استشعرَت روين بخطر غريزيّ دقَّ ناقوس الإنذار في داخلها. فأسرعت بنزع كعب حذائها بسرعة وحنَت رأسها بخفة تفوق الجميع.
“أُقَدم احترامي… لدوق لانكريسيوس.”
عند كلماتها، أطلق الرجل ضحكة ساخرة، ثم نظر إلى حذائها التالف وزفر نفسًا ساخنًا وهو يبتسم بسخرية.
“سمعت أن الآنسة ديبيار اختيرت للعمل في منزلي… ويبدو أن الأمر كان صحيحًا.”
كان صوت شخصٍ تمنى لو أن الأمر ليس كذلك. لكن لم يدم الأمر طويلًا، إذ تجاوزها دوق لانكريسيوس دون أن يلقي نظرة إضافية، بينما كانت لا تزال تُخفض رأسها أمامه.
لم يبتعد سوى ثلاث خطوات حتى سُمِع صوته من خلفها:
“تعالي إلى مكتبي. على أي حال، بما أنكِ المعلّمة الخصوصية لابني، ينبغي أن نجري مقابلة.”
كانت أوامر لا تُبشّر بالترحيب.
***
كان مكتب الدوق فخمًا وواسعًا للغاية، ورغم أنه بقي خاليًا لقرابة نصف عام، إلا أن العناية به كانت واضحة. كان مكتب جيريمي أنيقًا أيضًا، لكنه لا يُقارَن بمكتب الدوق على الإطلاق.
أخذت روين تتفحّص المكتب بحذر شديد وهي تنتظر الدوق.
في مثل هذه الحالات، أليس من المعتاد أن يُترك الزوّار في الرواق؟ لكن، رغم أنها رفضت قائلة إنه لا بأس، أصرّ هو على إدخالها إلى المكتب وأجلسها فيه بنفسه.
‘لماذا رجال هذا المنزل مولعون باستدعاء الناس بهذه الطريقة؟’
كانت تتمنى فقط أن تعيش بوجود أشبه بعدم الوجود، كأنها البستاني رقم 11 مثلًا.
‘حسنًا… الأصل أن صاحبة هذا الجسد كانت مشهورة للغاية.’
وإلا، فكيف تعرّف دوق لانكريسيوس على روين بهذه السرعة؟
في الرواية الأصلية، كان دوق لانكريسيوس قد سلّم أملاك العائلة لابنه جيريمي وعاش في دوقية العاصمة لإدارة تجارته في الأسلحة النارية.
لم يكن يهتم أبدًا بما إذا كان ابنه يكبر دون مربية، أو ما إذا كان يعاني من صدمات نفسية.
فاهتمامه الكامل كان منصبًا على تجارة السلاح.
‘رائحة البارود…’
اخترقت أنفها رائحة البارود النفّاذة. ورغم تجاهله لابنه، من المستحيل ألا يعرف أن جيريمي يكره تلك الرائحة.
“هل انتظرتِ طويلًا؟”
“أبدًا، يا صاحب السعادة… بخصوص الحذاء، أنا…”
كلمات الاعتذار عن الحذاء تعطّلت في حلقها. فكيف لها أن تجرؤ على القول بأنها ستعوّضه وهي لا تعرف حتى كم يساوي هذا الحذاء الفاخر؟ شعرت بالدوار.
“سأحاول إصلاحه بنفسي.”
“لا داعي، أي إصلاح؟”
قالها دوق لانكريسيوس وهو يترك جسده يسقط على الأريكة.
“شكرًا جزيلًا!”
“الطريق كان زلقًا، لذا هي مشكلة الخدم. لا تُشغلي بالكِ، آنسة.”
دخلت الخادمة التي تبعته وقدّمت الشاي الأسود. وسرعان ما امتزجت رائحة البارود بشذى الشاي في أرجاء المكتب.
“بالمناسبة، هل الكونت ديبيار بخير؟”
“نعم، بخير بفضلك.”
ابتسم الدوق ساخرًا حين سمع عبارة “بفضلك”. تلك الابتسامة المائلة تشبه كثيرًا ابتسامة جيريمي.
“وأي فضل لي؟ وكيف تجدين الحياة في الدوقية؟”
“كل شيء على ما يرام.”
أجوبة مختصرة وواضحة. رفع دوق لانكريسيوس فنجان الشاي، وقبل أن يشرب، توقّف وأمعن النظر في روين. ثم أخذ رشفة، ووضع الفنجان جانبًا.
“من الجيد أن كل شيء يسير على ما يرام. التقيت بالكونت قبل خمسة أيام، وسألني عن حالكِ.”
“……”
“لست رسولًا لنقل الأخبار، لكن من الجيد أن الأب وابنته على وفاق.”
هل سأله الكونت عن أحوالها عمدًا وهو يعرف أنها ستُستدعى إلى هنا؟ شعرت “روين بجفاف في حلقها.
أما الدوق، فقد راقب تعابيرها بتأنٍّ، قبل أن يبتسم بهدوء. ولكن داخل تلك الابتسامة، كان يختبئ شيء مظلم.
