لا يُعلم ما الذي وجده مضحكًا، لكن جيريمي راح يتفحص الردهة بنظرات كسولة وابتسامة متراخية على شفتيه.
“لكن، لماذا تتجولين وحدكِ حتى داخل الجناح الرئيسي؟”
“لقد حفظت الطريق، فلا بأس بذلك.”
“حفظتِ الطريق لأنكِ لا تسلكين سوى المسارات نفسها. هكذا يفعل النبلاء.”
كادت روين أن تردّ بقولها إن المتحدث نفسه ينتمي إلى طبقة النبلاء، لكنها لم تُكمل، إذ كان جيريمي أسرع منها بالكلام هذه المرة أيضًا.
“ألا تشعرين بالملل من قضاء اليوم بأكمله داخل القصر؟ نحن على أعتاب عيد الميلاد، وكان من الممكن أن تفرطي قليلًا في الحماس.”
“ظننتُ أن سموّك لا تحب ذلك…”
“أنا؟ ولماذا لا؟”
سألها بعينين بريئتين لا تشوبهما شبهة خبث، فما كان من روين إلا أن أخرستها المفاجأة.
فبالنسبة لها، كان من البديهي أن جيريمي لا يرغب في أن تبتعد عن مجال رؤيته. ولذلك كانت تظن أنه لا يفضل خروجها أو تحركاتها غير المتوقعة. غير أن الواقع كان مغايرًا، وهو من يستغرب الآن تصرفاتها. وهذا ما أربكها بشدّة.
“اخرجي. وإن أمكن، اخرجي وامكثي في الحفلات حتى السادسة صباحًا. اشربي، واحتفلي. هكذا، تضمنين تبديد ما تبقى لكِ من فرصتين في غمضة عين.”
“……”
“وحتى إن لم يكن الأمر كذلك، إن احتجتِ للخروج، فاخرجي. لا تتسكعي ككلب مربوط بسلسلة.”
يا لهذا اللسان الوقح… لم أتوقع قط أن يكون شكر شخص ما بهذه الصعوبة، لا سيما حين لا تستحق كلماته الشكر.
“شكراً جزيلاً.”
“شكر؟ أرى الشتائم تتطاير من عينيكِ.”
وبينما كان جيريمي يتبجح بابتسامة متعجرفة، ناوله السيد تود –الواقف إلى جواره– عدداً من الرسائل. أخذها جيريمي بدوره وسلّمها إلى روين، موصياً:
“اكتبي ردودًا على هذه الرسائل. لا أريد أن أتلقى رسالة غرام أخرى من الكونت ديبيار.”
أبي العزيز…!
توسّعت عيناها العسليّتان بدهشة واضحة. رمقها جيريمي بنظرة متسلية، وضحك بخفة وهو يراقب تعبير وجهها.
“إن كنتِ لا تنوين القيام بشيء سوى التجول كالشبح في أرجاء الجناح الرئيسي، فاخرجي من القصر.”
“لا أرى داعياً لذلك…”
“وجودكِ يزعجني، هذا هو السبب.”
كان من الواضح أنه يحاول طردها من القصر بطريقة لبقة –أو ربما غير لبقة. وهمّت برفض الطلب، لكن…
“وبالمرة، اشتري هدية مناسبة على الطريق. شيئًا يمكن أن يُهدى إلى آنسة في مثل سنكِ.”
“…آه، إن كان كذلك، سأقوم بالمشوار.”
مهمة شراء هدية؟ حسنًا، ستقوم بها على الفور.
فاليوم بالذات، كان اليوم الذي يتواجد فيه دوق لانكريسيوس في القصر، ولا مصلحة لها أبدًا في الاصطدام به.
لكن لمن يُريد شراء هدية؟ هل يمكن أن تكون نيان؟
حتى من لا يُرجى منه خير، بإمكانه الوقوع في الحب؟ ابتسمت روين ساخرة من فكرتها.
حسنًا، من الجيد أن يكون لديه هذا الجانب اللطيف. محظوظة نيان.
وبمشاعر مختلطة من الطرافة والرضا، انحنت احترامًا وأنهت تحيتها، ثم همّت بالمغادرة، إلا أن جيريمي ناداها:
“وإن رغبتِ بقضاء الليلة خارج القصر، فلا بأس بذلك أيضاً.”
لم تستطع تحديد ما إذا كان جادًا أم ساخرًا، فقد جاءت كلماته في منطقة رمادية بين المزاح والجد.
***
وما إن صعدت إلى العربة، حتى بدأت روين بفتح الرسائل التي سلّمها لها جيريمي واحدة تلو الأخرى.
[إلى حبيبي العزيز،
لأن ردك لم يصل، أجدني أكتب لك مجددًا.
هل حقًا لا تقرأ رسائلي إلا إن وجّهتها إلى سموّك؟
نحن على أعتاب عيد الميلاد، فهل تنوي حقًا قطع صلتك بأبيك إلى هذا الحد؟
كلما تصرفت بهذا الشكل، تتضاءل الفرص التي سعيتُ لها لترتيب زواجك!
