كانت عينا جيريمي الحمراوان، وهما تحدقان في روين، أشبه بمصباح تحذيري، مما بعث في جسدها قشعريرة باردة.
كما يُقال: “اللص هو أول من يشعر بالخوف”، أليس هذا حالي الآن تمامًا؟
اختارت روين أن تتصدى لذلك بابتسامة دفاعية، لكن جيريمي لم يُخفِ ارتيابه، بل راح يتفحّص تعابير وجهها بدقة متناهية.
عندها، ردّت روين بابتسامة أكثر لطفًا من المعتاد، وتخلّت عن الإمساك بخنصره، إذ بلل العرق راحة يدها فصارت مبتلة تمامًا.
ثم، وكأنها مفاوضة ماهرة تحاول احتواء الموقف، فركت راحتيها بخفة وأعادت الحديث وكأن شيئًا لم يحدث:
“أهكذا؟ أنا… لا أظن أنني… “
لم تُكمل، واكتفت بتعبيرٍ يوحي بعدم اليقين. عندها، أدخل جيريمي يده في جيبه واتكأ على ظهر الكرسي، متخذًا وضعًا بدا وكأنه على وشك طرد موظف.
“ما هذا الجواب؟ أنا من طرح السؤال، أليس كذلك؟”
ضاقت عيناه تدريجيًا، وتعمّقت نظرته الثاقبة نحوها.
‘ها هو، بدأ يشك فعليًا…’
حين أخذ يتفحّصها من رأسها حتى أخمص قدميها بنظرة فاحصة، عضّت روين شفتها بتوتر، وردّت بصوت متردد ومضطرب.
“أنا آسفة… ظننت أنني بخير، لكن يبدو أن صوت الطلق الناري أفزعني. لقد كان… مرعبًا للغاية، وكان صوت الطلقة عاليًا ومروعًا حقًا…”
قالت روين ذلك وهي تلتقط أنفاسها كغزال فزع رآه الصياد، بينما جيريمي يحدّق بها بعينين متفكرتين، ثم علّق ببطء:
“المرعب هو اللص، والطلق الناري هو العالي.”
كانت عيناه الحمراوان، المشعتان كأنهما ضوء إنذار، تجوبانها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها.
روين أشاحت بنظرها مبتسمة ابتسامة مصطنعة.
أشعر وكأني ارتكبت جريمة… الوضع غير مريح إطلاقًا.
أن تمثّل نوبة فزع من صوت الطلقات النارية أمام شخص مثل جيريمي المعروف بحدة سمعه؟ أمر لا ترغب به مطلقًا. ومع ذلك، لم يكن أمامها الآن سوى هذا الخيار.
“تابعي ما كنتِ تفعلينه، قد يظن المرء أنكِ أنتِ من ضغطتِ على الزناد.”
قالها وهو لا يزال يراقبها بإلحاح.
ظل يراقب تعابير وجهها مليًا، ثم مدّ خنصره نحوها من جديد، فبادرت روين سريعًا إلى الإمساك به قبل أن تتفاقم شكوكه.
أغمضت عينيها محاولة التركيز قبل بدء تنقية الطاقة السحرية. وفي تلك اللحظة، ارتكزت نظرات جيريمي الحمراء على وجهها مجددًا، وقد بدا فيها بريق غريب.
***
ما إن أنهت روين جدولها الصباحي، حتى عادت إلى غرفتها راكضة وكأنها تهرب، وطرحت جسدها المنهك على السرير.
ما حدث صباحًا لم يكن قليلًا، لكن حالتها الجسدية كانت السبب الرئيس في إنهاكها.
ظنّت أن قسطًا من النوم سيعيد لها بعض العافية، لكن…
‘الساعة الثانية بعد الظهر؟!’
لقد كان هذا الجسد أضعف مما تخيلت.
‘لا، لا يمكن! بهذه الحال سأكون أول من يلقى حتفه!’
وفي محاولة يائسة للنجاة، غادرت غرفتها وسألت بعض الخادمات عن مكان إقامة أطباء القصر في الجناح الملحق.
ليتها أبقت بريليا بجانبها… لقد كانت تفضّل التنقل بمفردها، وكان ذلك قرارًا سيئًا.
‘آه، سيمسكون بي كمقتحمة من عالم آخر… ‘
بجسد مثقل، وصلت إلى باب الجناح الخلفي في قصر الدوق. طرقت الباب بيدها اليسرى طرقتين، فجاءها صوت متهالك يعبّر عن الضيق:
“نعم؟”
وانفتح الباب دون تحقق من هوية الطارق، ليقف خلفه طبيب اتسعت عيناه رعبًا حين أدرك من الزائرة.
