تنحنح السيد تود قليلًا لتصفية صوته، ثم ألقى نظرة حذرة على ما حوله قبل أن يتحدث بتحفّظ:
“لحسن الحظ، لم تحدث أضرار كبيرة. صاحب المتجر فقد وعيه للحظات، وعندما أفاق وجد أن الأمر قد وقع بالفعل. يبدو أنه مجرد حادث سطو عادي، لذا كنت أرى أن نختم القضية عند هذا الحد.”
كان حتى اللصوص يدركون أن التورط مع النبلاء قد يجعل الأمور أكثر تعقيدًا.
لذا، كانوا يستهدفون في الغالب متاجر الأسلحة التي تتعامل ببضائع باهظة الثمن لكن لا يدخلها النبلاء بأنفسهم.
وقد كانت حوادث السطو على متاجر الأسلحة شائعة نسبيًا، ولهذا أراد تود تصنيف الحادث كقضية مغلقة.
لكن جيريمي، بوجه لا يوحي أبدًا بالقبول أو الإغلاق، قال بنبرة صارمة:
“تحقّق مجددًا، وبتفاصيل أدق. ما الذي كان موجودًا في المنطقة في ذلك اليوم؟ وهل من جهة محرّضة تقف خلفهم؟”
حدّق السيد تود في الأرض بعينين ضيقتين غارقتين في التفكير.
لم يكن يفهم تمامًا لماذا يُطلب منه التعمق أكثر في قضية تمّت تصفية جميع المتورطين فيها بالفعل…
غير أنه، بعد لحظة، اتسعت عيناه فجأة كما لو أدرك شيئًا، وأومأ برأسه موافقًا.
فكر السيد تود في نفسه قائلًا:
‘هل يقلق سموّ الدوق من أن يُمسّ عمله بسوء؟ حسنًا، لا ضرر من الحذر. على أية حال، آن الأوان ليبدأ الاستعداد أيضًا’
فمشروع الأسلحة كان ثمرة مفاوضات خاصة بين دوق لانكريسيوس والإمبراطور شخصيًا. وإن كان المشروع الآن من مهام الدوق، فحين يبلغ الابن الشاب سن الرشد، سيقع على جيريمي عبء الخوض في العمل بنفسه.
وبينما كان السيد تود غارقًا في تفكيره، رفع عينيه فجأة بنظرة حازمة وقال لسيده:
“سأوافيك بالتفاصيل في موعد أقصاه صباح الغد.”
***
في تلك الأثناء، جلس جيريمي بملامح توحي بالضجر، وما إن أشارت الساعة إلى السادسة صباحًا تمامًا حتى دخلت امرأة إلى غرفته. لم يتمالك نفسه من إطلاق ضحكة ساخرة:
“الساعة السادسة تمامًا. كالعادة، حضرتِ في الموعد الدقيق.”
فردت روين بإيجاز وهدوء:
“هل تحب أن آتي أبكر؟ لا بأس لديّ في ذلك.”
يبدو أن ردّها القاطع أزعجه، إذ انعقد حاجباه بانزعاج ظاهر:
“تتحدثين بثقة. لو طلبتُ منكِ النزول إلى المكتب بحلول الخامسة صباحًا، لبدأتِ بالبكاء والتذمر، فلا تتكبّري.”
لكن روين أجابته ببراءة مصطنعة، وكأنها لا تفهم قصده:
“مستحيل. أنا بارعة في تنظيم نومي، فلا مشكلة لديّ. فأنا راشدة، كما تعلم.”
كان في نطقها لكلمة راشدة نبرة متعمدة التوكيد، مما جعل جيريمي يحدّق فيها مطولًا.
“تنظيم النوم؟ راشدة؟ يبدو أن لديكِ طاقة كافية لتقولِي هراءً.”
رغم نبرته التي قاربت التهديد، أجابته روين بابتسامة لطيفة:
“يقال إن المراهقين في سن العاشرة لا يملكون قدرة على تنظيم النوم، فيصعب عليهم التحكم فيه. أما بعد البلوغ، فيكتسب الإنسان هذه القدرة.”
نظر إليها جيريمي كما يفعل نسر يحوم فوق فريسته.
ثم، وببطء مريب، استقام من انحناءته، واقترب منها خطوة بخطوة.
“هل تعنينني أنا بكلامك؟ هل وصفْتِني للتو بالمراهق؟”
حتى هو لم يصدق ما قالته، إذ ارتجفت حاجباه الكثيفان بشدة.
