شعرٌ بلون البلاتين، وعينان زرقاوان. بشرة بيضاء كثلج ناعم، وخدّان يلمعان بالحيوية كأنهما قد لامسا أشعة الشمس.
كانت تلك الفتاة الصغيرة توحي ببراءة نقيّة وبجمال آسر، حتى إنّ من يراها يكاد يُسحر دون أن يدري.
وفي تلك اللحظة، حرّكت نيان عينيها الكبيرتين ونظرت نحو جيريمي، ثم عادت لتنظر إلى روين.
“هل أنتِ بخير؟ تبدين وكأنكِ محمومة.”
“آه…!”
أن تتمكن من رؤية كلا الشخصين في آنٍ واحدٍ بعينيها الواسعتين… جعل روين تفاجأ وتسرع في تعديل جلستها المرتبكة. حينها، فزعت نيان بدورها وتراجعت خطوة إلى الوراء.
“أنا روين لوف ديبيار. يُسعدني لقاءكِ، سيدتي الكونتيسة.”
تصلّبت نظرات نيان قليلاً، ثم ما لبثت أن استرخت مجددًا بلطف. وكأنها كانت تهمّ بقول شيء، لكن جيريمي قطع عليها الطريق وخطف بداية الحديث.
“كم هو مرهق أن تتظاهري بأن هذا أول لقاء بينكما، رغم أنه ليس كذلك. آنسة ديبيار، تابعي تصرفاتكِ المعتادة، فأنتِ تسبّبين الارتباك للانسة.”
أن هذا ليس لقاؤهما الأول؟ كانت جملة صادمة.
وفي ذات الوقت، شعرت روين بالقلق يغمر صدرها — يا تُرى، بأي طريقة التقت نيان من قبل؟ وأي نوع من العلاقة جمع بينهما؟ هذا التفكير جعل أنفاسها تختنق في صدرها.
آه… بحق السماء، شريرة مجتهدة بحق. كيف انتهى بي المطاف متورطة مع نيان أيضًا؟
فيما كانت روين تتذمّر في سرّها، مدّ جيريمي يده نحوها وكأن الأمر طبيعي تمامًا. فتبعًا لذلك، انتقل نظرها تلقائيًا إلى يده الممدودة.
‘ما سبب هذه الحركة المفاجئة…؟’
رمشت عدة مرات في محاولة لتفسير الموقف، لكن جيريمي ظلّ واقفًا، يده لا تزال ممدودة نحوها. ماذا يجري؟ حاولت استيعاب الوضع لكن عقلها بقي مشتّتًا.
وفي النهاية، وضعت يدها بحذر فوق كفه الكبير. حينها، حدّق بها بعينيه الباردتين مباشرةً وقال:
“ما هذا التصرف الغريب الآن؟”
“……عفوًا؟”
“أعطني الهدية.”
“آه…”
شعرت بالحرج يغمرها حتى أذنيها. احمرّ وجهها احمرارًا فاق حتى حرارة جسدها.
أسرعت روين بإعطائه علبة الهدية.
“أنا آسفة…”
لكن جيريمي لم يُعر اعتذارها أي اهتمام، بل أخذ الهدية وأعطاها مباشرةً إلى نيان. عندها، شهقت نيان بدهشة، وهي تنظر إلى الهدية ثم إليه بالتناوب.
“سيدي؟ ما هذا؟”
“هدية تخرج.”
“آه، لم يكن عليك أن تتكلف عناء ذلك… شكرًا لك، سيدي.”
رغم كلماتها، احمرّت وجنتاها بلون الخجل. تناولت نيان علبة الهدية بلطف ثم ابتسمت بوداعة.
“أعتقد أنه من حقي أن أقبلها، خصوصًا أنني خسرت لقب التخرج المبكر من الأكاديمية بسبب شخصٍ ما.”
وبمجرد أن قالت ذلك، التفت الاثنان إلى لوين ونظرا إليها.
لماذا تنظران إليّ؟ لا يمكن… هل كانت روين وزميلتها نيان من نفس الأكاديمية…؟
كان هذا تطورًا غير متوقّع. من بين جميع أكاديميات الإمبراطورية، هل يعقل أن تكونا خريجتين من ذات المؤسسة؟
نظرت روين إلى جيريمي بعينين يشوبهما الظلم والارتباك، لكنّه لم يرحمها، بل أطلق ضحكة ساخرة وحدّق فيها بنظرة لائمة.
