كأنّه منارة تضيء بحرًا مظلمًا…
كان بريق عيني ذلك الرجل، الذي برز وحيدًا وسط الحشود، ناصعًا كضوء تحذيري بلون أحمر قانٍ.
‘…لـ، لما أنت هنا؟!’
ارتجفت عيناها بشدة، وقد ارتسم الذهول عليهما.
بادرت بسرعة إلى تغطية جانب وجهها بإحدى يديها، لكن تلك النظرة النبيلة المتقدة بالأحمر كانت لاذعة إلى حد شعرت معه بأن كفّها قد احترق.
‘أولًا، عليّ أن أبتعد من هنا..!’
حاولت الاختباء بين الناس، ولكن هيهات… لم يكن ممكنًا أن تتوارى عن الأنظار وسط هذا الحشد الذي تجمّع خصيصًا لرؤية الفائزة بالمركز الأول.
وفجأة، وفي خضم ارتباكها، تقدّم الماركيز مايسون، الذي كان يراقب ما يجري بينما يدخن السيجار، فسلّمه لأحد خدمه، ثم أمسك بنفسه بـ”المسكيت” وتقدّم نحوها.
“الفائز واحد لا غير. ووفقًا لما وعدنا به، أُهديكِ شخصيًّا هذه المقتنية الخاصة بدوق الإمبراطورية الغربية، سموه هينريخ.”
دوّى صوته الجهوري في أرجاء القاعة الفسيحة، حتى طغى على عزف الفرقة الموسيقية.
وما إن أنهى كلماته، حتى بدأ النبلاء، ومعهم الماركيز مايسون، بالتصفيق بحرارة، مهنئين روين على فوزها بالمركز الأول.
جميع الحضور صفقوا بحرارة، ما عدا شخص واحد فقط… جيريمي.
“…هاها. شكرًا جزيلًا لكم.”
انحنت روين وهي تحمل المسكيت بين يديها، كأنها ممثلة فازت بكأس، تحيي بها النبلاء المحيطين بها تواليًا. وفي اللحظة التي همّت فيها بالفرار مدّعية أنها استمتعت بالحفل، انطلق صوت منخفض نبرته تنذر بالتحذير:
“كنتِ قلتِ إنك ذاهبة إلى منزل العائلة.”
في ذلك الصوت العميق كان يكمن قدرٌ وافر من التحدي، بحيث لم يكن من السهل الرد عليه باستخفاف.
وفي لحظة، تحوّل الجو المرح الدافئ إلى سكون بارد مشوب بالتوتر.
وكأنهم تلقوا دلوًا من الماء المثلج، تنحّى النبلاء جانبًا من طريق جيريمي وهم ينحنون له باحترام.
“نسأل أن تحل بركة الإلهة على قصر دوقية لانكريسيوس.”
“وليتغمد المجد دوماً عائلة لانكريسيوس!”
كالجنود في عرض عسكري، تعالت عبارات الترحيب الحذرة من كل حدبٍ وصوب.
جيريمي لم يُعر تلك التحايا اهتمامًا، بل مرّ بها مرور الكرام وتوجه مباشرة إلى هدفه الوحيد: روين.
كلما اقترب منها، ازداد العرق في كف يد روين التي كانت تُمسك بالبندقية.
وما هي إلا لحظات حتى وقف أمامها مباشرة، يرمقها بنظرة حادة تنقل بين البندقية ووجهها، ثم قال بسخرية:
“ألن تُحيّيني؟”
انصبّت كل الأنظار على روين تبعًا لنظرات جيريمي.
من دخولها إلى الحفل، بدا واضحًا أنها ابنة عائلة نبيلة، لكن أحدًا لم يعرف من تكون بالتحديد.
روين شعرت بأن النظرات المحيطة بها تلسعها كالإبر، وكأن كل واحد منهم يرشقها بسهم فضول.
سرعان ما ضمّت البندقية بيدٍ، ورفعت فستانها باليد الأخرى، وانحنت لتحية جيريمي.
“أحيّيك، سيدي. و… لتباركك الإلهة كما دائمًا…”
“ونحن نلتقي كل يوم، فهل تنوين حذف الاسم، واللقب، وحتى اسم العائلة؟”
—نلتقي كل يوم؟
تلك العبارة وحدها أشعلت الهمسات من جديد، وزاد الفضول ليتحوّل إلى موجةٍ من التساؤلات:
—من تكون هذه الفتاة التي تلتقي بسيد لانكريسيوس كل يوم؟
في تلك اللحظة، ظهرت نيان لتوّها في القاعة، فاقتربت من جيريمي وانحنت تحييه.
