راحت روين تحدّق في والدها، الذي انفجر ضاحكًا، بنظرة خالية من التعبير. ومع انحناء عينيه شيئًا فشيئًا من شدة الضحك، سعل الكونت ديبيار متأخرًا ليتدارك الموقف، ثم مسح آثار الابتسامة عن وجهه.
“أبي، هل انتهيت من الضحك؟”
“هاها… يبدو من تعابير وجهكِ أن الأمر ليس مزاحًا بل جدٌّ، أليس كذلك؟”
“نعم، لا أعلم من ستكون تلك السيدة، ولكن نظرًا إلى سمعتي السيئة، أخشى أن تتجرأ إحداهن وتثير شجارًا معي.”
هزّ الكونت رأسه بحيرة وكأن ما سمعه لا يُصدَّق، لكنه تجنّب التعبير عن استغرابه احترامًا لجو الحديث.
“همم… ولكن، لوف، في رأيي، أظن أن الفتيات هناك هنّ من يقلقن أن تزعجيهن أنتِ.”
“رجاءً، لا تمزح.”
“إنني جاد، روين.”
قالها بابتسامة هادئة، ثم ارتشف ما تبقى من الشاي البارد، وكأنّ هناك الكثير مما يريد قوله ولا يريد تفويته.
“لذا، لا تقلقي بهذا الشأن… روين، والدكِ يعلم تمامًا أنكِ قد تغيرتِ كليًّا.”
“ومع ذلك، أظن أن عليّ أن أُخبركِ ببعض الأمور التي يجب التنبه لها.”
أن يكون هناك تعليمات خاصة يجب اتباعها قبل دخول قاعة الحفل؟ روين اعتدلت في جلستها، ثم انحنت قليلًا بجذعها إلى الأمام. كانت على استعداد لتخزين كل نصيحة تُقال لها في ذاكرتها ببالغ الجدية.
“أولًا، رجاءً، لا تفسدي فساتين الفتيات الأخريات بالنبيذ أو الشمبانيا. ولا تدوسي على أحذيتهن إن أزعجنكِ. وتجنّبي أيضًا التفاخر بالأشياء المادية. تحدثي بطبيعية، كما نفعل الآن، حوار بسيط وعادي. هل فهمتِ؟”
على نبرة التوسل الحازم تلك، عضّت روين شفتها بخفة وقالت بتنهيدة:
“…نعم، أبي.”
اكتفى الكونت ديبيار بإجابتها الراضية وابتسم بمزيج من الارتياح والرضى، ثم نهض فجأة من مقعده وأشار إلى الطابق العلوي حيث تقع غرفة روين.
“اذهبي وخذي قسطًا من الراحة، ثم استعدّي للحفل. سأرسل لكِ الخادمات في الوقت المناسب.”
“آه… هل علينا أن نبالغ في هذا القدر؟ أود فقط أن أمرّ سريعًا وألقي التحية ثم أعود.”
فما جدوى البقاء طويلًا، وهي لا تعرف أحدًا هناك ولن تجد ما يثير اهتمامها على الأرجح؟
“…إن كان هذا ما ترغبين فيه، فلا بأس.”
نظر إليها الكونت ديبيار بدهشة خفيفة، لكنه ما لبث أن أومأ برأسه موافقًا.
***
مع حلول المساء، انخفضت درجات الحرارة بشدة، لكن محيط قاعة الحفل كان يغلي بدفء الحشود.
ففي الخارج، كانت الرياح الشتوية الحادة تصول وتجول، أما في الداخل، فقد غمر المكان ضجيج الضحكات العالية وقرقعة الكؤوس المتصادمة.
قاعة الحفل، ذات الأسقف المرتفعة على نحو لافت، امتلأت بأصوات عزف الفرق الموسيقية، وامتزجت روائح العطور المختلفة فيها لتزيد من أجواء البهجة والترف.
أما أكثر البقاع صخبًا وضحكًا فكان الركن المخصص للعبة “رمي السهام التنافسي” المثبت في أحد جوانب القاعة.
لم تَخْلُ الأحاديث من التذمّر-كيف يُقام مثل هذا النوع من ألعاب العامة في حفل يُعقد داخل قصر الماركيز؟-لكن لم يطل الأمر طويلًا.
