“أجيبي.”
كان أمره مشحونًا بالغضب المكبوت، فما كان من روين إلا أن انحنت برأسها قليلًا باحترام.
“سأجيب على اعتبار أنك قد أذنت لي. في الواقع، كنت أنوي الانطلاق باكرًا على أية حال، فقد مضى وقت طويل منذ زيارتي الأخيرة. أشكرك، سيدي الدوق، على اهتمامك بهذه التفاصيل الدقيقة.”
“لم أُبْدِ أي قلق.”
قال ذلك وهو يشير إليها بإصبعه الصغير المنتصب كما لو كان يُنهي أمرًا مستعجلًا.
كان انزعاجه نابعًا من الثقة التي باتت تنضح من روين منذ أن بُرّئت بالأمس، وهو ما لم يرق له.
ولذلك، بادرت هي أيضًا دون أن تنبس بكلمة، وأمسكت بيده المصوّبة نحوها.
***
رغم أنها كانت ذاهبة اليوم إلى قصر الكونت ديبيار، إلا أن الإنسان لا يمكنه السفر دون تناول الطعام، أليس كذلك؟ لذا، كانت تنوي المغادرة بعد تناول الغداء. غير أن ما إن أشرقت الشمس، حتى أتت بريليا إلى غرفة روين على عجل.
“آنستي، لقد أعدّ لكِ سيدي الدوق عربة خاصة. ويُقال إن عليكِ المغادرة على متن عربة دوقية لانكريسيوس قبل الغداء.”
“هم؟ كنتُ أنوي الانطلاق بعد تناول الغداء… هل من الضروري حقًّا أن أغادر قبله؟”
“أممم… لا أعلم على وجه اليقين. لم يقل إنه ضروري، لكنه قال فقط أن تستقلّي العربة قبل الغداء… أليس هذا ما يقصده؟”
قهقهت روين بخفة ثم أومأت برأسها باقتضاب.
“فهمت، إذًا لا بأس. ما دام الدوق الشاب قد قال ذلك.”
ولم تكن هناك حاجة لتحضيرات طويلة قبل الخروج، لذا لم يكن ثمة ما يمنعها من المغادرة على الفور. فعدّلت فستانها الجديد وربطت القبعة على رأسها بإحكام، ثم سلكت الدرج المركزي متوجهة نحو الطابق الأول.
كان الباب الأمامي الكبير مشرّعًا كعادته، وكانت أشعة الشمس الشتوية تسطع من خلاله بقوة. مشهد يوحي بالسكينة… على الأقل من بعيد.
لكن وسط خدم القصر النشيطين، وقف جيريمي شامخًا كالنملة الخارجة عن صفها، جاذبًا انتباهها كله. وكانت أشعة الشمس التي تتسلل من الباب تبدو وكأنها عباءة تكلّل كتفيه العريضتين.
عضّت روين على شفتها الصغيرة ثم تمتمت متضايقة:
“… كم هو مغرور.”
وقف جيريمي مائلًا قليلاً، ويداه في جيبيه، ينظر إليها بنظرة تنضح بالتمرّد. معظم الناس يحتاجون إلى رفع رؤوسهم عاليًا لملاقاة عينيه، لكنه لم يكن بحاجة سوى لرفع ذقنه قليلًا ليلتقي بنظراتها.
ولعل هذا ما كان يُثير غضبه؛ فرغم بلوغها، كانت تصر على معاملته كطفل.
“تحياتي للدوق..”
“العربة وصلت. لا وقت لديكِ لتنزلي بهدوء كالسيدات الأرستقراطيات.”
أن تقاطعها أثناء حديثها؟ كم هو فظّ!
رفعت روين عينيها إليه بنظرة جانبية لكن حافظت على ابتسامة شكلية خشية أن تُساء نواياها، ثم تظاهرت بالركض وهي تحرك جذعها بحيوية، فيما كانت ساقاها تتهادى ببطء كسلحفاة.
أما جيريمي، فبدأ ملامح الضيق ترتسم على وجهه، وراح يدير عينيه كمن أنهكه التعب. وعندما وصلت روين إلى أسفل الدرج، لاحظت عينيه المحتقنتين بالدماء، فشهقت في سرها وعضّت شفتيها.
‘لابد أنه لم ينم جيدًا.’
أخفضت رأسها لتخفي ضحكتها، لكن صوته سبقها:
“الكونت ديبيار جاء لزيارتكِ.”
“… عفوًا؟ تقصد والدي؟”
“وهل أعني والدي أنا؟ اذهبي. ولا أريد رؤيتكِ حتى منتصف الليل.”
