نزف الدم غزيراً من الجرح الذي مزّقه فيليب. قطرات حمراء أخذت تتساقط على الأرض، لتكوّن بركة صغيرة سرعان ما بدت لإيزين كأنها مشهد من كابوسٍ كانت قد رأته من قبل في رؤى المستقبل… كابوساً يعود ليبتلعها من جديد. تجمّدت في مكانها، وقد شلّها الرعب.
“إيزين.”
اندفع كليف نحوها بقوة، يجذبها إلى صدره ويغطي عينيها عن ذلك المنظر. أحاط بكتفيها المرتجفتين بذراعيه العريضتين، وضمّها هي والطفل معاً في حضنه.
“إيزين… إيان.”
لم يسمح لنفسه أن ينهار إلا بعد أن تأكّد أنّ الاثنين في أمان بين ذراعيه.
* * *
حين عاد إليه وعيه، اجتاح جسده ألم لاذع اخترق أوصاله كلها. كتم كليف أنينه بصعوبة، وتقلصت ملامحه وهو يحاول فتح عينيه. شيئاً فشيئاً استقر بصره، وفي حافة الرؤية ظهر له ظلّ نحيل يحدّق إليه بوجل.
“إيزين…”
كان أول ما فعله بعد أن استعاد إدراكه أن مدّ يده نحوها، كأن وجودها هو الضمان الوحيد لحياته.
“أأنت بخير؟ هل أنت بخير حقاً؟”
“أنا… أنا…”
تلعثمت وهي تبكي، ثم تراجعت خطوة. فخبا بصره، وغاص عميقاً في بئر داخلي مظلم. اليد التي كانت ممدودة نحوها هوت بتثاقل إلى جانبه، كأنما تخلى عنها من جديد. أدركت إيزين على الفور ما كان يدور في ذهنه؛ إنّه لا يميّز الآن بين ماضيه وحاضره. يظن أنها عادت لترفضه كما رفضته يوماً.
هل كان اقترانهما بالنسبة له مجرد حلم لا يصدَّق؟
“أنا بخير.”
لم تحتمل أن تراه يغرق في عتمته. تقدمت نحوه، ومدّ هو يده إليها بخوف المتشبث بسراب. وحين تداخلت أصابعهما، أطلق زفرة طويلة متعبة.
ذلك أنّها لم ترفض يده هذه المرة. تأكّد حينها أنّ ما كان بينهما ليس وهماً في مخيلته، بل حقيقة عاشها. مال بجسده المنهك إلى الأمام حتى لامست جبهته ظهر يدها، فتلقّت إيزين ارتعاشه على بشرتها بصعوبة.
“إيان… أين هو؟”
كان سؤاله التالي عن الطفل. تفحّص الغرفة بعينيه الزرقاوين القلقتين.
“إنه بخير. أصيب بخدش صغير في عنقه، لكنه سيشفى دون أثر مع مرور الوقت.”
صوتها بدا مبحوحاً، كما لو جُرح هو أيضاً.
“أما فيليب، فهو يتلقى العلاج في المعبد الآن. قالوا لنا إن حياته ليست في خطر، وسيوافونا بالتفاصيل حال ظهورها… فلا تقلق كثيراً.”
أخبرته بكل ما ظنت أنه يحتاج إلى معرفته عن الآخرين. لكن صوتها ظلّ مضطرباً، ونظراتها تتجنب عينيه، ويديها انسحبتا من قبضته على مهل لتستند إلى أنفاس قصيرة متقطعة. بدا وكأنها تقاتل نفسها كي تتمالك عقلها.
“السير ليور، والسير هاردين… يقومان بجمع الحطام الذي انهار. أما إيان… فهو صغير جداً، ويبدو أنه لا يتذكر ما جرى. لكنه… كان يفتقدك كثيراً، وظل يسأل عنك.”
“إيزين…”
“حين لم تفتح عينيك… حين كان الدم يتدفق بغزارة… حين كنتَ مستلقياً بلا حراك كما في ذلك الوقت القديم، لا تنظر إليّ ولا ترد عليّ… لم أملك إلا أن أبكي كالأبله بلا حول ولا قوة.”
“إيزين…”
شهقت، وكتمت بكاءها، لكن كليف جذبها بقوة إلى صدره. راحت تضرب كتفه في يأس، فلم يشعر بألم يُذكر. ما آلمه بحق لم يكن ضرباتها، بل دمعة ساخنة انحدرت على خدها وارتسمت كخنجر على قلبه.
“لماذا… لماذا أقدمت على تلك الحماقة؟”
كان صوتها يتقطع بالدموع، محاولة أن تصوغ جملة واضحة. ارتجاف أصابعها أفصح عن الرعب الذي عاشته في غيابه أكثر من أي كلمة. فشعر كليف بغصّة تخنقه.