فقد خرج الماركيز مايسون، وقد بدا في مزاج مبتهج بفعل الشراب، يرافقه عدد من خدمه، ليعلن بصوت عالٍ:
“الجائزة هي بندقية المسكيت الخاصة بدوق هينريخ من الإمبراطورية الغربية!”
كانت تلك الجملة وحدها كفيلة بإسكات كل التذمرات التي كانت تدور حول “الوجاهة الاجتماعية” وغيرها. فهي ليست أي جائزة عادية، بل بندقية الدوق هينريخ ذاته.
بل إن الشائعات تقول إن هذه البندقية كانت هدية من ولي عهد الإمبراطورية الغربية، الأمير الثالث. بندقية ثمينة إلى هذه الدرجة من شأنها أن تثير لعاب أي شخص، حتى وإن لم يكن قد أمسك بسلاح ناري في حياته.
وبمرور الوقت، تصاعدت وتيرة المنافسة، لا سيما مع عدم وجود شروط محددة للمشاركة، فازداد عدد المتسابقين.
“ألا تشعرون بالملل من تكرار نفس الحفل كل عام؟ هذه ليست سوى حفلة ربيعية تفتتح السنة الجديدة، دعونا نضع الوجاهة جانبًا ونستمتع قليلًا! الفائز واحد فقط.”
من يجرؤ على الاعتراض على كلام الماركيز مايسون؟ ومنذ تلك اللحظة، بدأت جموع النبلاء، رجالًا ونساءً، من جميع الأعمار، بالتجمّع أمام لوحة السهام.
“لكن… ألا يجدر بالفتيات أن يتنافسن فيما بينهن فقط؟”
تساءل أحدهم، إلا أن الماركيز مايسون هزّ رأسه نافيًا بشدة:
“رمي السهام رياضة لا تفرّق بين رجل وامرأة، صغير أو كبير. لا حاجة لتقسيمهم.”
وكانت كلماته صحيحة بالفعل.
فالكونتيسة، التي تظاهرت بخجل قائلة:
“أوه، أنا لا أجيد هذه الأشياء!”
صمدت لمدة ساعتين كاملتين. أما دوق كاليسن، القائد السابق لفيلق الفرسان، فقد تجرّع مرارة الهزيمة أمام فتاة بالكاد يبلغ قوامها مستوى صدره.
وفي النهاية، لم يتبقَ سوى متنافستين: الكونتيسة ليفرتي، وآنسة مجهولة الهوية.
لحظة حاسمة كانت على وشك الحدوث…
ما إن أنهت الكونتيسة دورها، حتى تقدّمت الفتاة التي كانت قد تغلبت على دوق الحدود كاليسن لتقف أمام لوحة السهام.
وقبل أن تلقي السهم، أمال دوق الحدود رأسه إلى الجانب، وكأن الوضع مألوف لديه.
كانت وضعيتها مألوفة لديه من مكان ما.
من حيث الوضعية، فهي قنّاصة لا غبار عليها.
رفع كاليسن يده إلى ذقنه وهو يراقبها باهتمام.
شعرت بذلك أيضًا منذ قليل… تركيزها ليس عاديًّا.
كانت تلك الفتاة، ذات الهيئة المتواضعة، هادئة إلى حد بدا فيه وكأن العالم من حولها قد اختفى، ولم يتبقَّ سواها ولوحة السهام.
ضجيج الحاضرين، صخب الأحاديث، تصادم الكؤوس، بل وحتى الكحول الذي انسكب وكُسرت بسببه إحدى الكؤوس، لم يفلح بشدّ انتباهها.
لديّ شعور بأنها ستفوز…
وفي تلك اللحظة بالضبط، أطلقت الفتاة سهمًا بطول كفّها تقريبًا.
استقر السهم تمامًا فوق سهم آخر كان قد استقر في مركز اللوحة، وكأنهما قطعة واحدة.
تراجعت الفتاة قليلًا إلى الخلف وقد اتّسعت عيناها، وكأن النتيجة قد فاجأتها.
“هاه؟”
بدت مرتبكة، كما لو لم تكن تتوقع ما حدث على الإطلاق. أما النبلاء المحيطون بها، فقد أذهلهم المشهد حتى أوشك بعضهم أن يسقط فكه من شدة الدهشة.
وحدها الكونتيسة كانت من ابتسمت بهدوء، معترفةً بخسارتها.
“لقد فزتِ، آنستي.”
