4
الفصل 04
لم يكن انتهاء امتحانات القبول للثانوية نهايةً لمرحلة دراسية فحسب، بل بدايةً لما هو أشدّ وطأة. في تلك الأسابيع تتكشّف مصائر الطلاب دفعة واحدة، وتبدأ عملية التمييز القاسية التي تُحدّد من يُسمح له بالاستمرار ومن يُدفع إلى الهامش مبكرًا. كثيرون يُقصَون في صمت، محرومين من فرصة إتمام دراستهم، ويجدون أنفسهم مضطرين إلى العمل وهم لم يبلغوا السابعة عشرة بعد. أما الذين يحالفهم الحظ فيتوزّعون بين المدارس الخاصة والمدارس الفنية، متمسكين بالأمل في أن يبقى الباب مفتوحًا ولو قليلًا. وحدهم أصحاب الدرجات المرتفعة، وهم قلّة لا يتجاوز عددهم الخمسين، ينالون فرصة الالتحاق بثانوية عامة مرموقة داخل المدينة.
خلال الفصل الدراسي الأول من السنة الثالثة في المتوسطة، أصبحت الامتحانات أكثر صعوبة وصرامة. كانت درجات وين ييهنغ جيدة، لكنها لم تكن استثنائية. غالبًا ما كان يحتل أحد المراكز الخمسة الأولى في صفه، وكان أفضل ترتيب حققه حتى الآن هو المركز الثاني، مباشرةً بعد تشو يي.
كان اسماهما يُذكَران دائمًا معًا.
تنفّست تشو يي بعمق، ثمّ دفنت بطاقة درجاتها المجعدة في درجها. كان في راحتيها عرق، لكنه لم يكن شيئًا يُقارن بالعرق المتصبب من ظهرها.
وين ييهنغ.
بعد تعديل المقاعد لهذا الفصل، أصبح يجلس خلفها مباشرة.
المسافة بينهما لم تكن تكفي إلا لجسدٍ واحد.
كانت الرياضيات هي المادة التي تجيدها تشو يي أكثر من غيرها، وكانت تستمتع بها كثيرًا، لكن عندما بدأت تفكر في العينين خلف ظهرها، شعرت بالتشتت لأول مرة.
وين ييهنغ فتى مختلف عن باقي الفتيان في سنه. هادئ ومنطوٍ، لكنه ليس منعزلًا مثل تشو يي. يبرع في كرة السلة، علاماته ممتازة، ويتعامل بلطف مع الآخرين، ولهذا يراه الناس محبوبًا.
لكن تشو يي لم تكن ترى أن ذلك هو حقيقته.
كان كبركةٍ ساكنة وصافية لا يُرى قاعها. قد يمدّ أحدهم يده ليلمسه، فيشعر فقط ببرودة مريحة.
لم يكن وين ييهنغ مقرّبًا من الفتيات.
وكان نادرًا ما يتحدث إليهن. لاحظت تشو يي أنه لا يُبادر بالكلام مع أي فتاة إلا إن اقتضت الحاجة.
هل كان يحب الفتيات الصغيرات ذات الملامح الجميلة؟ أم كان يفضّل الفتيات الناضجات ذات الشخصيات القوية؟
أزاحت تشو يي عينيها ببطء. ومن انعكاس الزجاج، استطاعت أن ترى ملامح وين ييهنغ الجانبية الجميلة وهو يركّز على حلّ مسألة في مادة الفيزياء.
كانت قد أنهت تلك المسألة من قبل، بالطريقة ذاتها التي استخدمها.
ارتسمت على زاوية شفتيها ابتسامة خفيفة.
في الفصل الدراسي الثاني من السنة الثالثة، انتقلت فتاة إلى الصف مستخدمة بعض العلاقات الخاصة. قيل إنها جاءت من مدرسة فنية. ومنذ أن ظهرت في الصف، أثارت ضجّة صغيرة.
