كان يرقد في مكان قريب من ضيعة آل دونوفان، حيث تغمره أشعة الشمس النقية الدافئة. فوجئت إيزين بأن نايجل، الذي ظنّت أن جثته أُهملت وألقيت كيفما اتفق في تلك الليلة الدامية، قد حظي بقبر لائق.
“أأنت من فعل هذا؟”
لم يجب كليف، لكن صمته كان أبلغ من الإقرار. لم يكن ثمة من يتكفّل بترتيب أمر موت نايجل سواه.
خطت إيزين ببطء نحو البقعة التي يغطيها العشب الأخضر حيث يرقد نايجل.
“سامحني…”
همست باعتذار متأخر أمام قبره.
“سامحني حقاً يا نايجل. كنت أنانية جداً، وجبانة جداً، حتى جئت متأخرة أطلب غفرانك.”
انهمرت دموعها لتسقي العشب الغض. كليف أدار ظهره متعمداً ألا يراها، أما هي فلم تحاول أن تكفكف دموعها المتدفقة.
استدعت إيزين صورة نايجل دونوفان في ذاكرتها.
ما زلت أتمنى أن تعيشي!
الرجل الذي، حتى في الأوقات التي لم تكن تعيها، كان يخلص في قلقه عليها.
“سأعيش، وفاءً لما منحتني من عطف. سأواصل حياتي حتى يأتي يوم أستطيع أن أرد لك جميلك. سامحني… سامحني لأنني حاولت أن أنساك.”
كانت كلماتها المتأخرة مؤلمة كحد السيف. حجبت عينيها المتورمتين من البكاء بيدها، ثم التفتت.
بجوارها، كان كليف يحدّق في القبر. عينه وقعت على زهرة برية بيضاء نبتت فوق التربة، فركع بهدوء أمامها.
ثم أخرج سيفه من على خاصرته، ووضعه أمام القبر كأنه قربان. ذلك السيف الذي حصد به أرواحاً لا تُحصى في ساحات الحرب، والذي منحه إياه الملك بنفسه، وفي قبضته يلمع حجر زمرد أخضر كان أعزّ مقتنياته.
“في الحياة القادمة… لتكن أنت من يسلب حياتي.”
نطق عهده بهدوء، ثم انحنى يقبّل الأرض عند موضع قدمي نايجل. كانت تلك المبايعة الخاشعة بمثابة اعتذارٍ من كليف مور إلى نايجل دونوفان، اعتذار لم يُبدِ مثله حتى أمام الملك.
* * *
عاد قصر آل مور إلى السكينة كأن شيئاً لم يحدث.
قضت إيزين يومها مندمجة في أجواء السلام تلك، تحيط بها معجزة صغيرة: كليف وإيان إلى جوارها، لا كأحلام بعيدة ولا كصور مستقبل مرتقب، بل كحقيقة تعيشها.
أجمل لحظات يومها كانت مع كليف عند المساء، حين يستلقيان في أرجوحة الحديقة يتأملان الشفق الأحمر، والطفل الصغير بينهما يغفو بطمأنينة فوق صدر أبيه، فيما تسند هي رأسها إلى كتفه العريض. كان ذاك وقت انطفاء النهار بسلام ونعومة.
بدأت الجراح القديمة تلتئم شيئاً فشيئاً؛ حتى صارا يتحدثان معاً عن حياتهما الماضية وعن يوم اختُطف إيان في حفلة ميلاده، بعد أن كان مجرد استحضار الذكرى كفيلاً بتمزيق نفسيهما.
ومع ذلك، لم تزل بقايا القلق تلحّ عليهما، فكانا أحياناً ينقلان سرير الطفل إلى غرفتهما لينام إلى جوارهما.
كان كليف يطمئن على أنفاس إيان المنتظمة، بينما تغني له إيزين تهويدة خافتة أو تربت على صدره ليحظى بأحلام سعيدة. وأحياناً، وتحت إلحاحها، كان كليف هو من يغني.
“لا يصلح صوتي. أخشى أن أوقظه. الأفضل أن تغني أنتِ.”
“لكنك تدندن دائماً بينك وبين نفسك. ما عليك سوى إخراجها بصوت مسموع.”
“لا أحفظ كلمات الأغاني.”
تظاهرت إيزين بالضيق، لكنها تنازلت أمام حججه الواهية، إذ كان واضحاً أنه لا يريد الغناء بصوت عالٍ.
وفي المقابل، كان كليف ينهض عند الفجر كلما استيقظ الطفل ليواسيه ويحمله بين ذراعيه. لم يكن ذلك تكليفاً جديداً، فقد كان هو من ينهض دائماً، لكنها كانت تدرك أنه يقوم به بكل رضا.
بل بدا الأمر له كأنه نعمة خالصة: أن يُوقظ مرات عدة في الليل، فقط ليحتضن صغيره ويهدّئه.
* * *
كانت إيزين قد أقسمت أنّه لا يستطيع الغناء ، لكنها كانت تعرف الحقيقة. ففي الليالي التي تغطّ فيها هي وطفلهما في نوم عميق، كان كليف يحدّق بهما بصمت، ثم يهمس في الظلام بترنيمة هادئة، يغني لهما وحدهما.