إلى متى تظن أن الناس سيظلون يراعونك رغم تقدمك في العمر؟…]
كان يطمح إلى تزويجها أيضاً… رغم تصرفاته المزعجة، بدا أن الكونت ديبيار يعيش حياة مشغولة بطريقته الخاصة.
تسجنين أستاذكِ في مرحاض بلا مناديل، وفي الوقت نفسه تبحثين عن زواج؟ يا لقلبكِ الذي لا يعرف الخجل.
فتحت روين الرسالة التالية وأكملت القراءة:
[إلى روين،
أن تتصرفي بهذا الشكل… لا أجد حلاً سوى التوقف عن مراسلتكِ مباشرة. من الآن فصاعدًا، ستُرسل كل رسائلي إلى سموّ السيد جيريمي.
بالمناسبة، هل صحيح أنك أثناء دراستكِ في الأكاديمية ضربتِ السيد تريو بإطار صورة إلى أن تحول إلى قلادة؟
ولِمَ أسمع بهذا من أستاذكِ المسؤول، لا منكِ مباشرة؟ أنا بسببكِ…]
فإذا بها ليست قوية في السحر فحسب، بل حتى في القتال؟
وكلما قرأت أكثر، لاحظت كيف أن خط الكونت قد صار مائلًا وعجولًا، ما يدل على صبر نفد على وشك الانفجار.
[إلى روين]
سأواصل إرسال الرسائل. لذا، أرجوكِ عيشي في قصر دوق لانكريسيوس كما لو كنتِ فأرًا خائفًا لا يُسمع له صوت. وإن لم تستطيعي، فالأفضل أن تعودي إلى قصر العائلة. لأنكِ لو أخطأتِ هناك، فلن تكون النتيجة موتكِ وحدكِ، بل موتنا جميعًا. أرجوكِ… استخدمي عقلكِ.
يبدو أن هذه الرسالة أُرسلت بعد لقائها مع دوق لانكريسيوس، فقد امتلأت خمس صفحات كاملة بعبارات لا تنتهي تحثها على الحذر في الأقوال والأفعال.
‘ليس جيريمي وحده من يحتاج إلى رعاية خاصة… روين أيضًا، وبشكل خطير.’
‘سأردّ على الرسالة عندما أعود إلى القصر. وأعد فيها أنني لن أقوم بتصرفات غريبة كهذه مجددًا.’
لعلهم سيتوقفون عن إرسال مثل هذه الرسائل بعدها.
وفي تلك اللحظة، تباطأت عجلات العربة شيئًا فشيئًا حتى توقفت برفق.
‘ما نوع الهدية التي قد تناسب نيان؟’
نيان بلييه كانت الوريثة الوحيدة لعائلة بلييه الدوقية، وكانت محبوبة من الجميع. كانت كالشمس في عالم مظلم، تعيش حياة مشرقة تمامًا بعيدة عن عالم جيريمي الكئيب. حتى اليوم التالي لزواجهما، حيث فقدت والديها في حادث مأساوي.
“أمي وأبي… أشتاق إليهما كثيرًا، جيريمي… أرجوك لا تتركني وحدي… لا أريد أن أكون وحدي.”
ومنذ ذلك الحين، لم يبقَ في حياة نيان من تعتمد عليه سوى جيريمي. لكنه، بدلاً من مواساتها، حبسها في غرفته، وقطع كل صلة لها بالعالم الخارجي. حتى خادمتها التي رافقتها منذ الطفولة، أبعدها عنها.
وكان السبب واضحًا جدًا.
لقد أراد منها أن تتعلق به أكثر. فجيريمي، الذي لم يعرف طعم الحب الحقيقي قط، ظنّ أن هذا هو الحب.
أما نيان، التي نالت الحب طوال حياتها، فلم تستطع تقبّل هذا الحب المشوّه.
ومن هنا بدأ شقاؤهما.
‘لو فقط استطاع جيريمي كبح لسانه قليلاً، لاقتربنا خطوة على الأقل من نهاية سعيدة. هممم…’
لم يُكشف في القصة الأصلية عن القاتل الحقيقي لوالدي نيان، لكن شيئًا واحدًا كان مؤكدًا:
أن كلمات جيريمي قد جرحت نيان بعمق، وكانت تلك الكلمات سببًا في حقدها عليه. نعم، لسانه كان كالنار، يحرق كل من يقترب منه.
ولكن، ماذا لو توقف عن إيذاء نيان بالكلام؟
ماذا لو واصل تنقية طاقتها السحرية المبعثرة كما يفعل الآن؟
‘قد يهدأ طبعه الناري قليلًا… وربما، فقط ربما، ستكون هناك نهاية سعيدة.’
شعرت بدفء غريب في صدرها. أن ترى بأمّ عينها شخصية مفضلة لديها تنجو من الموت وتصل إلى نهاية سعيدة، كان شعورًا لا يوصف.
ابتسمت روين وهي تعض شفتها بخفة.
عندها، فُتح باب العربة.
“لقد وصلنا، آنستي.”
