3
استمتعوا
دفءٌ لطيف على رأسها جعلها تتثاءب.
“كـاا.”
فتحت فمها على اتساعه، ثم مشت بخطوات وئيدة نحو السرير، وغلبها النعاس فجأة، فاستسلمت لنومٍ عميق، وهي تُخرِج خريرًا ناعمًا كالهَدير الرقيق.
***
أشجارٌ وشجيراتٌ تتلألأ أوراقها الخضراء تحت أشعة الشمس، وصوت جدولٍ عذبٍ يجري بين الصخور، وزقزقةُ الحشرات تتراقص في الأجواء.
‘…إنني في الجبال!’
تفاجأت جوسي، لكنها سرعان ما هدأت.
‘آه، لا بدّ أن هذا حُلم، بطبيعة الحال.’
أومأت لنفسها، مستنتجةً أنها على الأرجح قد ضجرت إلى حدٍّ جعلها تهرب في حُلمٍ كهذا، ولو مؤقتًا.
نظرت حولها، فإذا بها في غابةٍ كثيفةٍ مورقةٍ تعجّ بالحياة.
وكانت التفاصيل فيها حقيقية إلى حدٍّ مدهش.
وبينما كانت جوسي تتأمل المشهد بعينيها الواسعتين، اتسعتا أكثر دهشةً.
كان هناك طفلٌ صغير يجلس على صخرةٍ كبيرة قرب الجدول، يبكي في صمت.
‘يبدوا بالخامسة أو السادسة؟ شيءٌ كهذا تقريبًا.’
اقتربت منه، فرأت أنه طفلٌ ذو شعرٍ أسود.
كان مشهدُه مؤلمًا؛ طفلٌ صغير يُخفي وجهه بين يديه، ويكتم بكاءه بلا صوت.
‘الأطفال ينبغي أن يبكوا بحرية… لا أن يبتلعوا دموعهم هكذا. كم هو مؤلمٌ أن يُرى بهذا الحال.’
وفجأة، رفع الطفل رأسه ونظر إلى جوسي.
وحين التقت نظراتهما، اتسعت عيناها دهشة.
‘يا للعجب!’
انفرج فم جوسي مدهوشةً إعجابًا.
كان جميلًا كزهرةٍ في ربيعها الأول.
الطفل، بعينيه الحمراوين المغرورقتين بالدموع، كان ذا ملامح دقيقةٍ ورقيقةٍ بشكل لا يُصدق.
وكان يرتدي عباءةً كبيرة تُخفي جسده، وكانت ملامحه الرفيعة تجعل من الصعب معرفة جنسه.
قررت جوسي أن تُواسي الطفل الباكي، فركضت نحو الجدول.
ثمّ التقطت الأزهار المتفتّحة بغزارة، وجمعتها بعناية باستخدام كفّيها الأماميّتين.
‘تسك، يا لها من حركةٍ غير ماهرة.’
تمتمت جوسي بضجر، وهي ترى أنّه لا سبيل للقيام بالأمر على نحوٍ أفضل باستخدام كفّتي نمرٍ كهاتين.
ومع ذلك، كان عبيرُ الأزهار رائعًا بحقّ.
‘آمل أن يُسعده هذا.’
حملت جوسي الباقة في فمها وقدمتها للطفل.
اتسعت العينان الحمراوان الدامعتان دهشة.
“لي أنا؟”
‘يا له من صوتٍ جميل.’
أومأت جوسي برأسها برضى.
وبدا على الطفل شيءٌ من الذهول، ثم مدّ يده وقَبِل الباقة، وقد توردت وجنتاه خجلًا.
كانت ابتسامته الخجولة آيةً في الجمال.
فرِحةً لرؤيته مسرورًا، دارت جوسي في المكان، تقفز وتثب ببهجةٍ طفوليةٍ عذبة.
لكن الطفل، الذي كان يبتسم مراقبًا لها، تجمّد فجأة.