ضحك لبرهة ضحكة خافتة، ثم طردها من وجهه تمامًا وحدّق فيها متوقعًا منها إجابة مباشرة، متشوقًا لسماع ما ستقوله بلسانها اللاذع.
“لا أظن أن في قولي ما يُعيب. فسموكَ، على ما أعلم، لم يبلغ سن الرشد بعد.”
“أفهم من هذا الكلام أنه تحدٍّ صريح لي؟”
“أي تحدٍّ؟ أنا فقط أُبدي قلقي على جودة نومك، يا سموّ الدوق. أما أنا، فبالكاد أنام بضع ساعات لأني راشدة. لكن سموّك لا يزال في طور النمو، ويحتاج إلى راحة كافية.”
كلماتها ناعمة، وابتسامتها ودودة، لكن مضمون حديثها كان مُستفزًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
جيريمي زفر بشدة، كأنه على وشك أن يختنق من الغيظ.
“كفي عن هذا القلق التافه. حسنًا، من الغد، تعالي إلى المكتب الساعة الخامسة صباحًا.”
قال ذلك وهو يربّت بأطراف أصابعه على المذكرة الموضوعة فوق الطاولة؛ تلك التي كانت تحتوي على فرصتين فقط خُصّصتا لـروين.
أومأت روين برأسها بعد أن لمحت المذكرة، وبملامح هادئة قالت:
“نعم، مفهوم.”
كان صوتها رقيقًا وعذبًا، لكن جيريمي أظهر انزعاجًا واضحًا من رتابتها، فعقد حاجبيه بشدة وأشار إليها بإصبعه الصغير.
وما إن وضعت روين إصبعها في مقابله، حتى حدّق في يدها البيضاء بشدة.
‘تحدّق! وكأنني تجرأتُ على العبث بطباعه. ماذا فعلتُ أصلاً؟’
لو كان الانصياع التام كافيًا لتجنب المشاكل، لكانت روين فعلته منذ البداية. لكنها أدركت أنه إن استمرت على هذا الحال، فستموت اختناقًا تحت وطأة شخصية جيريمي المتسلطة.
ومع أنها لا تملك الجرأة لاستفزازه عمدًا، فإنها قررت أن ترد بكلمات لبقة قدر الإمكان تقيها شره.
“وكأنكِ تفهمين شيئًا. من الغد، ستأتين راكعة تطلبين الرحمة بيديكِ الاثنتين.”
مدّ جيريمي إصبعه الصغير بعصبية، في إشارة واضحة إلى أنه يريد منها البدء في تطهير طاقته السحرية.
فتحت روين أصابعها الخمس وأحاطت بإصبعه بحرص.
‘فلنرَ من سيثبت تحمّله. بالنسبة لي، لا بأس بأن أنام مبكرًا وأستيقظ باكرًا، لكن هل سيستطيع سيدنا الدوق المستقبلي مجاراتي؟’
كانت روزنامة روين اليومية بسيطة للغاية:
أولًا، تطهير طاقة جيريمي السحرية في الموعد المحدد.
ثانيًا، تناول الطعام في وقت الوجبة الرسمي.
فقط هذان النشاطان. أما جيريمي، وريث منصب الدوق، فكان رجلًا لا يكفيه حتى أربع وعشرون ساعة في اليوم.
‘غالبًا ما يكون مصدر الإزعاج غافلًا عن كونه مزعجًا. إذًا، عليّ أن أُعرّفه بنفسه، كم هو مزعج حقًا.’
أغمضت روين عينيها بابتسامة هادئة، وركّزت ذهنها في عملية تطهير الطاقة.
وللحظة قصيرة، انقشعت نبرة الصدام بينهما.
اختفت حرارة الطاقة التي كانت تنبعث من كفها رويدًا رويدًا.
لكن فجأة، وفي خضمّ تطهير الطاقة، قال جيريمي:
“كيف يعقل أن تكون آنسة نبيلة مثلكِ أقل نومًا من السيد تود؟ وليس الأمر أن خادمة ما توقظكِ، فأنتِ تعيشين وكأنكِ في كتاب تعليمي للسلوك المثالي!”
فهمت روين ما يقصده في الحال:
‘يريد أن يجعلني عبدة لتطهير طاقته، لكنه يكتشف أن الأمر ليس بالسهولة التي توقعها. هل كان يظنها لعبة؟’
شعور بالانتصار كاد أن يعلو جبينها، لكنها كتمته فورًا.
