كأن قلب روين أوشك على القفز من بين شفتيها، لكنها بلعت ريقها وتظاهرت بالهدوء.
عندها انحنى جيريمي بجسده للأمام، مقلّصًا المسافة بينه وبينها.
“أي أمرٍ له أدنى علاقة بكِ لا يمكنني التغاضي عنه، آنسة ديبيار. أُقَدر قدراتكِ السحرية العالية، لكن هذا لا يغيّر أنكِ تبقين جاسوسة محتملة.”
قال ذلك مرفقًا بتقييم شخصي: أن هذا الشكّ لن يتغير على الأرجح طيلة حياته.
كادت روين أن تجيبه بحدة: “إن كان هذا ظنّك، فاطردني فحسب!” لكن الكلمات توقفت عند حنجرتها ولم تخرج.
ففي ظل انعدام كامل للثقة، لو طلبت الطرد الآن، لما انتهى الأمر بخسارتها لوظيفتها فقط، بل ربما حياتها كلها.
فـ جيريمي من النوع الذي لا يتردد في إزالة من لم يعد مفيدًا.
روين ابتسامة رقيقة، محافظة على هدوئها وقالت:
“لن أنكر ما تقوله في الوقت الحالي. لو كنتُ مكانك، لساورتني الشكوك أيضًا. لكنني بريئة. وإن لم تصدقني، فاسأل والدي. التقيته هناك صدفة في ذلك اليوم، بل وحتى ركبنا العربة معًا. وإن سألته، فسيؤكد لك أنك مخطئ، وأنني بريئة.”
عند ذكر كونت ديبيار، خفّت حدّة التوتر في عيني جيريمي الحمراوين، اللتين كانتا قبل لحظات تمتلئان بالشك.
ورغم جهل روين بذلك، فإن سمعة الكونت ديبيار كانت ممتازة. حتى أولئك النبلاء الذين يعشقون الخوض في الأقاويل، لم يتجرؤوا على انتقاده أو ذمّه، بل كانوا يكتفون بالقول: “المسكين، الكونت يعاني كثيرًا بسببها.”
وبعيدًا عن كل هذا، فحتى جيريمي الذي لا يهتم بالصالونات الاجتماعية كان يعرف جيدًا سمعة كونت ديبيار.
قال جيريمي، بابتسامة ساخرة على وجهه الوسيم:
“كُفّي عن العبث باسم كونت ديبيار. منذ فترة ليست ببعيدة، تجاهلتِ رسالته فامتلأ مكتبي برسائل متراكمة منه. والآن تزعمين أنكما كنتما في عربة واحدة وبعلاقة طيبة؟”
ثم أضاف بازدراء:
“ما أضحوكة.”
“إن لم تصدقني، يمكننا الذهاب إلى قصر عائلتي حالًا، ومواجهته معًا.”
عند سماعه عبارة “مواجهة ثلاثية”، لم يستطع جيريمي كتم ضحكته.
“أترين؟ يبدو أنكِ في عجلة من أمركِ. لا يكفي أنكِ تريدين الذهاب إلى قصر والدكِ، بل وتقترحين مواجهة ثلاثية؟”
ضحكته الساخرة تحوّلت إلى نظرات حادة وهو يحدّق بها بتركيز.
“أم أنكِ تنوين بكاءكِ أمام والدكِ ليتفق معكِ على رواية واحدة بشأن حادثة السطو قبل يومين؟”
كلماته المليئة بالثقة جعلت روين تفقد القدرة على الرد، فلم تفعل سوى أن رمشت بعينيها بدهشة.
كم من الظنون الغريبة يمكن أن يحملها هذا الشاب في رأسه؟ كان ذلك يدعو للدهشة.
كان جيريمي يراقبها كصياد يترقّب فريسةً وقعت بين يديه.
“رغم أن تلك خطة ذكية، فكّري جيدًا. هل تظنين أن الكونت ديبيار سيوافق على الكذب لأجلك؟”
فإن كذب الكونت على وريث دوقية لانكريسيوس، فإن عائلته بأكملها قد تدفع الثمن.
ليس فقط الكونت، بل حتى خدمه ومَن حوله.
بمعنى آخر، لم يكن ديبيار من النوع الذي يكذب لحماية ابنته المشاكسة.
حدّق جيريمي في وجه روين الذي بدأ يتجمّد شيئًا فشيئًا، وكأنه يستمتع بتوقيعه على نهاية العقد.
