تسمرت روين للحظة وهي تحدق في الغابة وكأنها شُدَّت من أفكارها. لكنها سرعان ما أفاقت من ذهولها وهزت رأسها تستعيد تركيزها، ثم سألت بنبرة هادئة:
“لكن، أليس سموه لا يزال دون سنّ الرشد…؟ أليست المشاركة في حفل صيد أمرًا مبالغًا فيه قليلًا؟”
أمالت بريليا رأسها باستغراب، ثم نظرت إلى روين كما لو كانت تجد تصرّفها غريبًا.
“ولكنه ابن الدوق، أليس كذلك؟ ثم إنّ دوق لانكريسيوس عالقٌ في العاصمة، لذا أوكل إليه تنظيم هذا الحفل. لذلك، لا يمكنه التغيب عنه.”
أي أن الأمر لم يقتصر على الحضور فقط، بل أوكِل إليه دور مضيف الحفل.
“أوكل إليه الحفل بأكمله؟!”
فوجئت بريليا بردّة فعل روين المفاجئة، فارتدّت برأسها قليلًا إلى الوراء وبدت عليها الدهشة.
دارت عيناها الكبيرتان للحظة، ثم تابعت كلامها بتحفّظ:
“إنه ابن دوق لانكريسيوس في نهاية المطاف… صحيح أنّ الوقت لا يزال مبكرًا بعض الشيء، لكنني لا أظن أن سموّه سيعجز عن تولّي الأمر.”
كان في نبرة بريليا ما يُظهر بجلاء مدى اعتزازها بانتمائها إلى عائلة لانكريسيوس كخادمة.
“وأنا لا أشكّ في قدراته، لكنني… أنا معلمته الخاصة، ومن هذا المنطلق، أراه أمرًا مبكرًا بعض الشيء.”
تنهدت بريليا أخيرًا وهزّت رأسها ببطء.
فكما كانت تشعر بالفخر لخدمتها في بيت الدوق، كانت روين بدورها قلقة على الفتى انطلاقًا من مسؤوليتها كمعلمة له.
“أفهم تمامًا ما تقصدينه، وأدرك أيضًا سبب قلقكِ يا آنسة.”
لكن بدا أنها لا تملك ما تفعله حيال الأمر، إذ أنهت عبارتها بنبرة مترددة وبنظرة حذرة.
أما روين، فاكتفت برفع فنجانها بصمت.
وبينما كانت تتأمل الغابة بشرود، ما إن أفرغت فنجانها حتى نهضت من مقعدها.
“آنستي؟ إلى أين تذهبين؟”
سألتها بريليا وهي تسير خلفها، لكن لوين التي كانت تهمّ بمغادرة الصالون التفتت بعينيها ثم أجابت بسرعة وكأنها تتهرّب:
“هممم… سأرسل ردًّا على رسالة والدي.”
***
دخلت روين غرفتها ولم تخرج منها حتى حلول وقت العشاء.
“هل أمتنع عن ذلك…؟”
جلست طويلًا إلى مكتبها وهي تقلب الأمر مرارًا، لكنها لم تترك القلم من يدها.
“ربما كان بإمكاني تجاهل الأمر لو لم أكن أعلم، أما الآن… فلا يصحّ أن أتظاهر بالجهل.”
في الرواية الأصلية، لطالما ذُكرت مشاعر جيريمي المتحفظة تجاه أصوات إطلاق النار، وفي كل مرة كان يظهر فيها ذلك الجانب، كان دائمًا وحده.
لم يكن حوله من يحتضنه أو يمد له يد العون. بل إن الناس، بعد أن ورث لقب دوق لانكريسيوس، بدأوا يحمّلونه معايير أعلى حتى من ذي قبل.
وهذا أمر مفهوم، فمنزل لانكريسيوس لا يُعدّ من كبار النبلاء فحسب، بل هو أيضًا العمود الفقري لصناعة السلاح في الإمبراطورية.
لهذا السبب، كان جيريمي مضطرًا يومًا بعد يوم أن يتحمّل كل ذلك وهو مقيد بالخوف مما يخشاه أكثر من أي شيء.
وفي الرواية، ظهرت العديد من المشاهد التي تُظهر مدى عمق صدمته النفسية تجاه أصوات البنادق.
—مع انطلاق مسابقة الرماية احتفالًا بيوم تأسيس الأمة، انبعثت أصوات الطلقات من كل صوب.
تراجع جيريمي دون وعي، لكنه سرعان ما توقف.
لم يكن بإمكانه أن يظهر أي ضعف في أول مناسبة رسمية بعد أن ورث اللقب.
بانفجار الطلقة، حلّقت الطيور التي كانت تستريح على الأشجار، فارّة نحو السماء.
في تلك اللحظة، شعر جيريمي بالغيرة من تلك الطيور؛ لم يتمنَّ شيئًا سوى أن يتمكن من الهرب مثلها.
‘أشعر أنني سأموت…’
بدأ العرق يتصبب من راحتيه، وراوده شعور بالغثيان.