“نيان دو بليير، أحييك سيدي. أرجو ألا تكون قد انتظرت طويلًا… أعتذر عن التأخير.”
“لم أكن بانتظاركِ. ولو كنت كذلك، لتحوّلت إلى التمثال القائم أمام قصر الماركيز.”
‘ما هذا الرد…؟’
روين التفتت بهدوء، دحرجت عينيها كأنها ضاقت ذرعًا بالموقف.
أما نيان، فرغم ابتسامتها المتوترة، فقد اتسعت عيناها كالأرنب المذعور حين لمحت روين تقف بين النبلاء.
“الآنسة ديبيار؟!”
وما إن نطقت بذلك حتى تحولت القاعة بأسرها إلى خلية نحل:
“الآنسة ديبيار!؟”
“قلتِ إنها الآنسة ديبيار؟! من تكون؟!”
“يا إلهي، لهذا السبب شعرت أنها تشبه الكونت ديبيار تمامًا… لكن، ألم يُقال إنها التحقت بالأكاديمية؟”
“الأكاديمية ليست سجنًا، لا يمكن حبسها فيها إلى الأبد، أليس كذلك؟”
“آه… إذًا هي خرجت منها مؤخرًا. لكن لحظة… هل يعني هذا أن الآنسة ديبيار هي من فازت اليوم في مسابقة الرمي؟!”
تعاظمت همسات الاستغراب شيئًا فشيئًا حتى عمّت أرجاء القاعة.
في وسط كل هذا، وقفت روين تضغط على شفتها السفلى بأسنانها، تتلوى بين ابتسامة مصطنعة وأخرى مرتبكة.
لم تمر دقيقة واحدة على لفظ نيان لاسم “الآنسة ديبيار”، لكن الزمن بدا لها كدهر من الإحراج والتوتر.
ثم قالت نيان بلطف:
“إنه اللقاء الأول بعد ما حدث في قصر الدوق، أليس كذلك؟ لم أكن أعلم أنكِ ستحضرين هذا الحفل، لذا أظنه لقاءً سعيدًا أكثر مما توقعت.”
رغم أن المخاطبة غير الرسمية كانت مقبولة، فإن نيان حافظت على نبرة رسمية سامية في حديثها إلى روين، مما زاد من ضيق الأخيرة وارتباكها.
‘أريد أن أهرب. بحق الإلهة، أريد الهرب…’
تورطها في لعبة الرمي كان من باب التسلية، ولم تشعر بمرور الوقت. ولو علمت أن الأمور ستؤول إلى هذا، لعادت أدراجها إلى المنزل منذ البداية.
ندمها اجتاحها كالموج، لكنها أخفت ذلك بإتقان.
“أحيي الآنسة نيان دو بليير. ولتحلّ البركة على قصر دوقية بليير.”
قالتها وهي تمسك بالبندقية وتؤدي التحية، فما كان من نيان إلا أن أمسكت بيدها بلطف.
لكن عينيها كانتا لا تزالان معلّقتين على البندقية.
روين بلعت ريقها بصعوبة، محاوِلة الحفاظ على ابتسامتها.
“يمكنك ِمخاطبتي كما تفعلين عادة، آنسة ديبيار… لكن، ما قصة هذه البندقية؟”
“آه، هذا الـ…”.
وقبل أن تتمكن من إتمام جملتها، قاطع حديثهما دخول مفاجئ من ماركيز مايسون، الذي أنهى لتوّه تحيته مع جيريمي، حاملاً معه حضوره المهيب الذي لا تخطئه العين.
“أهلاً بقدومكِ، سيدتي النبيلة. جئت ِفي أكثر اللحظات إثارة. هذا الـ’مسكيت’، إن أردتِ الحقيقة، هي من المقتنيات الخاصة لدوق الإمبراطورية الغربية هينريخ. ورغم أن بنادق الصيد عادة ما تكون ثمينة، فإن هذه تحديدًا ذات بنية فريدة من نوعها.”
وبدون أن يُطلب منه، شرع مايسون في شرح مواصفات البندقية بشغفٍ شديد، في حين كانت نيان تومئ له برأسها بأدب ووجهها يكسوه لطف مصطنع.
“آه… هكذا إذاً… يبدو أنها بندقية رائعة بحق.”
“هي كذلك، لكنني في الحقيقة لا أهوى الصيد، لذلك بقيت مركونةً دون استخدام. ثم خطر ببالي أن أضعها كجائزة للفائز بالمركز الأول في مسابقة الرماية هذه، فوجدت الفكرة مسلية بعض الشيء.”
عند سماع ذلك، رمشت نيان بسرعة وهي توجه نظراتها نحو روين.