ثم قال بحسم:
“كما أنني أعلم تمامًا أن علاقتكما كأب وابنته ليست أفضل حالًا من علاقتي بوالدي. بل أعلم أن كل ما شاب علاقتكما من سوء، سببه أنتِ.”
ومع أنه يعرف أن الكثير مما جرى بينه وبين والده يقع فيه اللوم على دوق لانكريسيوس نفسه، إلا أنه أصرّ على تحميل روين كامل المسؤولية عن علاقتها المتصدعة بوالدها.
حين فهمت روين مغزى كلامه، عبست بحدة.
‘إلى متى سيستمر في الحديث عن والديّ؟ إنه يتجاوز حدوده كما لو أنه يتنفس!’
وأخيرًا، لم تعد قادرة على التحمّل، وبدأت كتفاها ترتجفان كشرارة مشتعلة.
“عذرًا لمقاطعتك، ولكن علاقتي بوالدي قد صَفَت، وتجاوزنا كل ما كان بيننا.”
قالتها بابتسامة هادئة تنضح بالثقة، وكأنها تقول:
“علاقتنا أفضل من علاقتكم أنتما الاثنان، بكل تأكيد.”
وقد فهم جيريمي الرسالة، فعقد حاجبيه قليلًا قبل أن يبتسم بسخرية.
“آه، حقًا؟ ولكن… ألا تظنين أنكِ توهمين نفسكِ بذلك، آنسة ديبيار؟ هل تظنين أن هوة المشاعر العميقة بينكما يمكن ردمها بهذه السرعة؟”
كان من كل قلبها أن تقول:
“اهتم بعلاقتك المتوترة مع والدك، سيدي!”
لكنها كانت تعرف جيدًا أنها إن تفوّهت بذلك، فلن تبقَ لها عظام تُلملم.
قالت، محافظة على هدوء وجهها:
“نعم. أليس هذا ما تكون عليه العلاقة بين الأبوين وأبنائهم؟ بل إن والدي، حين رأى اضطرابي يومها، حاول تهدئتي، وقال لي إن بوسعي المجيء إلى المنزل غدًا لأرتاح. بل وأضاف أنه سيُحضّر حلوىً لذيذة، لأنها تريح النفس بعد لحظات الخوف.”
رغم أن كل ذلك محض اختلاق، إلا أن روين كانت على يقين أن الكونت ديبيار، في حالته تلك، كان من الممكن أن يقول كلامًا كهذا.
لكن جيريمي لم يُظهر سوى سخرية أشد.
“وصلتِ إلى حد اختلاق القصص لتغطية كذبتكِ. لو كان الكونت ديبيار قلقًا عليكِ إلى هذا الحد، فلماذا لم تذهبي إلى قصره بدلًا من القدوم إلى هنا؟”
ثم تابع، بسخريةٍ لا تخفى:
“مسكين هذا الكونت. سمعنا أنكِ حضرتِ حفلة باستخدام دعوة كانت موجّهة إليه. أيمكنني الوثوق بشخصٍ مثلكِ بعد هذا كله؟”
ثم أخرج قلمًا فاخرًا وورقة مراسلة صغيرة، وقد ارتسم على وجهه تعبير ساخر.
“سيد تود!”
بمجرد ما نادى باسمه، فتح تود الباب بسرعة، وكأنه كان يترقّب الأمر.
“أمرك، سيدي.”
بدأ جيريمي يكتب الرسالة بخطٍ سريع وثابت، ثم لوّح بها قليلًا وهو يمدّها نحو تود.
“سلّم هذه الرسالة للكونت ديبيار شخصيًا، وأحضر الرد حالًا.”
رغم حركة الرسالة المستمرة لتجفيف الحبر، تمكنت روين من تخمين محتواها:
هل أنت بخير بعد حادثة إطلاق النار؟ وهل ما زالت ابنتك طريحة الفراش منذ الأمس؟ وماذا تخطط ليوم الغد، وهو يوم عطلة؟
لكن الرسالة لم تُكتب بصيغة تحقيق صريح، بل صيغت بدهاء يجعلها تبدو رسالة ودّية من وجهة نظر الكونت الذي يجهل خلفية الموقف.
روين بلعت ريقها الجاف، محاوِلة الحفاظ على وجه لا يشي بالتوتر، بينما جيريمي لم يحرّك نظراته الثابتة عنها، وكأنه تأكّد من حقيقة عيشها حياة مزدوجة.