“أيتها النمرة الصغيرة، احذري! إنه خطر!”
صوته كان مذعورًا.
التفتت جوسي إلى الاتجاه الذي أشار إليه الطفل.
فرأت شيئًا أسود يزحف من أسفل الجدول نحوها، فانعقد حاجباها.
‘ما هذا؟’
كان مجرد حلم، مجرد وهم، فلا ينبغي أن يكون له أي أهمية…
ومع ذلك، كان مرعبًا على نحوٍ غريبٍ لا يُطمئن.
ما ذاك الشيء الذي يلتوي بهذا الشكل المروّع؟
وبدافع الفضول، خطت جوسي خطوةً إلى الأمام دون أن تشعر، فـ’نظرء’ إليها الشيء الأسود.
‘لقد رآني؟’
كان من الغرابة والرعب بمكان أن تُقابل عينيك عيونُ كيانٍ بلا شكلٍ حقيقي.
تجمّدت جوسي في مكانها، من فرط الدهشة والخوف.
وفي تلك اللحظة، انبثق سيلٌ من الضوء الذهبي، مكوّنًا جدارًا يفصل بينها وبين ذلك الشيء المريب.
“لا، أيتها النمرة الصغيرة! لا ينبغي لكِ أن تقتربي من هذا الشيء! ابتعدي حالًا!”
استدارت جوسي نحو الطفل، وقد اتسعت عيناها.
‘هل أنتَ من فعل ذلك؟’
سؤالٌ لم يُسمع صوته، لكنه كان يتردد في صمتٍ مشحونٍ بالعجب.
صرخ الطفلُ بيأسٍ ممزوجٍ بالذعر.
“سأعود قريبًا، حسنًا؟ عليكِ أن تبقى آمنة، وبخيرٍ دائمًا!”
وما إن انقضت كلماته الغامضة تلك حتى تلاشى كضبابٍ تذروه الرياح.
‘ما أغربَ هذا الأمر…’
تمتمت جوسي في سرّها، وأدارت رأسها مجددًا نحو ذاك السواد المتلوّي.
‘على أيّ حال… ذلك الشيء الأسود… لقد رأيتُه من قبل… أجل، أنا واثقة بأني أعرفه.’
كانت الصورةُ العالقة في ذهنها ضبابيةً كطيفٍ يتلاشى، لكنها كانت تغريها بالاقتراب أكثر لتتحقّق من حقيقتها.
وما إن أدركت ذلك حتى كان ذاك الكيان المظلم قد صعد من مجرى النهر واقترب منها حتى بات بينهما خطوةٌ واحدة.
إنه حضورٌ شيطانيّ، حالكٌ كهاويةٍ تبتلع النور وتجرّ كلَّ ما حولها إلى جحيمٍ لا قرارَ له.
‘أنا متأكدة… لقد التقينا من قبل، في حياةٍ سابقةٍ لي.’
“أنتَ…”
لكن ما إن همّت بالكلام حتى—
هووووش!
شيءٌ ضخمٌ انقضَّ عليها، ممسكًا بها من مؤخرة عنقها، واندفع يعدو بها بعيدًا عن المكان بسرعةٍ مذهلة.
تدلّت جوسي من بين أنيابه مذهولةً، وعيناها تتسعان رعبًا حين رأت ذاك السواد الكريه يلاحقها بجنون.
لقد كانت ضعيفةً، أما ذاك الكيان فكان قويًّا بشكلٍ مرعب، والهوسُ الذي طغى على مطاردته إياها كان أشبه بجنونٍ شيطانيٍّ لا يُفهم له سبب.
كان الأمر مُروِّعًا. لماذا يفعل ذلك؟ ولماذا يُريد قتلي بهذه الشدّة؟
‘…أحقًّا هذا حلم؟’
كانت خائفةً.
