روين، التي كانت قبل لحظات تتوسل بطريقة لا تليق، نفخت من أنفها باستهزاء ونفضت يديها بشيء من التحدي.
“اعتراف؟! كل ما فعلته هو أنني سألت عن صحة والدي، لا أكثر.”
ابتسم جيريمي بسخرية وقال:
“الكذب بات مألوفًا على لسانكِ.”
لكن عينيه، التي كانت قبل لحظات ترمق روين بنظرات حادة، سرعان ما تلطف بريقهما وهو ينظر إلى الكلب الذهبي. كانت ابتسامته هادئة على نحو لا يُصدّق، لدرجة أن روين نفسها تفاجأت من قدرته على إظهار هذا النوع من التعبير.
راحت تراقبه بنصف ابتسامة ساخرة، ثم رفعت شفتها العليا بتهكم.
“وأنت، سيدي الدوق، لما كنت تتبعني إذًا؟”
طرحت سؤالها بنبرة محاسِبة، لكن نظرات جيريمي بقيت معلقة بذلك الكلب الأشقر الكثيف الفراء. وما إن مدّ يده نحوه، حتى اختبأ الكلب خلف روين كأنما يطلب منها الحماية.
فجمدت يد جيريمي في الهواء للحظة، ثم سحبها بتكلف وأعاد نظره نحو روين.
“ما كنت أتبعه سوى أرض ملكي. أما أنتِ، آنسة ديبيار، فيبدو أن وعيكِ الذاتي متضخم قليلًا.”
نظرت روين إلى الأرض أسفل قدميها بطرف عينها، ثم رفعت رأسها بسرعة دون أن تُظهر ضعفًا.
قال جيريمي، وقد وضع يديه خلف ظهره ونبرة صوته تحمل الشك بنبرة هادئة:
“ومن وجهة نظري، فإن تصرفاتكِ اليوم هي الأشد ريبة. لم أركِ قط تتجولين في الحديقة الأمامية بعد غداء الظهيرة، وفجأة اليوم تخرجين وكأنكِ تنتظرين أحدًا. أليس هذا غريبًا؟”
كلما ابتسم جيريمي بتلك الطمأنينة المزعجة وكأنه يقرأ أعماقها، زاد الضغط في يد روين على طرف فستانها الممزق من وطأة الكلب الشقي. بدا شكلها البائس متسقًا مع حالتها الراهنة على نحو مزعج.
قالت متماسكة:
“حتى وإن كان الأمر كذلك، فما زال لم يُثبت شيء. ماذا لو تبيّن لاحقًا أنني بريئة؟ كيف ستتصرّف عندها؟”
ضحك جيريمي ضحكة جهرية لم يُخفِ فيها سخرية، ثم هزّ رأسه وهو يطلق ضحكة خفيفة من أنفه:
“مستحيل.”
“ولو كان مجرد احتمال؟”
حتى في استخدام روين لكلمة “احتمال”، عبس وجهه كأنها تلفظت بتفاهة لا تُحتمل، وكأنه سمع خيالًا غريبًا من حالم أبله. أما روين، فقد بدت في غاية الجدية.
قال بسخرية:
“هذا مثل قولكِ إنكِ دخلت القصر من باب القلق على سلامتي. هراء لا يُصدق.”
فقالت بإصرار:
“ولكن، إن كنت حقًّا بريئة؟”
فرد، مستسلمًا للنقاش:
“لا بأس، قد يكون. هذه هي وظيفة كلمة ‘لو’، أليس كذلك؟”
ثم أشار بيده كما لو أنه يبعد كنزًا عن سارق، محاولًا إبعاد الجرو الذهبي عنها. لكن الكلب راوغ يده وأخذ يخفض صدره نحو الأرض ويرفع ذيله عالياً، يهزه في فرح.
وحين لم ينجح في ذلك، أنزل جيريمي يده مستسلمًا، ثم مال قليلًا للأمام ليقابل عينيها وقال بنبرة رخوة:
“إن كنتِ بريئة فعلًا، فما يمكنني منحه لكِ هو شيء واحد: حرية التجول داخل القصر كما تفعلين الآن.”
قال ذلك وكأنه يمنّ عليها بكرم كبير، فتجهم وجه روين على الفور:
“بل هناك ما يمكن أن تمنحني إياه أيضًا، سيدي الدوق.”