كانت تُدعى لين جياشي، بعينين تشبهان عيني طائر الفينيق. لم تكن ترتدي زيّ المدرسة، وكان قوامها متناسقًا، وشعرها أسود وشفاهها حمراء، ويبدو من النظرة الأولى أنها تضع مساحيق التجميل. وحين تضحك، كان في عينيها انحناءة خفيفة تشبه الهلال. أما معظم الفتيان الذين وقعت أبصارهم على ذلك المشهد، فقد احمرّت وجوههم واتّسعت أعينهم دهشة.
الفتاة التي كانت تجلس في المقعد الأمامي، إذا ما قورنت بها، كانت تشعر بالدونية.
وُضعت في المقعد الخامس، المقعد ذاته الذي يجلس فيه وين ييهنغ. لم يكن يفصل بينهما سوى طاولة واحدة.
ومنذ أن جلست، شعرت تشو يي بشيءٍ ثقيل وقاتم يغمر صدرها.
كان زميل لين جياشي في المقعد فتى عاديًا جدًا. لا شيء فيه يميّزه، لا طول، ولا مظهر، ولا شخصية، ولا درجات. في ركنٍ يغصّ بالفتيان جلست لين جياشي، فبدت كالقمر في بحر من النجوم، أو كماءٍ رقراق في بركةٍ مكتظة بالأسماك.
لم تكن تشو يي تهتم بالأمر. كانت باردة في صميمها، ولم تعتد الاكتراث بهذه الأمور التي لا تعنيها. هي والفتيات من نوع لين جياشي كنّ على طرفي نقيض، كالبُعد بين خط الاستواء والقطب الجنوبي.
ولكن، هذه المرة.
تنفّست بعمق مرارًا. كانت تلك المرة الأولى التي لم تستطع فيها التركيز في كتابها القصصي المفضل. حدّقت في الصفحة طويلًا، ثم أغلقتها وعادت إلى الوراء بنظرة خاطفة نحو مكان جلوس لين جياشي في المقعد الخلفي.
كان وين ييهنغ كما هو، لا يبدو أن شيئًا تغيّر في نظامه أو استراحته.
ضمّت شفتيها كأن ثقلًا قد زال عن صدرها. التفتت وأكملت ما كانت تقوم به.
حتى الأسبوع الثاني.
بعد انتهاء حصة الدراسة الذاتية في فترة بعد الظهر، استفاقت تشو يي من نومها. كانت مشوشة وتشعر بالعطش. وبينما كانت تفتح غطاء الزجاجة لتشرب قليلًا من الماء،
سمعت صوتًا رقيقًا يقول. “ما اسمك؟”
كان الفتى قد استيقظ لتوّه أيضًا، وجاء صوته أجشًّا على نحوٍ غير معتاد. “وين ييهنغ.”
“آوه.” مالت لين جياشي برأسها، ونظرت إليه بابتسامة. كان وجه الفتى وسيمًا، ولم تكن تلك الابتسامة اللطيفة التي اعتاد الناس رؤيتها على وجهه حاضرة. وبما أنه كان قد استيقظ للتو، فإن ملامحه كانت خالية من التعبير، مما أضفى عليه مظهرًا باردًا قليلًا.
لم يقل وين ييهنغ شيئًا يُذكر. أخذ زجاجة مائه وخرج من الصف. وحين عاد، كانت خرزات الماء تتدحرج على وجهه الأبيض، على الأرجح لأنه قد غسله للتو.
كان الطقس في منتصف الصيف جافًا وحارًا.
شدّت تشو يي شفتيها بإحكام. وضعت أصابعها على صفحات الكتاب، وهي تتابع بعينيها خطواته العائدة إلى مقعده. قطرات الماء انزلقت على خده، وملامحه بدأت تزداد وضوحًا. كانت على وجهه خطوط باردة حادة، تبدأ من ياقة قميص المدرسة الأبيض، وتغوص في بشرته البيضاء النقية.
اعترضت لين جياشي طريقه، فوقف وين ييهنغ قبالتها، يحدّق فيها بصمت ومن علٍ دون أن ينطق بكلمة.