“لو… لو رحلت عني، ماذا كنتَ تظن أنني سأفعل؟! أنت تعلم كم أخاف فكرة موتك… فكيف استطعت…؟!”
“آسف.”
لم يجد جواباً آخر سوى اعتذار صادق. مجرد كلمات، لكنه كان يعلم أنه لا يملك لها شيئاً أسمى يقدّمه. أحسّ بصغره أمامها.
رفع وجهها المبلل بالدموع، وطبع قبلة على كل قطرة انهمرت منها، وكأنه يستجدي الغفران.
“آسف لأنني كبّلتك بروحي الملطخة بالدماء، بروح آثمة لا تستحقك.”
كان ذلك صوت عقدة قديمة، مركونة في أعماق نفسه منذ زمن بعيد. هو يعرف جيداً حجم الخراب الذي خلّفه، وكيف شوّه تلك الصفحة البيضاء التي كانت حياتها.
لقد كان يدرك السبب. كليف مور كان يعرف أن كل ما حدث هو ثمرة لجشعه… لتمسكه الأعمى بإيزين وحدها، ولو على حساب دماء لا تُحصى. كانت أنانية دنيئة قادته إلى هذه النتيجة، وإلى هذه اللحظة من الانكسار.
ومع ذلك، لم يكن في وسعه أن يغيّر شيئاً. لم يبقَ أمامه سوى أن يطلب الصفح.
“أنتِ أسمى مني كثيراً، ومع ذلك… لا أستطيع أن أتركك. آسف.”
كل مقطع من كلماته خرج مشبعاً بالألم. وفهمت إيزين عندها أنّ هذا ما كان يخفيه دوماً في سراديب نفسه؛ ظلمة أخيرة لم تفصح عن نفسها حتى الآن.
لماذا لم تدرك ذلك من قبل؟ لماذا لم توقفه حين كان يتقدم بثبات نحو الهاوية، خطوةً خطوة، باسمها وباسم إيان؟
“كيف تقول ذلك؟ وأنت تعلم تماماً ما تعنيه حياتك بالنسبة إليّ…!”
* * *
هل ترغبين أن أستمر بترجمة الفصول التالية على هذا النمط الأدبي، أم تفضلين أن أكتفي بمقتطفات متقطعة كل مرة؟
إليك الترجمة الأدبية الكاملة للمقتطف الجديد، بنفس الأسلوب العميق والسلس الذي اتفقنا عليه، بحيث يخرج النص كأنه مكتوب بالعربية أصلاً:
* * *
“أنا لا أجيد سوى إيذاء الآخرين. أجعلهم يتألمون، يرهقون، ينهكون… وأنتِ أكثر من يعرف ذلك.”
تمتم بصوت منخفض، وذراعه تحتضنها بأقصى ما يمكن من دفء وحنان. أنفاسه الملامسة لأذنها كانت دافئة، لكن الظلام المنبعث منه لم يكن كذلك أبداً.
“حتى اسمي نفسه… مور، أي الأرض القاحلة. مكانٌ عقيم لا يصلح أن يكون ملاذاً دافئاً لأحد.”
تشنج فكّه لحظة، ثم كأنما اجترّ آخر ما تبقى من عتمته في اعترافٍ مرير:
“كنت خائفاً… خائفاً من أن تكتشفي حقيقـتي وتهجريني.”
سكتت إيزين دون رد، فتتابعت كلماته وكأنها نُزفَت من جرح عميق:
“لم أهرع إلى إيان بدافع الإنكار وحده… بل لأنني كنت أعرف أنك ستتألمين إن فقدناه. وحينها… حينها كنت سأفقدك أيضاً. ذلك الرعب كان يفتك بي.”
أطبق عينيه على تنهيدة أشبه بالأنين، وقال في صدق بائس:
“أنا لا أصلح زوجاً ولا أباً. ورغم ذلك أتشبث بجانبك بعناد، قابعاً في حقارتي.”
بدت عيناه المغلقتان وكأن ثقلاً هائلاً يجرّهما إلى الأعماق. كان واضحاً أنه إذا استسلم لتلك الظلمة، فإنها ستبتلعه إلى الأبد.
لكن إيزين هزت رأسها، ثم رفعت وجهه بين يديها. خطّ فكه البارز، وقد نحله المرض، بدا حاداً كالنصل.
“لا يا كليف.”
نادته، فانفتحت أجفانه ببطء. عيناه الزرقاوان لم تريا أحداً سواها، لم تحتويا شيئاً سواها.
“كليف مور هو من قيّدني بهذا العالم… وأنا التي كنت هائمة بلا جذور.”
(كلمة مور تعني أيضاً تثبيت السفن بالحبال وربطها.)