في تلك الأثناء، مدّ تود يده وسحب الرسالة التي كانت عالقة بين إصبعي جيريمي بحذر، وانحنى احترامًا.
“سأسلمها فورًا بنفسي وأحضر الرد.”
خرج من المكتب دون أن يلتفت.
روين نظرت إلى الباب المغلق، وابتلعت ريقها بصعوبة كأن نفسها سينقطع.
‘كان عليّ ألا أذكر موضوع الحلوى… لا، لحظة. هل أنا من رتّب هجوم اللصوص أصلًا؟ بحق السماء! عليّ أن أكون واثقة بنفسي.’
لكن في قرارة نفسها تساءلت:
‘حتى لو اشتبه في أنني من حرّض على اللصوص، لماذا لا يخطر بباله احتمال أنني من قبض عليهم؟’
وسمعت في ذهنها صوتًا ساخرًا يقول:
“آنستي، هذا ما يُسمّى سمعة.”
وعندما أدركت مقدار ما تدهورت به سمعتها، شعرت بمرارة تسري في فمها.
ظلّ جيريمي يحدّق في وجهها الذي تغيّرت ملامحه، ثم شبك أصابعه على ركبته باسترخاء وكأنما يراقب مشهدًا مسليًا.
“بالمناسبة، غدًا اذهبي إلى قصر والدكِ. طبعًا، ما لم يكشف الرد الذي سيصل اليوم عن مصيبة كبرى.”
كان وجهه وجه صياد يستعد لصيد الفريسة كما ينبغي هذه المرة.
ثم قال، بابتسامة لئيمة ونبرة زائفة فيها حرص ساخر:
“وحاولي هذه المرة ألا تتورطي في حادث إطلاق نار آخر. اعتني بنفسكِ، رجاءً.”
ضحك ضحكة خافتة جعلت روين تشبك يديها المبللتين بالعرق البارد.
‘لم أفعل شيئًا خاطئًا، لكن… لا يكون والدي يجيب بشيء غريب، أليس كذلك؟ لو قال إنني أنا من قبضت على اللصوص…!’
خطر ببالها وجه الكونت ديبيار وهو يصرخ:
“إنها سمعة العائلة! هذا مصيرنا!”
‘لا، لا. يجب ألا يذكر ذلك أبدًا… أرجوك، أبي. أرجوك… صدقني، أنا أعتمد عليك.’
***
رغم اقتراب موعد الغداء، لم يصل أي رد بعد.
جلست روين أمام مائدة فخمة مملوءة بالأطباق، لكنها لم تنظر إلا إلى الباب.
‘كان يخاف بشدّة من القدوم إلى قصر الدوق… هل يعقل أنه اعترف بكل شيء؟’
ثم عادت لتلوم نفسها:
‘هل من الطبيعي أن أرتجف هكذا رغم أنني من قبض على اللصوص؟’
وأجابت نفسها:
‘نعم… موقفي يستحق الارتجاف.’
فمن الغريب أن تكون شابة من عائلة كونت عادية تتقن استخدام السلاح، والأسوأ أن تكون تلك الشابة هي روين لوف ديبيار.
‘آه… كم من الكذبات سينهال عليّ بسبب هذا؟’
هناك الكثير من النقاط التي قد يستخدمها جيريمي ضدها:
“لماذا أخفيتِ قدرتك على استخدام الأسلحة؟ الكونت قال إنه لم يَعِدكِ بأي حلوى. لماذا تصرّفتِ وكأنكِ لا تعرفين شيئًا عن الحادث، رغم أنكِ قبضتِ على اللصوص بنفسكِ؟ هل تخفين شيئًا؟”
ارتعشت وهي تتخيل تلك الأسئلة، ثم نظرت إلى جيريمي الجالس أمامها، مسترخٍ كعادته.
وفجأة أشار إليها بذقنه، وكأنه يقول: “تعالي.”
“أنا؟”
أشارت إلى نفسها بإصبعها وفتحت عينيها باندهاش.
لكن يبدو أن هذا أزعجه، فنهض فجأة، ممسكًا بأدوات طعامه، واتجه نحوها بخطى واثقة زادت من قلقها.
سألته وهي ترفع عينيها:
“ماذا هناك؟”
لكنه لم يجب. خطواته الثابتة والصارمة كانت وحدها كافية لجعل قلبها يرتجف.
ثم وضع أدواته أمامها وقال:
“تذكّرتُ أنكِ كنتِ تبحثين عن سُم فئران في منزلي ذات مرة.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"