جيريمي، الذي كان يتوقع شيئًا كهذا من هذه اللصة الصغيرة، ضيّق عينيه متفحصًا، ثم أومأ برأسه إيماءة تعني: وما هو؟
أجابت بثقة:
“بما أن سوء التفاهم هذا ناتج عن ظنّك الخاطئ، فعليك تقديم اعتذار صادق.”
تشنجت ملامحه، وتجمدت نظراته الحادة، ثم أدار عينيه ببطء قبل أن يومئ بإجفال.
وفي تلك اللحظة، ظهر السيد تود يهرول بخطى مسرعة، وقد بدا أن زيارته لمكتب جيريمي كانت بلا جدوى. توقف بثبات أمامهما، وبلباسه المرتب قال:
“ها أنتما هنا. سيدي الدوق، هذه رسالة الرد من الكونت ديبيار.”
أخذ جيريمي الرسالة، ولوّح بها أمام روين كأنما يدعوها لتتأكد من ختم عائلتها الممهور عليها.
ثم أخرج من جيبه الداخلي سكينًا صغيرة ذات طرف غير حاد، ومهارة تامة مزق بها ختم الرسالة، مرددًا لحنًا خفيفًا كما لو أنه يفتح دعوة لحفل.
التقت عيناه بعينيها من حين لآخر وهو يبتسم، في إشارة سخرية لا تخفى.
“سأقرأها أولًا، ثم أعطيكِ إياها. انتظري.”
فتح الورقة بدقة وبدأ بقراءتها ببطء. وتحت أشعة الشمس، لمعت عيناه الحمراوان بلون باهت.
روين، التي راقبت المشهد، تمتمت في نفسها:
“كم هو سعيد بهذا…”
سرعان ما أخذت عيناه تتنقل بسرعة عبر الأسطر، حتى بلغ نهاية الرسالة، فطواها فجأة وأعطاها لها.
تناولتها روين بسرعة وبدأت تقرأ، بينما تراقب ملامح جيريمي التي راحت تزداد عبوسًا.
تساءلت في سرها:
‘يا ترى، ما الذي ورد في الرسالة ليجعله يقطب جبينه هكذا؟’
نظر إليها من علٍ، وعيناه تراقبانها وهي تقرأ، وكان يمرر يده على ذقنه، ثم عضّ شفته السفلى وقال:
“مستحيل…”
لكن روين، التي أنهت القراءة في لحظات، ابتسمت ببشاشة ورفعت ذقنها بثقة:
“أشكرك على إطلاعي على الرسالة، سيدي الدوق. بهذا يكون كل سوء التفاهم قد زال، أليس كذلك؟”
تمتم بذهول:
“… لا، لا يمكن…”
وظل يهز رأسه نافيًا ما قرأه، ثم التفت إلى السيد تود وسأله بنبرة حادة:
“ألم يخبرنا صاحب البوتيك أن الآنسة ديبيار ذهبت إلى متجر الأسلحة؟”
عندها، أجاب السيد تود بتردد وحذر:
“كنت في طريقي للعودة إلى القصر، فسألت مجددًا للتأكد. قال صاحب البوتيك إن الآنسة ديبيار قد عبرت الممر المؤدي إلى متجر الأسلحة. لكن نظرًا لكثرة الزبائن، لم يتمكن من التأكد ما إذا كانت قد دخلت بالفعل.”
حرّك جيريمي عينيه ببطء، ثم ضغط بإصبعه على ما بين حاجبيه.
ذلك لأن روين كانت تحدّق به بصمت كما لو كانت دائنة جاءت لتحصيل دينها.
قالت بصوت هادئ وواضح كما لو كانت تعزف على كرات زجاجية:
“بما أنني أضعف أمام البرد، سأختتم نزهتي هنا وأخلد للراحة في غرفتي. ولكن، ألا توجد كلمة أخيرة تودّ قولها لي، سيدي الدوق؟”
تود، الذي راقب الحوار بصمت، لم يفهم المقصود، فأخذ ينظر إليهما بالتناوب.
حتى الجرو الصغير، الذي كان قد استقر بجانبهما، التفت لينظر إلى جيريمي، وكأن الجميع بانتظار رده.