“لا حاجة لذلك. أنوي العودة مبكرًا على أية حال، إذ عليّ الحضور مجددًا غدًا في الخامسة صباحًا.”
كان صوتها يحمل نبرة مزاح مستترة، فأمعن جيريمي النظر في ملامح وجهها، متفحّصًا تعبيرها. لكن رغم ما بدا من خفة في نبرتها، كانت ملامحها بريئة للغاية.
فقال بهدوء، مسترجعًا وجه الكونت دوفيار الذي كان ينتظرهما خارج الباب:
“قلتِ إنكِ لم تزوري منزل عائلتكِ منذ فترة، فابقي الليلة هناك وعودي صباحًا في أول عربة.”
رغم ضيقه منها، فإن تركها تذهب بهذه السهولة كان أمرًا يدعو للريبة.
أمالت روين رأسها متسائلة، ثم دارت عينيها العسليتين بتردد.
“هل أنت متأكد أن ذلك لا يزعجك؟ أنا فقط قلقة عليك، يا سيدي الدوق.”
“فضولكِ المبالغ فيه… فقط راقبي لسانكِ.”
كانت كلماته قصيرة، لكن وقعها لم يكن هيّنًا.
***
ما إن وصلت روين إلى قصر الكونت ديبيار، حتى بدأ قلبها يخفق بشدّة.
صحيح أن حياة القصر الدوقي أكثر بذخًا من حياتها السابقة، لكن أسواره وأرضه وحتى سقفه كانت تعجّ بأعين جيريمي وآذانه، مما جعل الحياة هناك خانقة.
لكن بالنظر إلى طبع والدها، الكونت دوفيار، فقد كانت تتوقع أن تكون الحياة في منزل العائلة أكثر سلاسة. وقد أصابت توقعاتها تمامًا.
“هممم… الحلوى لذيذة جدًا، والدي.”
“أليس كذلك؟ قرأت ذلك في الرسالة التي أرسلها الدوق جيريمي، لذا جهزتها لكِ. وأنتِ أيضًا… إن رغبتِ بشيء، قوليها بصراحة فحسب.”
قال ذلك الكونت ديبيار وهو يبتسم، دافعًا طبق الحلوى باتجاه ابنته روين من جديد، رغم أنه كان قد انزلق نحوها منذ البداية. ورغم أنها كانت قد شبعت تمامًا بعد تناول وجبة غداء دافئة فور وصولها إلى المنزل، لم تستطع رفض هذه اللفتة الكريمة من والدها.
راحت روين تتأمل طبق الحلوى بعينيها، ثم تناولت بسكويته على شكل قلب وقالت:
“السبب هو شعوري بالذنب. لقد سببتُ لك الكثير من المتاعب، أليس كذلك؟ وفي الحقيقة، شعرت ببعض القلق حتى لمجرد أن الدوق أرسل تلك الرسالة.”
كان الكونت يضحك منذ لحظات، لكنه أومأ برأسه الآن بوجه جاد:
“في الواقع، لقد فوجئت كثيرًا. ولكنكِ لم ترتكبي أي خطأ، أليس كذلك؟”
ثم خفض صوته ونظر حوله، كمن يوشك أن يبوح بسر:
“كنت أرغب في التفاخر بأنكِ قبضتِ على اللص بنفسكٌ. لكنني خفت أن يضعكُ ذلك في موقف محرج، فالتزمت الصمت.”
فقالت روين، وقد رسمت على وجهها ابتسامة مشجعة:
“أبي، إنك حقًا حكيم وبصير. صدقًا، كنت أعلم أنك تثق بي.”
اغتبط الكونت بتلك العبارة، فقهقه وقال وهو يحدّق بها بنظرة فضولية:
“لكن، لوف… مهما حاولت، لا أستطيع تصديق ما رأيته بعينيّ. لقد كانت مهارتكِ في الرماية خارقة، وكأنكِ ضابطة شرطة محترفة! هل حقًا… تعلمتِ إطلاق النار في الأكاديمية فقط؟”
يا إلهي، الجو كان لطيفًا فلمَ فتح هذا الموضوع الآن؟
أخذت روين تلوّح بيدها وتنضح بتوترٍ مصطنع، ثم قضمت البسكويت لتفلت من الإجابة.
“لا تُبالغ يا أبي. أنا لست… بهذا التميّز. الشرطة؟ هاها…”
لكن الكونت هزّ رأسه وقال بثقة:
“كلا، أنا أعرف جيدًا لأنني حضرت العديد من مسابقات الرماية. لقد كانت مهارتكِ فائقة بحق. إن كانت تلك قدرتكٌ، فلا بد أنك كنتِ بارزة في الأكاديمية أيضًا. همم.”