“سيدي؟”
كادت جيريمي يواجه روين ويُحرجها أكثر، لكن نيان قاطعته بلطف. أمالت رأسها نحوه مع ابتسامة بريئة، تُشير له أن يتوقف عن معاتبتها.
“أنا سعيدة جدًا. لم أتوقع أن تتذكرني وتهديني شيئًا بمناسبة التخرج. سأعتز بها كثيرًا.”
“تشكرينني حتى قبل أن تعرفي ما هي الهدية؟”
“أنا واثقة أنك قدمت لي ما أحتاجه.”
رغم نبرتها اللطيفة، كانت كلمتها حاسمة. إلا أن هذا الأسلوب يناسب النبلاء العاديين، وجيريمي لم يكن منهم.
“حقًا؟ سنرى.”
قالها وهو يبتسم بكسل، ثم نظر إلى روين وأضاف:
“الهدية شيء، لكن يجب أن نستقبل الكونتيسة بالشاي على الأقل.”
***
من خلف النوافذ الواسعة، انهمرت أشعة الشمس لتدفئ طاولة الضيافة وأرضية غرفة الاستقبال. كان الموقد قد أُشعل مسبقًا، وصوت احتراق الحطب يملأ الجو بهدوء مريح.
وسط تلك السكينة، كانت نيان ترتشف الشاي بأناقة، رافعةً خنصرها الصغير، بينما أدار جيريمي رأسه ببطء، يخفف من تعب واضح.
أما روين…
‘ما الذي أفعله هنا بينهما…؟ رأسي يؤلمني.’
‘لقد أوصلت الهدية بأمان، أليس من الأفضل أن تتركاها وتستمتعا بوقتهما الرومانسي؟’
‘آه، لا أدري… ولا يمكنني النهوض والمغادرة هكذا فجأة.’
حافظت روين على ابتسامة دبلوماسية وهي تراقب وجهيهما، ثم ما إن التقت عيناها بعيني جيريمي، حتى راح يرمقها بنظرات صارمة من أعلى لأسفل.
قاسٍ كالعادة… مع أنه هو من تأخر عن الموعد.
رفعت فنجان الشاي لتخفي وجهها خلفه. وعندما رشفت منه، بلل دفء الشاي حلقها الجاف، مخففًا قليلاً من الاحتقان الذي كان يؤلمها.
ورغم ذلك، بقي جفناها ثقيلين، وحرارة عينيها المرتفعة توحي بأنها ما تزال محمومة. الرؤية كانت مشوشة بعض الشيء، على الأرجح بسبب الدموع التي تراكمت من أثر السخونة. وعندما مالت بجسمها لترشف مرة أخرى، وخزها ألم مفاجئ في كتفها.
بهذا الجسد… لا يمكنني إطلاق النار أبدًا… لا، بل عليّ على الأقل صعود الجبل الخلفي لممارسة بعض التمارين.
كل ما كانت تملكه هو جسدها القوي. فكيف انتهى بها الأمر عالقة في جسد هش كالزجاج؟
‘حسنًا، لنجرب أن نصبح ساحرة مختصة في السحر المادي. يمكنك فعلها، روين! لكن أولًا، فلنخرج من هذا الوضع المربك حد الغثيان…’
تداعت كتفاها بيأس وهمدت كليًا. حدّق جيريمي بها بنظرة حادة ثم التفت إلى نيان قائلًا:
“وماذا عن الخطاب في حفل التخرج؟”
“تم الأمر على ما يرام، بفضلك.”
“لم يكن لديك وقت كافٍ للتحضير، وهذ بديع. فالأصل أن المتخرجة الأولى من الفوج المبكر هي من تلقيه.”
وكما لو كان متوقعًا، استقرت عيناه الحمراوان على روين.
نيان الطيبة قامت بما كان من المفترض أن تفعليه أنت.
هذا ما فهمته من نظرته، مما جعل روين تشعر بالضيق. أمالت فنجانها في محاولة لتجنّب النظر إليه.
نيان راقبت كلاهما، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة هادئة.
“من ألقاه لا يهم، أليس كذلك؟ صحيح أن الوقت كان ضيقًا، لكنني كنت سعيدة للغاية أن أتمكن من إلقاء الكلمة في مناسبةٍ كهذه.”
وبينما كانت تتحدث، جذبت علبة الهدية نحوها وبدأت بتمزيق الغلاف ببطء.
“وفوق ذلك، تلقيت هدية التخرج هذه.”
بمجرد إزالة الغلاف، ظهرت علبة فاخرة. لم تكن كبيرة الحجم، لكنها تبدو ثمينة بلا شك. لمستها نيان برفق وتابعت:
“وكم كنت سعيدة عندما جاء سموّك بنفسه في الصباح الباكر ليصطحبني!”
