ الأمل منكم جميعًا. تمثيلكم كان فظيعًا.”
نقرت جوسي بلسانها استنكارًا، وهي تتذكّر أداء الإمبراطور ريتاين المتكلف والمحرج.
لكنها، في هيئتها كجرو نمرٍ صغيرة، لم يكن في وسعها أن تُخبره بذلك.
ثمّ إنّه الإمبراطور.
‘المنصب والسلطة هما كلُّ شيء.’
وبينما كانت تتأمل تلك الحقيقة الجديدة التي أدركتها عن هذا العالم، كانت جوسي الجائعة حقًّا تُضمّ إلى صدر إحدى الوصيفات، تمصّ قنينة الحليب بشغفٍ طفوليّ.
رفعت عينيها بعد ذلك نحو الإمبراطور ريتاين، الذي استدعى كاتبًا وراح يقرأ سجلّ نموّها اليوميّ.
كان رجلاً وسيماً، متغطرسًا، يبعث الرعب في النفوس.
ومن العسير أن تصدّق أنّ هذا النمر الوحشي المهيب هو والدها حقًّا.
في تلك اللحظة، أطلق الإمبراطور ريتاين ضحكةً خافتةً وهو يطالع السجلّ.
“هاه… كما توقعت. حُكمتي لا تخيب.”
مسح جبهته وهزّ رأسه قائلًا.
“إذًا، تقول إنّ جوسي أعجبتها اللعبة المصنوعة من ذهب وفضّة أربينَا أكثر من غيرها؟”
أومأ الكاتب، وبدأ يشرح الموقف بتفصيلٍ دقيق، فارتسمت على وجه الإمبراطور ملامح الجدّ.
“لقد كان من حسنِ حظّي أنّني أخرجتُ ذلك الحرفيّ من وكره في قرية الراكون. من كان يظنّ أنّها ستحبّها إلى هذا الحد؟ … ألم يكن هناك أيضًا حرفيٌّ شهيرٌ من ثعالب صحراء تيوبي الغربية؟”
“بلى يا صاحب الجلالة، غير أنّه مشهورٌ بعشقه للصحراء ورفضه مغادرتها.”
“لن يستطيع أن يتحدّى أمرًا إمبراطوريًّا.”
قالها الإمبراطور بنبرةٍ عابثةٍ خفيفة، غير أنّ كلماته كانت ثقيلةً كالصخر.
“إن عصاني، فلن أجد بدًّا من إرسال الجيش لجلبه. سيصنع ألعابًا للأميرة، شأنه شأن حرفيّ الراكون.”
سرت في القاعة سكينةٌ قاتمة؛ فالأمرُ الإمبراطوريّ لا يُردّ.
التعليقات لهذا الفصل " 4"