شعرت روين بأن حلقها جاف، فأسرعت بارتشاف الشاي لتدفع به البسكويت.
وفي اللحظة التي كانت تبحث فيها عن طريقة لتغيير الموضوع، قال والدها:
“حسنًا، لوف، لو كنتِ أقلّ تهورًا في ماضيكِ، لكنتِ اليوم مشهورة بمهاراتكِ في الرماية… لكن كما تعلمين، السمعة السيئة تنتشر أسرع من الطيبة.”
فكما أن العطر لا يخفي الرائحة الكريهة، كذلك لا تُمحى الشائعات بسهولة.
“لو أنكِ نضجت قليلًا في وقت أبكر مما أنتِ عليه الآن… آه، تذكرت! سمعتُ أن الآنسة نيان زارت قصر دوق لانكريسيوس مؤخرًا. هل صادفتِها؟”
نبرة سؤاله الأخيرة كانت مريبة، فكأنما يختبر شيئًا.
ترددت روين للحظة، لكنها أومأت أخيرًا بحذر. ما دام الأمر قد حدث، فلا بأس إن سأل عمّا وقع بينها وبين نيان.
“إذًا، التقيتما… لا بد أنكِ ألقيتِ عليها التحية، أليس كذلك؟”
“بالطبع، إنها سيدة نبيلة، وكان من الواجب أن أحييها باحترام.”
“هذا طبيعي… إنه أمر بديهي.”
ارتسمت ملامح الأسى على وجه الكونت، فتناول فنجان الشاي كأنه يحاول تهدئة مرارة قلبه، لكنه توقّف عن الشرب وتحدث:
“لماذا لم تدركي ذلك البديهي إلا الآن؟ لوف، أعلم أن ما سأقوله قد يخيب ظنكِ، لكن أباكِ يشعر بالأسف الشديد.”
ثم وضع فنجان الشاي على الطاولة وأعاد ترتيب جلسته قبل أن يتابع بنبرة أكثر جدية:
“إن صادفتِ السيدة نيان مرة أخرى، فعليكِ أن تُظهري احترامًا بالغًا. ولحسن حظكِ أن طباعها متسامحة، وإلا لكنتِ قد طُردتِ من الأكاديمية منذ زمن.”
ثم أطلق تنهيدة عميقة وتابع بأسى:
“يا لها من فضيحة… كيف يمكن لابنة كونت أن تسيء إلى سيدة نبيلة بالكلام، بل وتتدخل في علاقتها بالدوق أيضًا…؟ يا له من عار.”
كانت روين تستمع بصمت، ثم وضعت البسكويت بهدوء على الطاولة. لكنه أعاد وضعه في يدها وقال مبتسمًا:
“على كل حال، ما مضى قد مضى. أما سمعتِ يومًا أن السمعة لا يمكن حتى للأب تغييرها؟ لذا، ألا ترين أنه قد حان الوقت لتظهري في المجتمع مجددًا؟”
“هكذا فجأة…؟ لكن سمعتي سيئة، فما الذي سيتغير لو خرجتُ إليهم الآن؟”
“سيتغيّر، طبعًا سيتغير. الناس الذين يعرفون تفاصيل ما حدث في الأكاديمية قلة، أما الغالبية فلا تعرف شيئًا. وبما أنكِ لم تظهري قط في أي مناسبة اجتماعية منذ ذلك الحين، فقد نسيكِ الكثيرون على الأرجح.”
غرقت روين في التفكير. صحيح أن همّها الآن هو الخروج من دائرة شكوك جيريمي، لكن من الحكمة أن تفكر في مستقبلها أيضًا.
“صُدفة، هناك حفل يُقام قريبًا الليلة. لم لا تذهبين وتظهري وجهكِ فحسب؟”
“ربما… لكن…”
أنزلت البسكويت مرة أخرى، وانكمشت على نفسها بتردد. ما يقلقها هو أن تُحاط هناك بفتيات حاقدات وتنال الإهانة منهن.
“في الحقيقة، أشعر بالقلق. ماذا لو التقيت بإحدى السيدات اللواتي يكنّ لي ضغينة وحدثت مشكلة؟”
رفع الكونت حاجبيه، ثم ضحك ضحكة عالية من قلبه وقال:
“لوف، هل تظنين أن هناك من يجرؤ على الاقتراب من ابنتي الشقية؟ هاهاها!”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"