ارتجف جسدها وهي تحدّق خلفها في ذاك الظلام المطارد لها، بينما كانت تُساق بسرعةٍ خاطفة عبر الجبال الوعرة، متدلّيةً من فم المخلوق الذي يحملها.
تسارعت المناظر أمام عينيها حتى اختلطت الألوان، وتهاوت أنفاسها وسط صخب الرياح التي صفعت وجهها الصغير.
ومضى وقتٌ لا تدري كم طال، حتى أنزلها من كان يحملها برفقٍ على الأرض.
وحين رفعت رأسها لتراه، اتسعت عيناها اندهاشًا.
فراءٌ فضّيٌّ يلمع كالثلج، جسدٌ ضخم، خطوطٌ سوداءُ تلتفّ كالنقوش، وعينان زرقاوان لامعتان حادتان كحدِّ السيف.
لقد كان نمرًا أبيض بالغًا، ضخمًا شامخًا، يفيضُ وقارًا وهيبةً لا تُقاس!
حدّق فيها لحظةً بصمت، ثم قفز بخفةٍ مذهلةٍ واختفى عن ناظريها.
“آه!”
خرجت من فم جوسي صرخةٌ بشريةٌ صافية، لا مواءَ فيها ولا زئير.
لكنها لم تجد وقتًا للتفكير في الأمر، إذ لم تكد لحظاتٌ تمرّ حتى بدأ الثلج الأبيض يتساقط بغزارةٍ على الجبل الأخضر في منتصف الصيف.
***
فتحت جوسي عينيها ببطء، وقد استيقظت من غفوتها القصيرة، تتلفّت حولها بذهول.
كانت في حجرتها، في جناح الأميرة بلا شك.
ذاك الجبل كثيف الأشجار، والنمر الأبيض، والطفل الجميل، والثلجُ الغريبُ الذي تساقط في ذروة الصيف—كلُّ ذلك لم يكن سوى حلم.
‘نعم… لا شكّ أنه حلم…’
لكن الحلم كان حيًّا نابضًا كأنه واقع، حتى إن أثره لم يزل عالقًا في وجدانها بعد أن أفاقت.
نهضت من سريرها وهي تشعر بغرابةٍ غامضةٍ تتسلّل إلى صدرها.
وحين وقع بصرها على المرآة، رأت شبل صغيرة من النمور البيضاء ترتدي القبّعة التي وضعتها سوفي على رأسها في وقتٍ سابق.
كانت تبدو كدميةٍ صغيرةٍ محشوةٍ بالبراءة.
‘همف.’
تنهّدت جوسي بضيقٍ خافت. كانت تتوق أن تكبر بسرعة.
إنه لأمرٌ محبطٌ أن تمتلك عقلًا ناضجًا في جسدٍ صغيرٍ يُعامَل ككائنٍ ضعيفٍ يحتاج إلى الحماية.
في البداية، كانت تتقبّل الأمر برضاٍ متهاونٍ، فحتى الشبلُ الصغير لا بدّ أن ينمو يومًا.
غير أن نموّها بدا بطيئًا إلى حدٍّ يدعو إلى القلق، حتى خُيّل إليها أنّه قد توقّف تمامًا.
ما تزال ضئيلةً كأنها وليدةُ شهرٍ واحدٍ لا أكثر.
‘لقد سمعتُ أن النمور البيضاء بطبيعتها ضعيفة النموّ… بطيئة التقدّم… لكن…’
تقدّمت بخطواتٍ بائسةٍ بطيئةٍ نحو زاوية الغرفة، وغرست رأسها في حضنها الصغير، وأطلقت أنينًا خافتًا يشبه البكاء.
في تلك اللحظة، دوّى صخبٌ مفاجئ في الخارج.
“لقد وردنا خبرٌ بأن جلالة الإمبراطور في طريقه إلى قصر الأميرة!”