“على كل حال، كيف حال الشاب الصغير؟”
“لا داعي للقلق، يا صاحب السعادة.”
“مم، تقصدين أنه بخير؟ أجل، لا بد أن يكون بخير. على أي حال، أعدتِ الساحر الشمالي الذي دفعنا له مبلغًا كبيرًا ليعتني به.”
أومأت روين ببطء، وغطّت تعبير وجهها بفنجان الشاي. كانت تشعر بالانزعاج من تلك العينين الحمراوين الماكرة كالأفاعي.
“مع ذلك، رأيت أنه من الأفضل أن يعتني به مواطن من الإمبراطورية، لذا وافقت.”
“شكرًا لك، صاحب السعادة.”
“والآن بعد أن رأيته بعيني، اطمأن قلبي. لن أحتاج إلى الاهتمام بالعائلة لبعض الوقت.”
في وسط حوار مليء بالكذب، ابتسمت روين بابتسامة أكثر كذبًا.
“أشكرك على ثقتك، يا صاحب السعادة. سأبذل قصارى جهدي لرعاية السيد الصغير.”
أومأ دوق لانكريسيوس برضى، غير أن عينيه اللامعتين لم تتوقفا عن الحركة لحظة، تتنقلان باضطراب كأنهما تبحثان عن فريسة خفية. كانتا عينا صيّاد.
“إن واجهتِ أي أمر يزعجكِ، لا تترددي في إخباري. صحيح أنه ابني، لكن يُقال إنني دلّلته أكثر من اللازم، حتى صار طبعه ناريًّا، أليس كذلك؟”
لو سمع جيريمي هذا، لشعر بالإهانة. ذلك الذي لا يتردّد في طردها بكلمة اختفي، يبدو الآن وكأنه شاب مؤدب بالمقارنة مع والده.
‘أيعقل أن النبلاء لا يعيشون جيدًا إلا إذا كانوا بهذه الدرجة من الوقاحة؟’
بالنسبة لروين، التي قرأت الرواية الأصلية حتى نهايتها، كان ما يقوله مجرد هراء مثير للسخرية.
‘دلّلته؟ بل تركته مهملاً بالكامل. هذا الرجل يكذب دون أن يرمش حتى، لمجرد أن طفله ليس أمامه. يا للعجب.’
شعرت روين بانقباض في وجهها من فرط وقاحة الدوق.
“سيبلغ سن الرشد قريبًا، لذا أصلحي طباعه قدر استطاعتكِ.”
اتّسعت عينا روين كعيني أرنب لدى سماع كلمة أصلحي. أرادت أن تسأله ما الذي يعنيه بذلك، لكنه سبقها بابتسامة مصطنعة وقال.
“هذا دور المعلّمة، أليس كذلك؟ أن تُرشد الطالب إلى الطريق الصحيح.”
قال ما لديه ثم ابتسم بشبع. أما روين، ففضّلت ألا تردّ عليه بكلمة.
“سأترقب أداءكِ مستقبلاً.”
“……أشكرك، يا صاحب السعادة.”
راقبت تعبيراته ثم وقفت بهدوء وقالت.
“إذن، أستأذن بالانصراف يا صاحب السعادة. أتمنى أن يحالفك المجد هذا اليوم أيضًا.”
وانحنت حتى خصرها، وعندما همّت برفع رأسها، شدّ انتباهها شيء ما.
‘بندقية “موسكيت”؟’
كانت هناك بندقية طويلة معلّقة على أحد الجدران، وكأنها معروضة للتباهي. حدّقت بها روين بتركيز دون أن تشعر.
‘هذه ليست مجرد زينة… بل يبدو أنه استخدمها فعلًا. لمن تُعرض إذن؟ يبدو أنه فخور بها جدًا.’
رفعت قدميها على أطراف الأصابع محاولة التحقق بدقة، لكن لم يسعفها وضعها. وفي النهاية، اضطرت للخروج من المكتب مطاردةً بنظرات الدوق.
طَق.
ما إن أُغلِق الباب خلفها حتى تنفّست الصعداء، وكأن صدرها كان محبوسًا طوال الوقت.
بدأت روين تمشي ببطء باتجاه الردهة. كان الرواق مزخرفًا بأناقة، والممر المغطّى بالسجاد الأحمر يمتص وقع خطواتها بصمت.
وقبيل وصولها إلى الردهة، ضحكت بخفّة دون وعي، متذكرة كلمات الدوق لانكريسيوس.
‘بصراحة… هل يريد هذا الرجل أن أخرج من قصره جثة؟’
وإلا، كيف يطلب منها تقويم شخصية جيريمي وهو يعرف طباعه جيدًا؟ حتى السيد تود، صديقه منذ الطفولة، لم يستطع فعل ذلك.
ضحكت بسخرية وهي تهز رأسها.
