خرج كليف ليستقبل وليّ العهد، بينما بقيت إيزين تُشرف على ترتيبات الحفل حتى جاءها خبر وصول فيلّيموري. فما كان منها إلا أن نزلت مسرعة إلى الطابق الأول.
“إيزين!”
“أستاذة!”
كانت فيلّيموري قد سبقت سائر المدعوين إلى القصر، ولم تأتِ وحدها، بل بصحبة فيليب أيضاً.
قالت فيلّيموري وهي تتأمل القاعة بعينيها اللامعتين وتغضّ بطرفها في همس ساخر:
“رأيت الزينة في طريقي إلى هنا… لم أرَ في حياتي شيئاً كهذا. تماثيل مصطفّة كل شبر على جانبي الطريق! كدت أحسب أنكم سرقتموها من مصلى العائلة الملكية. قولي لي بصدق، كم كلّف هذا الجنون؟”
ثم أضافت وهي تضحك بخبث:
“أفكّر أن أقتني بعضها لصالوني الخاص… وإن لم يكن بهذا الكم طبعاً. لكنها حتماً باهظة الثمن، أليس كذلك؟”
“سأحدثه بالأمر.” أجابت إيزين بابتسامة صغيرة.
“كلا، لا تجعلي نفسك مدينةً له بشيء.” قالت فيلّيموري وهي تهز رأسها، وكأن خصومتها مع كليف ما زالت متأججة.
عندها تقدّم فيليب، وانحنى بوقار، وأمسك بيد إيزين ليطبع قبلة خفيفة على ظاهرها.
“أهنئكم يا سيدتي، وأشكر لكم أن منحتموني شرف الحضور في هذه اللحظة المهيبة للورد الصغير.”
ثم ابتسم، وعيناه الزاهيتان تتأملانها:
“تبدين اليوم آيةً في الجمال أكثر من أي وقت مضى.”
كان فيليب يترقى سريعاً تحت رعاية آل موور، وقد ذاع صيته حتى صار اليوم نجم الحفل: سيغني لأجل عيد ميلاد إيان. حتى أن خبر غنائه في الحفل جعل العاصمة كلها تضجّ طلباً لدعوات الحضور.
وبينما غابت فيلّيموري برهة، وانشغلت إيزين بالتأكد من آخر الترتيبات، التفت إليها فيليب بنبرة خافتة وهو يلازم مكانه قربها:
“هل أنتن سعيدة، سيدتي؟”
“ماذا؟ آه… نعم. سعيدة، حقاً. وأنا ممتنّة لك أيضاً يا فيليب. لقد ساعدتني كثيراً… وأنقذت إيان أيضاً.”
ابتسم فيليب ابتسامة مُرة، على وجه أجمل من وجوه النساء، وتهدّل صوته بالحزن:
“كنتُ أرجو سعادتك… لكن يبدو أن قلب المرء لا يكفّ عن الخيانة.”
أطرق، ثم قال وكأنما يحدّث نفسه:
“أحياناً لا أدري ما الذي كنت أرجوه حقاً.”
“ماذا تعني؟” بدأت إيزين تسأله، لكن صوتاً قطع حديثهما.
“سيدتي!”
كانت إميلي تركض نحوهما لاهثة.
“حدث خلل في ترتيب المقاعد… لقد أرسل اللورد كليمنتاين رسالة منذ قليل يعلن فيها أنه سيحضر بنفسه!”
تجمدت ملامح إيزين. كان المستشار كليمنتاين خصم كليف اللدود وعدوّه السياسي. وقد دُعي الضيوف اليوم وفق اعتبارات دقيقة لموازين القوى، ولم يكن بين الأسماء قطب الفصيل الأرستقراطي. فما الذي جرى؟
“فيليب، أعذرني قليلاً. سنتحدث لاحقاً.”
أومأ فيليب في صمت، بينما أسرعت هي في خطواتها، ثم توقفت لحظة لتلتفت خلفها.
ظل فيليب واقفاً في مكانه، لا يحرّك ساكناً، يتابعها بنظراته وهي تبتعد.
“فيليب؟ هل أنت بخير؟” سألت بحذر.
فابتسم برقة:
“بالطبع، كنت بخير دوماً.”
لكن إيزين ترددت. ثمة تنافر في تلك الابتسامة المرسومة، أعاد إليها إحساس الانقباض الذي ساورها حين رأته أول مرة، قبل أن ينقذ إيان.
“سيدتي!” صاحت إميلي وهي تكاد تبكي من شدّة القلق. فاعتذرت إيزين ومضت مسرعة. أما فيليب فاكتفى بانحناءة رسمية مودّعة.
(لماذا… أشعر بهذا القلق؟) تساءلت في نفسها وهي تمضي بخطوات ثقيلة، وقلبها يخفق باضطراب.
***
قبل ساعتين من بدء الحفل، صار قلقها واقعاً مرعباً.
“سيدتي… م… ما العمل؟ الصغير… الصغير إيان قد اختفى!”
كان سرير الطفل، المزدان بالزينة الملونة، خالياً تماماً.
“أين إيان؟ أين هو؟!” صرخت إيزين.
تقدّم الطبيب محاولاً تهدئتها:
“السيدة ماري بالكاد تستطيع الكلام… لقد كاد أحدهم يخنقها حتى فقدت صوتها.”
ومع ذلك، فتحت ماري شفتيها المرتجفتين، تقاوم الألم الذي يفتك بحلقها، لتخرج بكلمات متقطعة، لكنها مفهومة بوضوح:
“فيـ… فيليب…”
صعقت إيزين.