“يا إلهي! ماذا تفعل السيدة الشابة هنا؟!”
لكنه لم يلبث أن تمالك نفسه، وضبط نظارته السميكة، ثم نظر يمنة ويسرة كمن يستعد لصفقة سرية، وهمس:
“معذرة، لكن لا يوجد لدينا سُم فئران هنا.”
“…عذرًا؟”
“أعني، لا نحتفظ بأي دواء مضر بالجسد. والآن، إذا سمحتِ…”
قال ذلك وأغلق الباب بعزم، في إصرار واضح على ألا تكون له أي صلة بهذه “السيدة الخطرة”.
لكن قبل أن يُغلق الباب تمامًا، امتدت ذراع طويلة من فوق رأس روين وأمسكت به، ليصدر صوت حاد يمنعه من الإغلاق.
تساءل الطبيب باستغراب عن سبب تعثر الباب، وأعاد سحب المقبض ليغلقه، لكنه تجمّد في مكانه حين سمع صوتًا منخفضًا:
“أي سُم فئران؟”
كان الصوت منخفضًا لكن مدوّيًا، ارتد صداه في أرجاء الجناح، وبلغ مسامع روين المرهقة.
في حالتها الطبيعية، لكانت قد ارتجفت والتفتت فورًا، لكن جسدها المرهق لم يطاوعها.
وحين استدارت ببطء، وجدت أمامها تلك العينين الحمراوين اللتين أرهقتها صباح اليوم ذاته.
“ما الذي كنتِ ستفعلينه بسُم الفئران؟”
“لم أكن أبحث عن سُم فئران… فقط، أشعر بتوعك وأردت الحصول على دواء…”
حاولت أن تجيب بصوت حازم، لكن كلما فتحت فمها، تسلل إليها البرد، وجعل فكّها يرتجف.
في تلك اللحظة أيضًا، لم تتوقف العينان الحمراوان عن مسح لوين من أعلى إلى أسفل، وكأنهما تستعدان لتفتيش أغراضها الشخصية.
قال جيريمي ساخرًا وهو يحدّق بها:
“قلتِ إنها ليست حمى جسدية… آه، ربما ليست حمى، بل مجرد أثر لفعلٍ لم تعتادي عليه.”
وقبل أن تحتج على كلامه، اخترق ذهنها خاطر حاد كالسهم:
صحيح، لقد قيل إنه خريج الأكاديمية مثل نيان… هاه، كيف لمجرد شخصية جانبية في قصة فرعية أن تتورط إلى هذا الحد مع الزوجين الرئيسيين؟
وهي ليست حتى الشريرة الأساسية!
زفرت من أنفها زفرة طويلة، فقهقه جيريمي ساخرًا وهو يراقبها:
“لابد أن معدتكِ تألمتكِ قليلًا، أليس كذلك؟ فصاحبة الهدية التي اخترتِها بنفسكِ كانت هي نفسها تلك النبيلة التي لا تطيقينها.”
“ألا اطيقها؟ مطلقًا! أنا مجرد ابنة لكونت عادي، فكيف أجرؤ على كره إحدى النبيلات؟”
عند ذكرها لعبارة “ابنة لكونت عادي”، أومأ جيريمي برأسه موافقًا بشدة، وكأنه يشاركها الإحساس:
“قولكِ في محلّه. حين أفكر بما فعلته تلك الابنة العادية لكونت بحق النبيلة في أيام الأكاديمية… شيء لا يُصدق.”
ماذا أيضًا؟
أصبح الفضول ينهش روين، حتى أنها –وهي صاحبة الشأن– لا تذكر ما الذي حدث في تلك الفترة.
لكن جيريمي بدا وكأنه لا يرغب بذكر نيان أكثر من ذلك، فتحوّل بنظره إلى الطبيب قائلًا:
“كغصنٍ شتوي غير مُقلم، مزعج للغاية. هيا، أعطني الدواء أولًا.”
عندها فقط، تحرّك الطبيب نحو الداخل وكأن أحدهم أحرق باطن قدميه، بينما تابعت روين بعينيها مؤخرة رأسه.
في تلك اللحظة، جاءها من خلفها صوتٌ ساخر:
“لقد حافظتِ على هدوئكِ لشهرٍ تقريبًا، أليس كذلك؟ حسنًا، شهرٌ واحد يُعد إنجازًا بحد ذاته. خذي الدواء وابقِ هادئة.”
أسلوبه في الحديث وقح، لكن على الأقل… يبدو أنه يقلق عليّ نوعًا ما.