لكن ما إن وصلت إلى ردهة الطابق الأول حتى توقفت فجأة، ثم بدأت تتحرك بحذر كالسرطان، واتخذت وضعًا يجعلها تقف عكس مدخل القاعة. عندها، بدا لها المشهد واضحًا: بندقية الموسكيت كانت معلّقة هناك، في مكان بارز وكأنها مركز العرض.
“لماذا هذه البندقية…؟”
لمن يُفترض أن يُعرَض هذا السلاح بهذه الطريقة؟ شعرت بانقباض داخلي.
“لماذا هي هنا؟”
صوت مألوف، مزيج من الألفة والغرابة، تسلل عبر ظهرها ولامس أطراف أذنيها. فزعت روين وقفزت من مكانها، لتقابلها ملامح باردة بلا اكتراث.
“أحيّيك، سيّدي الشاب.”
“رأيتِني هذا الصباح، فما الذي يُفاجئكِ الآن؟”
“……لكنك خرجت من خلفي فجأة.”
“بل أنتِ من وقفتِ في طريقي. لم أخرج من خلفكِ، بل أنتِ من سدّدتِ الأمام.”
“على أي حال… أتمنى لك مساءًا سعيدًا.”
“أما أنا، فليس مساءًا سعيدًا على الإطلاق.”
‘يا لها من خسارة مؤسفة…’
كدت تقولها، لكن روين كبحت نفسها بصعوبة.
“إذًا، هل كسبتِ بعض المال؟”
“عذرًا؟ لم أفهم ما تقصده…”
عند ردّ روين، هزّ جيريمي رأسه ساخرًا وابتسامة ازدراء على وجهه.
“أسأل كم دفع لك الدوق المعظّم، لا أكثر.”
كلماته التي نطق فيها بلقب “الدوق المعظّم” كانت مشبعة بالتهكم. كانت روين تعرف أن العلاقة بين الأب وابنه ليست على ما يرام، لكن لم تكن تظن أن الأمر وصل إلى حد معاملته كجاسوس.
في خضم دهشتها، خطرت ببالها حيلة بارعة.
فالعلاقة بين الاثنين فاترة، ولا يتبادلان الزيارات أو المودة، فلمَ لا تستغل ذلك؟
‘قال إن دور المعلّمة أن ترشد الطالب إلى الطريق القويم… وهذا صحيح تمامًا.’
وعليه، فإن كلمة التقويم التي استخدمها الدوق تشمل أيضًا تقويم الألفاظ. صحيح أنها لا تنوي المجازفة بحياتها لأجل ذلك، لكن يمكنها على الأقل استخدام كلام الدوق كدرع دفاعي.
رفعت روين رأسها بثقة، وقالت بوضوح.
“لم يذكر شيئًا من هذا القبيل. كل ما قاله هو أن أقوّم لسان سموّك الكريم.”
تغيرت ملامح جيريمي ببطء، وكانت لحظة تستحق المشاهدة.
“لساني؟”
“لم يستخدم ذلك التعبير بالضبط، لكن طلب مني أن أوجّه سلوك سموّك حتى تبلغ سن الرشد.”
ضحك جيريمي ساخرًا، عاجزًا عن كبح سخريته.
“غريب، كيف تحوّل تقويم السلوك إلى تقويم اللسان؟ على أي حال، يبدو أنه لم يقل شيئًا مفيدًا.”
“…أعتقد أنك قد أسأت الفهم.”
“لا، لا بأس. على ما يبدو، أنتِ منزعجة من طريقتي في الحديث. أتفهّم ذلك.”
ذكي أيضًا، أليس كذلك؟
ورغم أنه ادّعى التفهّم، إلا أن تعبير وجهه بدا ودودًا بشكل مزعج وغير مريح.
“إذًا، في أي صف أنتِ؟”
“لم أفهم قصدك، سموّك.”
“مع من تنحازين؟ إلى جانب الدوق لانكريسيوس، الذي يحكم الآن؟ أم إلى جانب الابن ذي اللسان السليط، الذي سيحكم لاحقًا؟”
سؤاله جاء في قالب من الدعابة، لكنه لم يكن مجرد مزحة. ومع ذلك، لم يكن هناك داعٍ للتردد، فالإجابة واضحة.
“الذي عيّنني في هذا المنصب هو أنت، سموّك.”
حتى وإن كان جيريمي سيئ اللسان، أو حتى خبيرًا في الحبس، فلن تقف في صف الدوق لانكريسيوس أبدًا.
‘على الأقل أنا وفية… جيريمي هو شخصيتي المفضلة… أو على الأقل الثانية بعد الأولى.’
وفوق كل شيء، كانت تشعر بالنفور من ذلك الغموض الخبيث الذي يتلبّس الدوق. على الأقل جيريمي كان يعبر عمّا في داخله صراحة، أما والده… فكان يخفي أعماقًا لا تُقرأ خلف قناع المجاملة.
“يا للأسف… كنت آمل أن أفوّت عليكِ فرصة ما.”
المشكلة الحقيقية، أن جيريمي نفسه لم يكن في صفّها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"