رفع جيريمي حاجبيه قليلاً قبل أن ينطق أخيرًا:
“يبدو أنه كان هناك سوء تفاهم. أعتذر عن ذلك. ولكن…”
“عذرًا لمقاطعتك، سيدي الدوق، ولكن الجملة التي تبدأ باعتذار لا ينبغي أن تُتبع بـ(لكن) أو (إلا أنّ)… فذلك يُفسد صدق الاعتذار.”
“…فهمت. أعتذر. هل هذا كافٍ؟”
“نعم. أشكرك على سرعة اعتذارك. أتمنى لك يومًا هادئًا، وأن تحلّ بركات الإلهة على قصر دوق لانكريسيوس في هذا اليوم أيضًا.”
ثم رتّبت روين طرف فستانها الممزق، وانحنت انحناءة خفيفة ببالغ التهذيب والرقي، فكان في تلك التحية الرسمية ما يكفي لإثارة غيظ جيريمي مجددًا.
مشت مبتعدة بخطى واثقة ومتحررة، بينما بقي الاثنان يحدّقان في ظهرها بصمت.
“……”
وكان صمت المهزوم طويلاً للغاية.
ظل جيريمي واقفًا لبعض الوقت، ثم تنهد بحرارة وقال:
“حتى الساعة المتوقفة تكون دقيقة مرتين في اليوم.”
ثم استدار وسار بخطى عصبية باتجاه المبنى الرئيسي.
***
في صباح اليوم التالي، بعد انقضاء زوبعة الشك، توجهت روين إلى مكتب جيريمي في تمام الساعة الرابعة وخمس وخمسين دقيقة صباحًا. وعندما لم تتلقَّ ردًا، همّت بالانصراف، لكن في تمام الخامسة، انفتح الباب فجأة.
تفاجأت من الصوت، لكن المفاجأة الأكبر كانت في الشخص الذي فتح لها الباب.
“تحياتي، سيدي الدوق. أين السيد تود؟”
“من المؤكد أنه ما زال نائمًا.”
قال ذلك مشيرًا إلى النوافذ المعتمة بنبرة متذمرة:
“حتى الشمس لم تشرق بعد.”
روين، التي أخفت في قلبها تعبيرًا عن أن هذا كله بسبب عناده، تصنّعت القلق وسحبت حاجبيها الرقيقين إلى الأسفل:
“أوه، لابد أنك مرهق، سيدي الدوق. سأعود عند السادسة. النوم أمر بالغ الأهمية…”
“أتعلمين أن تمثيلكِ للقلق لا يخدعني؟ كفى. ادخلي. على أي حال، حالما أُجري تنقية المانا، ستتلاشى آثار التعب.”
“لكن… النوم الجيد ضروري لنمو القامة أيضًا.”
رغم أن قامته كانت بالفعل أطول من المتوسط، إلا أن روين تعمدت استفزازه بنظرات مباشرة.
عندها، أدار جيريمي عينيه بتعب، ثم نظر إليها من علٍ، ورفع إصبعه الطويل محذرًا:
“قولي كلمة واحدة أخرى فقط. كلمة واحدة.”
جاء التحذير بنبرة هادئة لكنها شديدة الحسم.
أطبقت روين شفتيها كما لو وضعت عليهما سحابًا، ثم ابتسمت بينما كانت وجنتاها ترتجفان.
“ولا تبتسمي هكذا.”
وقبل أن يُكمل جملته، عدّلت روين تعبيرها فورًا، فردّت شفتيها إلى خط مستقيم ودخلت بهدوء إلى المكتب وجلست على الكرسي.
أغلق جيريمي الباب، ثم تفقد ساعته. كانت الساعة لا تزال 5:02 فقط.
أغمض عينيه، ثم دلك ما بين حاجبيه وكأنه يهدئ حرارة عينيه المتعبة. كيف له أن يشعر بالإرهاق بهذه السرعة؟
وبمجرد أن جلس في مقعده، قال بنبرة حادة:
“ستذهبين إلى قصر الكونت اليوم، صحيح؟ إذًا اذهبي. واغربي عن وجهي بأسرع وقت ممكن.”
وحين لم يسمع ردًا، توقف عن تدليك جبينه وحدّق في روين. أراد أن يعاتبها لامتناعها عن الرد، لكن شفتيها المغلقتين بإحكام أشعلت فيه نار الغضب أكثر.
كانت تلتزم الصمت بسبب تهديده السابق، هذا واضح.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"