“توسّل إليّ.” رمشت بعينيها، وارتسمت على شفتيها الحمراوين ابتسامة خفيفة. كانت عيناها مليئتين باللهو. رفعت بصرها نحو الفتى أمامها. “وسأُفسح لك الطريق.”
كان صوتها عذبًا، رنّانًا، كأنه يقطر عسلًا.
أقرب إلى تدلّلٍ مصطنع.
جلست تشو يي في المقعد الأمامي، وكان ظهرها كما لو أنه يحترق. لم تلتفت، فازدادت حاسّة سمعها حدّة بشكل لا نهائي.
ظلّ وين ييهنغ صامتًا.
“تنحّي.” وبعد وقت طويل، خرج صوته المنخفض، لكن نبرة مزاجه لم تكن مفهومة.
وحين التفتت تشو يي، رأت خطيّ فكه الرقيقين، وشفتيه المضغوطتين بإحكام. لم تتمكن من قراءة مشاعره. كانت تلك المرّة الأولى التي ترى فيها ذلك التعبير على وجه وين ييهنغ.
لكن لين جياشي لم تبدُ منزعجة. “في المرّة القادمة، قلها بلطف أكثر.”
ثم نهضت لتفسح له الطريق. وحين انحرف جسده ليمر، اقتربت منه وهمست بصوتٍ يحمل ضحكة خافتة.
يُقال إن هناك قصة حبّ نشأت بين الطالب اللامع والواعد، وين، والفتاة الجميلة ذات الحال المتواضع، لين.
وكان ذلك مع بداية مهرجان الثقافة.
أما هي، فلم تكن سوى شخصية هامشية لا تملك حتى سطرًا واحدًا. تم اختيارها فقط لأنها كانت الأولى على لائحة الشرف.
كتبت تشو يي في مذكراتها. أشعر باكتئاب شديد.
كانت امتحانات القبول للمرحلة الثانوية تقترب شيئًا فشيئًا. أصيبت تشو يي بنزلة برد، من تلك التي تظهر في الصيف. نامت طَوال الصباح في المنزل. وطلبت والدتها إجازة مرضية من المعلم المسؤول. وبحلول فترة بعد الظهر، خفّت الحمى. عضّت تشو يي على أسنانها، ونهضت لتحمل حقيبتها، ثم تسللت إلى الخارج وركبت حافلة المدرسة.
وعندما دخلت إلى الصف، كانت فترة الاستراحة لتناول الغداء قد بدأت. أغلب الطلاب قد استغرقوا في النوم، والمروحة الكهربائية القديمة للمعلم كانت تصدر صوتًا عاليًا.
حملت تشو يي حقيبتها وتقدّمت نحو مقعدها.
لكن، كان هناك أحدهم يجلس في مكانها.
توقفت تشو يي، وتملّكها شعور متضارب.
كان الفتى نائمًا ولم يستيقظ إلا عندما وقفت أمامه. تتدلى خصلات شعره الأسود على جبينه، ورموشه الكثيفة تغطي عينيه بينما ينام بهدوء على طاولتها جالسًا على كرسيها. كانت يده اليمنى النحيلة تستند على سطح الطاولة، وهناك خدش صغير تركته تشو يي بالخطأ قبل أسابيع حين كانت تبرّي قلمها.
عبس وين ييهنغ في نومه. وكأنه شعر بوجودها، فاهتزّت رموشه، وفتح عينيه.
“أنا آسف….” قال ذلك فور أن رأى تشو يي.
كانت نبرته هادئة حين اعتذر.
نهض من مكانه، وألقى نظرة نحو مقعده. كانت لين جياشي نائمة فوق طاولته. وقد تبادلَت المقاعد مع الفتى المجاور لها في وقتٍ ما، وها هي الآن تجلس في مقعد وين ييهنغ.
تلاقت نظراتهما، ولم ينطق أيّ منهما بكلمة.
انفتَح قلب تشو يي فجأة، كأشرعةٍ دفعتها رياحُ آذار، ومطرُ نيسان، وشمسُ أيار وزهورُه المتفتحة.
يُتبع….
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"