نقلت روين نظرها ببطء عن الحلوى التي كانت تتأملها.
‘زار دوقية بليير بنفسه؟ جيريمي… هو من أتى بنفسه؟’
لذا تأخر عن موعده صباحًا.
‘يا للعجب… ما هذا؟ هل هو مدير منحلّ لمزرعة نحل؟ الأجواء تغص بالسكر!’
كتمت ضحكتها بشدّ شفتيها. عندما نظرت إلى جيريمي، كان يتظاهر باللامبالاة وهو يحدّق في لهب الموقد، وكأن ما قيل لا يعنيه.
فتحت نيان صندوق الهدية، ثم أخرجت منه فاصل كتب، وأطلقت شهقة إعجاب.
“أعجبتني الهدية كثيرًا، سموّك.”
نظر جيريمي إلى الفاصل بفتور، ثم عقد حاجبيه قليلًا، ووجه نظرة لائمة إلى روين، وكأنه يقول: حقًا؟ هذا ما اشتريته؟
“كنت تعلم أن القراءة من هواياتي، صحيح؟”
رفع فنجان الشاي بكسل وقال:
“هل كنت أعلم؟”
ظلّت نيان تتأمل الفاصل بفرح، لكن تفاعل جيريمي البارد كان واضحًا.
شعرت روين بالحرج، وضايقها رد فعله.
كان يجب أن أشتري شيئًا أغلى… من الصعب حقًا على فتاة من عامة الشعب أن تواكب ذوق الأرستقراطيين.
كل ما كانت تريده الآن هو انتهاء هذا اللقاء في أسرع وقت.
***
ألم الرأس المتصاعد لم يكن عاديًا. كل ما كانت تفكر فيه لوين هو الاستلقاء على سريرها.
بعد أن ودّعت نيان، تبعت جيريمي بصمت إلى المكتب، والعرق البارد يتصبب منها.
لكنها لم تنطق بكلمة. فحتى لو أخبرته بأنها ليست بخير، فلن يغير ذلك من الأمر شيئًا.
طَق.
بمجرد دخولها إلى المكتب وإغلاق الباب، جلس جيريمي على طرف الكرسي كعادته. رمقها بنظرة فاحصة من أعلى إلى أسفل، ثم عبس قليلًا.
“لا تقولي إنك أصبتِ بنزلة برد بسبب خروجكِ بالأمس؟”
“…لا. لا أظن ذلك.”
“ومع ذلك، تبدين شاحبة تمامًا.”
عندما تهربت من الرد، فتح جيريمي الجريدة الموضوعة على الطاولة بتراخٍ.
“إن كنتِ مريضة، فاستريحي. لا حاجة لإرهاق نفسكِ.”
“لا بأس. بمجرد أن أنهي مهامي اليوم، سأحصل على قسطٍ كافٍ من الراحة.”
حاول أن يقول شيئًا، لكن في النهاية لم ينطق. بدلًا من ذلك، وضع يده على طاولة المكتب.
مدّت روين يدها اليمنى لتضعها فوق يده، لكنها سحبتها على الفور وهي تكتم أنينًا خفيفًا. عندها نظر إليها جيريمي من فوق الجريدة.
“هل تأذيتِ؟”
“لا، لم… لم أُصب بشيء.”
“أنتِ تكذبين بسهولة.”
“لـ، لا… لم أُصب حقًا. فقط… سقطت من السرير أثناء النوم.”
“…كان من الأفضل أن تقولي إنكِ انزلقتِ على الجليد.”
‘أجل، ليتني قلت ذلك.’
ندمت روين متأخرة على ردها. لكنها سارعت بعد ذلك إلى الإمساك بخنصر جيريمي بيدها اليسرى.
عندها فقط، توقّف عن التوبيخ وواصل قراءة الجريدة بصمت. من غير وعي، بدأت روين تقرأ معه ما كُتب فيها.
“في حوالي الرابعة عصرًا، قام مسلح باقتحام متجر أسلحة… وقد أبلغت عنه بعض الشابات اللواتي كنّ يتسوقن في البوتيك المقابل…”
الجملة في أسفل الصفحة الأولى بدت مألوفة للغاية. شهقت روين خلسة، وقد نسيت أمر تنقية المانا من شدّة التوتر.
عندها قال جيريمي فجأة:
“هذا البوتيك… أليست آنستنا قد زارته بالأمس؟ التوقيت يبدو مطابقًا تقريبًا.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"