“إيزين، أتستحمي الآن؟”
كان يسألها بعد أن ينام الطفل المتذمّر، ليبدأ وقتُهما معاً.
دخل كليف بنفسه إلى الحمّام، وملأ حوض الاستحمام بالماء الساخن. منظر أقوى فرسان المملكة، المركيز نفسه، وهو يباشر بيديه عملاً اعتاد عليه الخدم، جعل إيزين مذهولة. لكن ما يتعلّق بها، لم يكن في نظره يخضع لمراتب أو فوارق. كما فعل حين أوقد النار بنفسه في الموقد، ها هو الآن يشمّر عن ساعديه ويعدّ لها الماء بيده. حاولت مراراً أن تثنيه عن خدمتها، لكن عناده الصامت أجبرها في النهاية أن تستسلم وتتركه يفعل.
حتى حين أبدت ضجرها أو أطلقت نوبات عصبية، كان يصغي بصبر لا ينفد. بدا بارعاً على نحو خاص في تلبية نزواتها الصغيرة.
وما إن انتهى استحمامها، حتى لفّ جسدها بمنشفة ناعمة، فازداد وجهها حُمرة من الخجل، وحاولت أن تدفعه بعيداً.
“اللعنة يا كليف! سأرتدي ثيابي بنفسي. ألستَ تظن أنّ لي يداً وقدماً؟”
ابتسم قائلاً: “اللعنة؟ هل قلتِ حقاً كلمة لعنة للتو؟”
أخذ يضحك جهراً، وصوته العميق المهتزّ غمرها حتى اضطرت أن تضغط على صدرها لتحتوي ما فاض من مشاعرها.
وكان ارتداء منامتها بيدها وحدها العزاء الصغير الذي حصلت عليه بعد مفاوضة طويلة معه. وحين تفرغ من تبديل ثيابها، يجلسها قرب المدفأة، ويجفف شعرها الطويل بعناية. يداه الكبيرتان، على ضخامتهما، كانتا تلامسان خصلاتها برفقٍ يخنق الأنفاس.
وعندما تبدأ إيزين بالنعاس، يخرج هو من علبة صغيرة لوشنها المفضل، ويبدأ بتدليك قدميها.
“كليف؟”
“نعم. هل يؤلمك؟”
ملامسة يديه الناعمة لقدميها أيقظت شيئاً من غفوتها. لكن الخدر اللذيذ ظلّ يغلفها، ووجنتاها المحمرّتان بعد الحمّام تضفيان على وجهها دفئاً خاصاً.
تأملته صامتة، وهو راكع أمامها يعالج قدميها. ساعداه المشدودان وقد برزت عليهما العروق تحت كمّيه المرفوعين، ثيابه الملتصقة قليلاً برطوبة الحمّام، كتفاه العريضتان، وظلال جسده الضخم التي تضاعف هيبته.
وفي نهاية نظرتها، وجدت وجهه. وجه بدا أكثر صلابة تحت ظلّ النور الخافت، ومع ذلك ظلّ في نظرها مثال الجمال الكامل. كان دائماً كذلك… حتى في ذكريات نهايته الموجعة.
“ما بالك؟” سألها وهو يلتقط شيئاً من صمتها الممتدّ.
تمتمت: “لماذا قلتَ إنني ربيعك ونسيمك؟”
توقفت يده المارّة على بشرتها لحظة، ثم جمد.
“كنتُ دوماً أتساءل… ماذا قصدتَ بتلك الكلمات. كلماتك الأخيرة ظلّت مغروسة في قلبي…”
إيزين، يا …
الكلمة التي لم يستطع إكمالها يومها كانت جلية لها الآن، أما التي سبقتها، فقد بقيت لغزاً. وما إن نطقتها حتى انسابت دمعة من عينها، كما يحدث كلّما استحضرت نهايته المأساوية.
لم يقل شيئاً، بل مدّ يده يمسح دمعتها بحنوّ، ثم حملها بذراعيه وعاد بها إلى غرفة النوم.
أغمضت عينيها مطمئنة بين ذراعيه. وحين وضعها بحذر فوق السرير، انفتحت عيناها الخضراوان ثانية.
“أغمضي عينيكِ. سأبقى بجوارك.”
“لا… لا أشعر بالنعاس.”
لكن صوتها كان يتثاقل شيئاً فشيئاً. جلس قربها يحدّق إليها، عيناه الزرقاوان تغمرانها دفئاً. رفع خصلة من شعرها سقطت على جبينها، وهمس قلبه بما لم ينطق به.
بينما كانت تبحث في ذاكرتها، لامس جفنيها المطبقين قبلة أخرى، عابقة بمحبّة ثقيلة لا تُقاس. وحين غلبها النعاس وأغلقت عينيها تماماً، توارى الأثر كما لو لم يكن.
“لأن الربيع الذي هبّ فوق أرض قاحلة مقفرة، وأحياها بأنفاسه… لم يكن سوى النسيم الذي جاءني منكِ.”
انتهت كلماته، تاركة صداها ينساب وحده في سكينة الليل، يرسم الفصل الأخير من تلك الليلة الهادئة.
تمت
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 86"