عمّت الفوضى المكان، وتبادل الجميع النظرات المذعورة، ثم انطلقوا بسرعةٍ إلى العمل تحت توجيهات كبيرة الخدم، يهيّئون القاعة لاستقبال الإمبراطور.
أخذوا ينظّفون ويُرتّبون بمهارةٍ اكتسبوها من التكرار، بينما حدّقت جوسي بهم وهم يُعدّلون ملابسهم على عجل ويقفون بانتظام قرب الباب في انتظار وصوله.
لكن جوسي، وقد أرهفت سمعها، همست في نفسها.
‘غير أن الصوت لا يأتي من الباب… بل من هناك.’
اتّجه بصرها نحو الشرفة.
وفي اللحظة التالية—انفتح باب الشرفة بعنف!
كما توقّعت تمامًا، لم يدخل الإمبراطور من باب الرواق، بل من الشرفة نفسها، دافعًا الأبواب الثقيلة بيديه.
“هاه!”
“جلالتك!”
أُصيب الخدم من الوحوش بالذهول، وأسرعوا يصطفّون احترامًا حين أبصروه.
كان شعره القصير، الذي انسدل حول عنقه، بلون الذهب الخالص يتلألأ كأشعة الشمس.
أما عيناه، بلونهما الذهبيّ القاني، فكانتا عميقتين حادّتين تلمعان كبريق النار في جوف المعدن.
وجهه مهيب القسمات، مرسوم الحَدّ، وسيمٌ إلى حدٍّ يُثير الخشوع.
وعلاوةً على ذلك، فعلى الرغم من أنّ طوله يقارب المترين، فإنّ عَرضَ كتفيه وصلابةَ عضلاته منحاه تناسقًا جسديًّا مثاليًّا.
وكان ذلك دليلًا على ‘القوّة’ و’البنية الجسدية المتفوّقة’ التي منحها له الوحشُ النمر الإلهيّ ‘غاناش’.
“المجد لبينترين، نحيي جلالتك.”
ريتاين ديستر بينترين.
الإمبراطور الخامس والثلاثون، ووالد الأميرة النمرة البيضاء، جوسي.
ما إن خطا إلى القاعة حتى انحنى الجميع تلقائيًّا، فحضوره كان طاغيًا كهيبة الجبال.
وبصفته حاكم القارة الشرقية، كان يُعرَف بحدة طِباعه، وقسوته المهيبة، وميله الفطري إلى القتال، حتى أصبح اسمه مرادفًا للرهبة.
إنّ الهالة التي تنبعث من نسل بينترين من الوحوش كانت ثقيلةً إلى حدٍّ يجعل الوحوش العاديين ينهارون خوفًا أو ينفجرون بالبكاء عند رؤيتهم له.
“همف.”
حرّك الإمبراطور ريتاين عباءته السوداء بخفةٍ مهيبة، وبدأت عيناه الذهبيتان الحادتان، كعيني مفترسٍ يبحث عن فريسته، تمسحان المكان بترقّب.
حتى استقرتا أخيرًا على النمرة البيضاء الصغيرة التي كانت جاثمةً في الزاوية، مؤخّرتها مرفوعةٌ عاليًا، ورأسها غائصٌ في الجدار.
تأمّلها الإمبراطور لحظةً، ثم تردّد قليلًا قبل أن يسعل سُعالًا خافتًا مصطنعًا.
“أه… أحم.”
ثم انبعث من بين شفتيه صوتٌ دافئٌ لطيفٌ، بدا غريبًا غاية الغرابة على هيئته الجبّارة وهيبته العاتية.
“أين ذهبت طفلتي الصغيرة~؟ لا أراها في أيّ مكان؟”
فتجمّد الجميع في أماكنهم، كتماثيلَ حجريةٍ صعقتهم المفاجأة.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
Chapters
Comments
- 3 - حلم غريب منذ 8 ساعات
- 2 - ثِقل التاج منذ 10 ساعات
- 1 منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 3"