فهو مجرد شاب لا يُحسن التعبير عن مشاعره. لذا، مالت برأسها قليلًا بانحناءة خفيفة:
“كونك أبديت القلق بنفسك، فذلك… يُشعرني بدفء في القلب…”
“قلق؟ هل تظنين أنني جئت إلى هنا قلقًا عليكِ؟”
قاطعها جيريمي بسرعة، وحدّق بها بوقاحة قبل أن يضحك بسخرية:
“لطيف جدًا مع النبيلة، تختفين وقت الغداء دون أن يراكِ أحد، وكل ما تتداوله الخادمات أنهن خائفات من أن ترتكبي كارثة ما. هل تدركين أن تصرفاتكِ اليوم تُثير الشكوك؟”
رغم ما في كلامه من إجحاف، إلا أن روين أومأت برأسها مع ابتسامة مصطنعة.
فبعد شهرٍ واحد فقط من التصرف الحسن، من المستحيل أن تُمحى السمعة التي تسببت بها على مدى عمرٍ كامل.
“أعترف ببعض ما قلت، لكنك يا سيدي وقعت في سوء فهم كبير. كل ما في الأمر أنني شعرت بالتوعك، ربما بسبب ما حصل البارحة، فجئت فقط لأطلب دواء. لا شيء أكثر من ذلك.”
“ولكن، الطبيب قال شيئًا عن سُم الفئران، أليس كذلك؟ أم ستقولين إن ذلك أيضًا مجرد سوء فهم؟”
“ذلك سوء فهم من الطبيب وحده. كل ما فعلته هو أنني طرقت الباب فقط.”
ابتسم جيريمي ببطء وقال:
“يا ابنة الكونت، نُطلق على ذلك اسم ‘السمعة’. أليس كذلك؟”
ولأنه انحنى قليلًا حتى تلاقت عيناه بعينيها، كان على روين أن تبذل جهدًا مضاعفًا للحفاظ على ملامح وجهها ثابتة.
“نعم… هذا صحيح.”
“سمعة الآنسة ديبيار التي لم تتهشم فحسب، بل سُحقت ودفنت في زنزانة تحت الأرض! تظنين أن الجميع سيصدقكِ لمجرد أنكِ التزمتِ الهدوء شهرًا واحدًا؟ لقد عشتِ حياتكِ صاخبة بكل ما تعنيه الكلمة، والآن تتوقعين أن يصدقكِ الناس لأنكِ هدأتِ شهرًا؟ يا له من عالم مثالي!”
رغم سخرية جيريمي اللاذعة، لم تتغير ملامح روين.
ابتسامتها ظلت ثابتة، وإن كان الغضب الخفيف يظهر في عينيها بين الحين والآخر.
تبادل معها نظرة مباشرة وقال:
“من الآن فصاعدًا، لا تغيبي عن أي وقت للوجبات دون إذني. حتى لو صدّقكِ الجميع، أنا وحدي لن أصدقكِ أبدًا.”
كانت نظراته الحمراء، المليئة بالشكوك، تلتصق بها بلا هوادة.
شعرت روين بعدم الراحة حيال هذا الإصرار، ولم تعرف كيف تتصرف، فيما ابتعد جيريمي ببطء ثم أغلق الباب بقوة خلفه.
‘…هل جُن؟ هل من الضروري أن يحدّق بي حتى إغلاق الباب؟ يا له من مزاج… حقًا، إن تركته وشأنه فسوف يلتهمني حيّة.’
هزّت روين رأسها محاولة تبديد صورة العينين الحمراوين العالقة في ذهنها.
***
في تلك الأثناء، ما إن أغلق جيريمي الباب بعنف، حتى توجه بخطى واسعة إلى المبنى الرئيسي لقصر الدوق.
وعندها، أسرع السيد تود نحوه شبه راكض، وكأنه كان يبحث عنه منذ مدة.
همّ بسؤاله: “أين كنتَ؟”
لكن جيريمي سبقه بالكلام:
“السيد تود، هل قرأت الصحيفة اليوم؟”
“نعم، سيدي. تقصد حادثة السرقة في متجر الأسلحة، صحيح؟”
تابع جيريمي سيره دون توقف وهو يتفحّص محيطه بنظرة خبيرة، ولحقه السيد تود بخطوات متناسقة.
ثم، بعد أن تأكد من خلو المكان من الآذان المتطفلة، قال بصوت هادئ:
“في الواقع، وبما أن المتجر يبيع سلعًا تابعة لدوقيتنا، فقد ذهبت بنفسي إلى هناك مساء البارحة.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"