كانت الدوقة قد لاقت حتفها وهي تحمي ابنها بين ذراعيها من رصاص القتلة، بينما ظل الفتى غارقًا في دمائها الحارّة، عاجزًا حتى عن البكاء.
ظلام… حرارة… وحمرة قاتمة.
بانفجار طلقة أخرى، أغلق جيريمي عينيه بصمت وابتلع ريقه الجاف.
أن يكون هذا حال دوق المستقبل، ركيزة قوة الإمبراطورية، لهو أمر مخزٍ.
لكنه، وكأنه يقف عاجزًا بين فوهات البنادق، لم يكن أمامه سوى الاستماع مرارًا إلى تلك الأصوات.
“هل أنت بخير، يا صاحب السمو؟”
فتح عينيه ببطء، محركًا حدقتيه الحمراوين بتعب ظاهر.
“أشعر بالملل.”
ضحك النبيل الذي خاطبه وهز رأسه قائلاً:
“لا عجب في ذلك، يا سموك. فأنواع البنادق هذه قد تبدو نادرة بالنسبة إلينا، لكنك ترَ أمثالها كل يوم. لا بدّ أنك مللتها.”
لكن جيريمي لم ينتظر حتى يُكمل حديثه، بل نهض على الفور وغادر.
في كل مرة دوّى فيها صوت رصاصة من بعيد، كان يشعر أنها ستخترق جمجمته. تمامًا كما فعلت تلك التي اخترقت والدته.
راحت روين تتخيل ملامح جيريمي حينها، لكنها سرعان ما انتفضت من ذلك الخيال وحرّكت رأسها بالنفي، وقد بدت عليها القشعريرة.
حتى إنه في هذه القصة الجانبية، ليس بالغ راشد بعد. كيف يعقل أن يُعطى طفل سلاحًا ناريًّا؟ أي جنون هذا يا حضرة الدوق؟
ورغم أنها كانت تَشتمه في سرّها وتتذمّر من كونه أبًا عديم الرحمة، كانت لوين تطوي الرسالة التي كتبتها بعناية وتضعها في المغلّف برقة.
‘لقد منحني المبرر، لذا لم يعد هناك ما يُلزمُني بالصمت. حان وقت المواجهة.’
نهضت روين من مكانها بحزم وتوجهت مباشرة إلى الخادم المسؤول عن البريد لتسليمه الرسالة.
***
رغم مضي وقت طويل على موعد العشاء الرسمي، لم يغادر جيريمي مكتبه بعد.
كان الخدم النشيطون قد أخرجوا بندقيته أولًا، وبدأوا بتنظيفها حتى غدت ماسورتها لامعة بما يكفي لتعكس ملامح وجوههم، لكنه ظل جالسًا إلى الطاولة، يحدّق بالبندقية شاردًا.
“……”
قطّب حاجبيه قليلًا وأسند مؤخرة رأسه إلى مسند الكرسي.
كان يبدو مرهقًا، يتنقل ببصره بين الساعة والنوافذ المظلمة، متنهّدًا من أن الليل قد أرخى سدوله مجددًا، ولم يتبقَ سوى أيام معدودة على مأدبة الصيد.
“كل هذا من أجل… هذا؟”
كان مجرد التفكير في الأمر كفيلًا بأن يبعث قشعريرة في عموده الفقري، وجفافًا في فمه.
أن يسمع صوت إطلاق النار مؤلم بما فيه الكفاية، فكيف إذا اضطر إلى استخدام السلاح بنفسه؟
حدّق في يديه المرتجفتين، ثم قبض عليهما بغضب مكبوت.
لو كان الأمر بيده، لألغى تلك الدعوة التي فرضها عليه دوق لانكريسيوس بنفسه.
لكن مجتمع النبلاء لا يتحرك إلا بالمبررات، ولا يستثني أحدًا، حتى لو كان الطرف المقابل والده.
لم يكن من سبيل للانسحاب من هذا الحفل.
وحين كان يحدّق في البندقية، تذكر الدم الذي غمر جسده ذات مرة، دم والدته، فأغلق عينيه بإحكام.
دقّ الباب، فانفتحت عيناه على عجل.
أعاد ترتيب تعابيره وكأنه لم يكن غارقًا في الكابوس، ثم أمسك بقلمه بتصنّع.
“تفضّل بالدخول.”
وما إن فُتح الباب بهدوء حتى رفّت حاجباه عند رؤيته أطراف فستان خلف الباب، وقد بدت عليه ملامح التساؤل عن سبب قدومها في هذا الوقت.
لكن لوين لم تكترث، وأغلقت باب المكتب خلفها.
“أتيت لأجل تنقية المانا.”
“الآن؟ ألم نجرِها هذا الصباح؟”
“صحيح، لكنني نمت وأكلت جيدًا مؤخرًا، وأظن أنني صرت قادرة على القيام بها مرتين في اليوم.”
رمقها جيريمي بنظرة يشوبها الشك، لكنه أومأ برأسه بلامبالاة.
التعليقات لهذا الفصل " 21"