وما إن فُتح الباب حتى انهالت عليها عشرات النظرات. من داخل البوتيك وخارجه، تسمرت أنظار الفتيات في أماكنهن حين رأين شعار عائلة لانكريسيوس على العربة.
ولما رأين أن من نزل منها هي روين تحديدًا، بدا وكأن بعضهن على وشك الإغماء.
“يا إلهي! يا إلهي! يا إلهي!!”
صرخت إحداهن كأنها ضبطت مشهد خيانة، بينما سقطت أخرى على الأرض من فرط الصدمة.
حتى امرأتان كانتا تتحدثان بهدوء سقطتا على مؤخرتهما من شدة الذهول.
لقد أسقطت ثلاث فتيات، فقط بفتح باب العربة!
“أليست هذه الآنسة روين دو ديبيار؟ لا، لا يمكن… لماذا تنزل من عربة دوق لانكريسيوس؟”
“شش! هل تريدين أن أضربكِ بالمروحة؟ اخفضي صوتكِ!”
ثم، ولحظة أن نزلت روين وابتسمت بخفة، انخفضت الهمسات فجأة.
‘لو كنت أعلم أن الوضع سيكون هكذا، لأحضرت بريليا معي.’
لم تتخيل قط أن يسود هذا الصمت القاتل. كانت تتوقع بعض الفتيات المزعجات، لا هذه الرهبة التي شلت الألسنة.
‘لا داعي لإثارة القلاقل. عليّ أن أنهي تسوقي بسرعة.’
وحين تبادلت النظرات بلطف مع الفتيات الأخريات، بادرن جميعًا إلى صرف نظرهن عنها أو إخفاء وجوههن بخجل.
‘لا بأس. من الأفضل أن أُسرع وأُغادر.’
تنحنحت روين بلطف ودخلت البوتيك. وكانت السيدة التي تمسك شريط القياس قد ابتسمت أولًا، لكنها تجمدت فور رؤيتها.
“مرحبًا بكِ في… آه… آه… آنسة ديبيار! يا إلهي، لقد مر وقت طويل. هاهاها…”
من شدة ارتباكها، وضعت شريط القياس على كتف إحدى الفتيات الواقفات إلى جانبها دون أن تشعر.
“هل تبحثين عن شيء معين؟ أم…؟”
“أعتذر عن الانقطاع، في الواقع، أود شراء هدية. ما الذي تقترحينه؟”
ردّها فاجأ الجميع حولها.
هل يعقل أن الآنسة ديبيار تتحدث هكذا بهدوء؟ بل وتشتري هدية أيضًا؟
كان من المعروف في المجتمع الأرستقراطي أن روين كانت جشعة، ولم تشفع لها مكانتها ولا أفعال والدها لتحسين سمعتها. فقد كانت تستغل قوتها السحرية الفطرية في الأكاديمية لارتكاب كل ما هو شرير.
ولذا، كان من النادر حقًا رؤيتها وهي تفكر في منح هدية لأحدهم.
“إن كنتِ تبحثين عن هدية، فالمنديل أو المروحة أو القبعة سيكون مناسبًا، هاها… هل هي لصديقة عزيزة؟ فقط كي أعرف ما إن كانت الهدية لسيدة أم آنسة، لا أقصد التدخل.”
“إنها آنسة. وأعتقد أن كل ما في متجركِ من صنع يدكِ، أليس كذلك؟ إنها هدية خاصة، لذا لا أرغب بشيء صناعي.”
“بالطبع! تفضلي وخذي وقتكِ، آنسة ديبيار.”
ثم لفت انتباهها فاصل كتب مُزين بحجر الياقوت الأزرق.
‘هذا يناسب نيان تمامًا. تحب القراءة، لذا ستستخدمه كثيرًا على الأرجح.’
لم تكن نيان تفتقر إلى المال لتطلب هدايا فاخرة، ولا جيريمي يعاني ليمنحها ما تشاء.
‘بما أن عائلتيهما ثريتان، فربما هدية بسيطة محملة بالمشاعر ستكون أصدق تعبير.’
كان الفاصل بلون الذهب الذي يذكرها بشعر نيان البلاتيني، وفي مركزه حجر ياقوت أزرق يعكس لون عينيها.
“سيدتي، هل يمكنكِ تغليفه كهدية من فضلكِ؟”
“سيأخذ الأمر بعض الوقت، هل يناسبكِ ذلك؟”
ابتسمت روين بأريحية وقالت:
“بالطبع. سأمرّ فقط إلى المتجر المقابل في هذه الأثناء.”
رفعت السيدة حاجبيها بتعجب، فالمتجر المقابل لم يكن سوى متجر كبير لبيع الأسلحة النارية.
وقبل أن تسألها عما إذا كانت مخطئة، كانت روين قد خرجت بالفعل.
‘لا، لا يمكن أن يكون ذلك صحيحًا… أليس كذلك؟’
نظرت السيدة إلى ظهر روين وهي تمضي، وأفكارها تتضارب، حتى إنها نسيت كيف تتنفس أو تبلع ريقها.
“يا إلهي…!”
قالتها وهي ترى روين تدخل متجر الأسلحة، وقد بدت عليها الصدمة التامة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"