قالت له وهي ترد على نظرته الممتلئة بها:
“أنت من جعل كل شيء ممكناً. أنت السبب في أننا معاً، رغم كل ما مرّ من زمن ومصاعب.”
بقي صامتاً، وعيناه لا تعرفان سوى انعكاسها.
فعانقته إيزين بكل قوتها، كي لا يخاف، كي لا ينهكه العناء. أرادت أن يبقى وجودهما معاً ذكرى سعادة، لا ندبة ألم.
“فلا تفكّر أبداً في تركي مجدداً. لا تتركني وحدي هنا.”
وكان واضحاً أنّ يقينها هذا قد أنقذه. وبعد صمت طويل، همس بصوت مبحوح:
“أعدك… لن… أتركك ثانيةً.”
قبلته إيزين، فكان ردّه عناقاً محموماً، مشبعاً بلهفة بدت يائسة لكنها في الوقت نفسه دافئة.
“أحبك، إيزين.”
رددها كطائر فقد عقله يكرر النغمة ذاتها. لم تجبه، بل اكتفت بتلقي سيوله من اعترافات الحب التي أطلقها أخيراً.
“إيزين… إيزين…”
بحث عنها كما لو كان في ذلك القبو المظلم يوم حلم بها. والآن، ها هي بين ذراعيه. شدّ عليها حتى بدا وكأنّ ذراعيه لن تنفكا أبداً.
كلاهما شعر بأن الظلام الذي لازم كليف طويلاً بدأ يذوب ويتلاشى.
“يجب أن أرى إن كان إيان بخير. تبا… حتى وأنا أحتضنك لا أطمئن.”
قالها متنهداً وهو ينزع نفسه عنها بتردد. ابتسمت إيزين وأومأت برأسها.
“باا! باا!”
ما إن رآه إيان حتى اندفع فاتحاً ذراعيه، يرتمي في حضنه. بلّل وجنتيه بلعابه وأمطَره بقبلات صغيرة، ثم أخذ يثرثر بلسان طفل يحاول نطق كلماته الأولى.
“باابا!”
كان يثرثر كأنه ينطق بـ”أبي”. ولم يكن لدى كليف متسع ليفكر، فقط رفع الطفل إلى صدره، يقبّل جبهته مراراً. غمره عطر الطفولة العذب، فشدّ على صغيره بامتنان يكاد يقطّع أوصاله. لقد كاد أن يفقده… وكاد أن يفقد كل شيء.
بين شفتيه دعاء خافت بالشكر، ثم مدّ يده إلى إيزين من جديد. عادت إلى حضنه، ومسحت دموعها التي لم تتوقف كأن عينيها لم تعودا تعرفان سوى البكاء.
* * *
بفضل قدرة كليف العجيبة على الشفاء، تمكن من النهوض سريعاً. الطبيب الذي كان يتوقع له رقوداً في الفراش شهرين على الأقل، نظر إليه كمن يحدق في مخلوق غير بشري.
“حين أعود إلى موطني، سأحرص ألا أقيم قريباً من آل مور أبداً.”
تمتم الطبيب لنفسه وهو يغادر. فقد أنهكته إيزين في أثناء علاج زوجها بـ”طريقتها الخاصة”، ثم ودّعهم على مضض بعد أن قَبِل الذهب الذي مدت له، واعداً أن يعود إذا استدعوه.
لكن الأنباء التي وصلت إلى قصر مور قلبت السكينة من جديد: فيليب، الذي كان يتلقى العلاج في المعبد، اختفى بلا أثر. غاب بهدوء ولم يعرف أحد إلى أين.
“أعيدوا آل دونوفان إلى مكانتهم، وابحثوا عن فيليب وساعدوه.”
أمر كليف رجاله، فانطلقوا في مهمتهم بسرية. لم يرفض فيليب مساعدته، لكنه لم يعد قط إلى هايتس.
غيابه المفاجئ أحدث ضجة في المجتمع الأرستقراطي. قيل إنه فرّ مع حبيبة، أو رحل بحثاً عن إلهام. لكن الحقيقة بقيت لغزاً.
كل ما تركه كان برقية قصيرة لإيزين:
“آسف… كوني سعيدة.”
ثم اختفى كلياً. حتى حين حاولوا اقتفاء أثره، توارى أكثر فأكثر، متعمداً ألا يُعثَر له على أثر.
وبعد زمن طويل، لم يرد اسمه إلا في شائعة بعيدة: أن موسيقياً غامضاً في القارة الشرقية يعزف ألحان السماء. ومن خلالها فقط اطمأنوا أنه بخير.
ثم قصدت إيزين وكليف مكاناً واحداً معاً… قبر نايجل.
* * *
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 85"