ثم صفّقت لها برفق. حينها فقط، أشرقت ملامح الفتاة الفائزة بابتسامة واسعة، وقفزت فرحًا كجرو صغير من فصيلة “غولدن ريتريفر”، تتراقص في مكانها.
***
رغم تسميته بـ”الحفل الربيعي”، فإن الرياح كانت حادّة كالسكاكين، بعيدة كل البعد عن دفء الربيع.
ما إن ترجل جيريمي من العربة، حتى بدأ يتفحّص المكان بنظرة سريعة.
“سيدي، لم تصل بعد عربة دوقية بليير. الجو بارد جدًّا، لذا سيكون من الأفضل أن تدخل القاعة وتنتظر في الداخل.”
وعلى إثر كلام خادمه، توجّه جيريمي مباشرة إلى الردهة. كان يشعر بانزعاج متزايد كلما رمش بعينيه المتعبتين. لم يغمض له جفن الليلة الماضية، عازمًا على تلقين تلك “الآنسة المتعجرفة” درسًا، وها هو يدفع الثمن الآن بعيون شاحبة.
“اللعنة…”
ضغط على جبهته وسار عابرًا القاعة الواسعة. انحنى الواقفون على المدخل احترامًا له، لكنه لم يعرهم انتباهًا، ومرّ بهم كما لو كانوا تماثيل زينة موضوعة عند المدخل.
في العادة، يُتوقَّع من الضيوف المهمين أن يحضروا الحفل عند منتصف الليل تمامًا، إكرامًا لمكانة مضيف الحفل.
فهذا الحضور في الوقت المحدد يُعدُّ بمثابة صفقة غير مكتوبة، تدعم علاقات النفوذ وتُظهر الاحترام المتبادل.
كما أن أسماء المدعوين تعكس مدى مكانة المضيف وتأثيره بين النبلاء.
وبالطبع، يمكن التملّص من الحضور بذريعة ما، لكن ذلك قد يُفسَّر على أنه إهانة شخصية، لذا نادرًا ما يتغيب المدعوون المهمون.
أما جيريمي، فقد حضر بدافع الواجب، لذا بدأ يبحث بنظره عن الماركيز مايسون. لكن ما رآه لم يكن سوى جمع متراكم من النبلاء.
كنت أعلم أن هناك رائحة مراهنات في الجو.
عادةً، ما إن يدخل جيريمي إلى قاعة الحفل، حتى يسارع الجميع إلى الانحناء له، لكن حين تكون المنافسة مشتعلة، تتغيّر القواعد.
في مرة سابقة، حضر ولي العهد الثامن إلى الحفل، لكن انشغال الحاضرين بلعبة الورق كان لدرجة أنهم لم ينتبهوا حتى إلى مروره.
وفي تلك اللحظة بالذات، خطرت له عبارة قالها له الماركيز مايسون قبل أيام:
“أفكّر في جعل حفل هذا العام أكثر متعة. لقد سئمت من الحفلات الرتيبة طيلة حياتي. لم أعد أطيقها!”
كان الماركيز مايسون معروفًا بروحه التنافسية وجرأته على خوض المغامرات، لذا لم يكن مستغربًا أن يكون خلف هذه الأجواء المختلفة.
مع ذلك، حافظ جيريمي على ملامحه الباردة، إذ لم يكن يحب الزحام على الإطلاق.
“واو! عشر نقاط!”
عند سماعه صوت الهتاف الحماسي، مال جيريمي برأسه باهتمام. ما نوع المنافسة التي تُقام الآن يا ترى؟
وبدون أن يدرك، أخذت قدماه تقودانه نحو الحشد المتجمع حول اللعبة.
في تلك اللحظة، وبصوت طنين السهم الذي اخترق الهواء، عمّ الصمت، تلاه صوت الكونتيسة:
“لقد فزتِ، آنستي.”
ومع إعلانها، انفجرت القاعة بالتصفيق والهتافات، أما الفائزة فقد قفزت فرحًا في مكانها، فتطاير شعرها الأشقر المائل إلى البيج تحت القبعة القماشية التي ترتديها.
“آنستي، تهانينا الحارة!”
“لقد كانت منافسة رائعة حقًا.”
“شكرًا جزيلًا…!”
كانت لا تزال تقفز في مكانها، إلى أن التقت عيناها فجأة بزوجٍ من العيون الحمراء اللامعة، المرتفعة وسط الحشد.
تجمّدت في مكانها فورًا، وقد ارتسمت على وجهها ملامح الفزع.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"