“لحظة، تقصد أن الآنسة ديبيار… هي من فازت؟”
وياليتها أجابت بالنيابة عنها. لكن ما إن أنهى مايسن استعراضه، حتى أغلق فمه تمامًا.
مما اضطر روين لأن تومئ برأسها بنفسها.
“كانت مجرد ضربة حظ… سيدتي، بإمكانكِ الحديث بأسلوب أكثر أريحية. هذا يجعلني أشعر بالحرج.”
“آه… عذرًا، لم أقصد إحراجكِ. لكنني اعتدت على هذه الطريقة في الأكاديمية، ويبدو أنها أصبحت عادة. حين أرتاح أكثر، سأتحدث ببساطة.”
ثم سرعان ما جالت نيان بنظرها بخفة على من حولها، قبل أن تُمسك بيد لوين بحميمية قائلة:
“على فكرة، سمعت من جيريمي أنكِ من اختارت هديتي. أشكركِ على ذلك، آنسة ديبيار.”
أخذت روين تنظر إلى جيريمي بطرف عينها، قبل أن تحول نظراتها إلى نيان سريعًا.
‘هل هذا وقت مناسب لذكر هذا؟ حقًا؟ بدلاً من قول شيء مفيد…! هكذا هم الرجال، يملكون المال، المجد، والوسامة، لكن لا أدنى فكرة لهم عن النساء.’
رغم ذلك، حافظت على ابتسامتها اللطيفة دون أدنى خلل.
“بالمناسبة… آنسة ديبيار، من يرافقكِ اليوم؟ ظننت أنه سيكون من الجيد أن نُعرّف الجميع على بعضهم.”
أما رفيق نيان، فليس هناك حاجة لسؤال من يكون.
في المقابل، التقت روين بنظرات جيريمي الحادة، وسرعان ما صرفت بصرها بتوتر.
“هم؟ آه… حضرتُ بمفردي.”
“آه؟ يا للأسف… كيف يعقل ألا ينتبه أحد لجمال كهذا؟”
قالتها نيان بنبرة مشفقة، ليتبعها جيريمي بابتسامة ساخرة ونفخة أنف مستهزئة:
“ليس لأنه لم يلاحظها أحد، بل لأنها معروفة أكثر من اللازم.”
لم تجد روين ما ترد به، فاكتفت بالنظر إلى الأرض وهي تضغط شفتيها بضيق.
‘وهكذا تبدأ بإثارة من لا شأن له… كلامه مرّ كالعَلقَم.’
رغم أن سخريته كانت لاذعة، إلا أن الحقيقة لم تكن بعيدة عما قاله.
فنظرات النبلاء من حولها لم تكن ودودة أبدًا.
وفي قرارة نفسها، كانت تعلم أنه لن يطلب أحد منها مشاركته رقصة.
ما زال بعض النبلاء منشغلين في الزاوية، يتداولون بأحاديث همسًا حول نيان، جيريمي، وروين:
“إذاً، السبب في أن الآنسة ديبيار تقيم في قصر دوق لانكريسيوس هو أنها عُيِّنت كمعلمة خاصة، أليس كذلك؟ ليس هناك أي حديث عن خطوبة؟”
“هل فقدت صوابك؟ خطوبة؟! الدوق له السيدة نيان بالفعل!”
“ولكن، أليست العلاقة بين دوقية لانكريسيوس وبليير كانت مجرد زيارات؟ لا يوجد حديث رسمي، صحيح؟”
“سيأتي الحديث قريبًا. لا حاجة للتسرع، فالأمير لا يزال في عمر صغير.”
تدريجيًا، بدأت ملامح روين تتلاشى بين ضجيج الأحاديث والتكهنات.
الآن بعد أن وصل الأبطال الحقيقيون، على الممثلين الثانويين الانسحاب.
ورغم المرارة التي شعرت بها في حلقها، إلا أنها كانت تدرك أنها محظوظة، إذ أن هناك من ينتظر عودتها في المنزل.
ورغم طعم الحنظل الذي شعرت به، إلا أنها كانت راضية في داخلها.
“سيدتي، أشكركِ على كلماتكِ اللطيفة. أظن أن الوقت قد حان لأغادر. أتمنى لكِ أمسية ممتعة.”
ارتسمت ابتسامة شاردة على وجه لوين، ثم أعادت تعديل قبضتها على البندقية، وسارت بخطى هادئة نحو البهو.
لكن فجأة…
“السيد تود.”
صوت مألوف، واسم أكثر ألفة.
كان جيريمي قد اقترب منها دون أن تشعر، يتحدث إليها بنبرة آمرة ونظرة متسلطة:
“لا رغبة لي في الإطالة. خذ هذه الأشياء وضعها في عربتي.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 18"