تابع جيريمي حديثه وهو ينظر إلى وجهها المبتسم:
“غريبٌ أن هدية السيدة الدوقة كانت سليمة، بل وحتى كافأتكِ على المهمة كما ينبغي. مريب جدًا.”
“لقد أديتُ واجبي بأمانة. فلماذا تظن ذلك مثيرًا للريبة؟”
“لأنكِ لستِ أي شخص، بل آنسة ديبيار.”
كان وقع كلماته كأنها إهانة مباشرة أمام وجهها.
“في الواقع، فكرتُ أنكِ قد تكونين متواطئة مع أولئك اللصوص. بالطبع، هذا مجرد افتراض في أسوأ الأحوال.”
بل، ربما هناك ما هو أسوأ حتى من ذلك—أضافها في ذهنه، ثم واصل:
“لكن الغريب أنكِ لم تكوني على صلة بأي شيء. مما يجعلكِ أكثر ريبة.”
“……يا سيدي، هل أنت متعب هذه الأيام؟ لصوص؟ لا أفهم شيئًا مما تقولونه.”
وكانت كلما رمشت برموشها الطويلة وادّعت القلق، سخر جيريمي من تمثيلها بابتسامة جانبية.
“أنتِ لا تفهمين؟ حسنًا، سأشرح لكِ بنفسي، لكن استمعي جيدًا. هذه فرصة واحدة فقط.”
رفع صحيفة البارحة وقال:
“أنتِ التي لم تخرجي من القصر يومًا، خرجتِ في يوم واحد فقط لأداء مهمة أرسلتُكِ فيها. وفي اليوم ذاته، وقع هجوم على متجر الأسلحة. أي صدفة هذه؟”
وهو يسرد، راح يتفحص تعابير وجهها بدقة كأنما في تحقيق رسمي. يراقب حتى تنفسها، ويحاول قراءته.
“حتى إنكِ، ما إن قرأتِ الخبر في الصحيفة، شحب وجهكِ بالكامل. ظننتكِ أصبحتِ ورقة بيضاء من شدّة الصدمة.”
“يا إلهي… ورقة؟ لقد تذكرتُ ذكرى مرعبة لا أكثر، ولهذا تغير لوني.”
سخر جيريمي علنًا من ردّها، لكنه واصل:
“هذا لا يغيّر شيئًا. فتاة تلازم القصر كالميتة، تخرج يومًا واحدًا فقط وتقع جريمة؟ أتُراه مجرد صدفة؟ أنا غير مقتنع.”
تأملها بنظرات حادّة، من رأسها حتى قدميها، كما يفعل مراهق غاضب يواجه عالمًا لا يفهمه.
عند هذا الحد، شعرت روين أن الحكم قد صدر عليها بالفعل، حتى ارتعشت شفتاها من شدّة الظلم.
“سيدي، أنا في غاية الدهشة. بحسب منطقك، كيف كنتُ سأعلم أنك سترسلنني لذلك المشوار في ذلك اليوم تحديدًا؟”
كانت حجتها معقولة، لكن جيريمي هزّ رأسه رافضًا:
“صحيح. لو كنتِ مجرد معلمة خاصة عادية، لما اتهمتكِ ولا حتى أزعجت نفسي بالتحقيق. لكن المؤسف أنكِ لستِ كذلك. حين يتعلق الأمر بكِ، أضع جميع الاحتمالات على الطاولة.”
ثم شبك ساقيه وأسند ذقنه إلى يده وهو ينظر إليها مطولًا.
ومع تغير زوايا جسده، ظهر في وجهه —الذي بدا وكأنه لولد مدلل— لمحات من رجل ناضج.
روين، وقد شعرت بأن الأمر لو كان بيد رجل بالغ، لما اكتفى بالكلام، بل لجأ إلى وسائل أشد، بلعت ريقها وعضّت شفتيها.
“مع أني لا أملك حجة دامغة، أؤكد لك أنني خرجت فقط لأؤدي المهمة.”
“حقًا؟ إذن لمَ قال صاحب البوتيك إنكِ زرتِ متجر الأسلحة؟”
وفي تلك اللحظة، شدّت روين على إصبعه الصغير بلا وعي.
نظر جيريمي إلى يدها البيضاء التي تمسك بإصبعه، ثم ابتسم ساخرًا وقال:
“إذًا، زرتِ متجر الأسلحة، كما توقعت.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"