“قلتِ فيليب؟ الشاعر فيليب، المغني؟ هو من فعل بك هذا؟!”
هزّت المربية رأسها بعنف، والدموع تغرق وجهها.
“وإيان؟! هل أخذ إيان معه أيضاً؟!”
انفجرت دموع إيزين، فهزّت المربية رأسها ثانية بالإيجاب.
“سيدتي!” نادت إميلي وهي تلوّح بورقة وجدتها على سرير الطفل.
كان الورق متيناً كأنما أُعدّ سلفاً، والخط أنيقاً منمقاً، تحمله الكلمات التالية:
> “ستجدون الطفل حيث تنام آخر ذكرى للبراءة الحقة.”
فيليب D.
“كيف لم نعرف أنه دونوفان؟”
أجاب آلان وهو يخفض رأسه مثقلاً بالعار:
“لقد كان نغلاً لم يُعترف به في العائلة. أنجبته زوجة البارون من رجل غريب، فلم يُقيَّد اسمه في السجلات… لهذا السبب…”
كان يوشك أن يختنق بمرارة التقصير. كان عليه أن ينقّب أكثر، أن يفتّش أبعد. لقد أخفق في تنفيذ أوامر سيده حين طُلب منه التحقيق في أمر فيليب دونوفان، وها هي العاقبة الآن تنهال عليهم كجبل لا يُطاق.
“إيزين!”
كان كليف هو من أسند جسدها حين خارت قواها مرة أخرى مع سماع تقرير آلان.
“ماذا… ماذا نفعل؟ هذا بسببي! بسببي… ولهذا خُطف إيان!”
شدّ عليها كليف بقوة، محاولاً أن يثبّت اهتزاز جسدها المرتعش:
“تماسكي. لا يجوز لك أن تفقدي وعيك الآن.”
ثم التفت إلى آلان بصوت يقطر صلابة:
“ابدأ فوراً بتفتيش كل شبر. أطلق الرجال، وابحثوا عن أثر لذلك اللعين، أي أثر كان… شعرة واحدة، بصمة، أي شيء!”
قال آلان بارتباك:
“المجال واسع للغاية… نحتاج إلى خيط يضيّق نطاق البحث…”
وفجأة، ومضة برق في ذهن إيزين. تذكرت الرسالة التي تركها فيليب. وقد بدا أن كليف استحضرها في اللحظة نفسها؛ انتفخت عروقه في عنقه وهو يكبح اضطرابه، لكن توتره كان فاضحاً.
“قال… حيث ترقد البراءة. تبا له… ماذا يعني؟”
البراءة.
ذلك العطف الملتبس الذي أرسله نايجل دونوفان يوماً إلى إيزين كروفورد.
نهضت إيزين مترنحة، وصوتها بالكاد يخرج:
“أعتقد… أنني أعرف… أين.”
* * *
قادهم الدرب إلى أنقاض قلعة كروفورد.
“كليف…”
منذ أن امتطوا صهوات الخيل ووجهه متيبّس كأنما تحجّر، لا يشي بشيء. لم تستطع أن تقرأ ما يدور في صدره، وهذا زادها قلقاً.
فيليب دونوفان… لم يكن عسيراً أن تدرك سبب أخذه لإيان. كم مرة سألها إن كانت سعيدة؟ كم مرة نظر إليها بذلك الوجه الذي يجمع بين الحسد والاتهام؟ لا بد أن حياته الملوثة بعد قتل شقيقه، وهي تمضي في حياتها بلا انكسار، قد بدت له أقبح صورة للخذلان.
في ماضٍ آخر، ربما كانت لتغرق في دوامة الكراهية لنفسها. لكن الآن لم يعد هناك مجال للتراجع.
(اغفر لي يا نايجل… ذنبي سأكفّره مراراً، وسأقدّم التوبة ألف مرة… فقط، أرجوك، امنع فيليب. لا تدعه يؤذي إيان.)
كانت تتمتم بالاعتذار في قلبها وهي تتطلع إلى كليف بعينين مضطربتين. أصابعها ترتعش، تخدش راحة يدها بقلق.
“أحتاج أن تكون بجانبي… أنت لا تقل قيمة عن إيان في حياتي.”
بل أكثر: كان أعزّ عندها من أن تسمح للضمير أو القدر أن ينتزعه منها. أنانية؟ قسوة؟ نعم. لكنها لم تعد تقوى على تركه يمضي.
ابتسم كليف ابتسامة غامضة، مظلمة، من غير أن ينبس ببنت شفة.
فتحت إيزين فمها، أرادت أن تضيف شيئاً، لكنها لم تعرف ماذا تقول. وفي تلك اللحظة، كانوا قد دخلوا صحن القلعة المتهدمة بخطوات مسرعة.
استقبلتهم الحجارة المتشققة والأرض المبعثرة. هنا ابتدأت حياتها، وهنا انتهت نصفها.
كان المكان مألوفاً، لكنه الآن مجرد ظلّ هزيل لمجد وثراء كان والدها يفاخر به يوماً. لقد مرّت عقود، لكن الأرض نفسها ما زالت تحمل وطأة الخواء.
“أين يختبئ؟”
وبينما يفتشون، دوّى صوت رخيم، يتردد صداه في العلو كأنما أغنية ملائكية.
“أهلاً بكم.”
رفعت إيزين رأسها. كان فيليب جالساً على درابزين السلم المؤدي إلى الطابق العلوي. بين يديه قيثارة يعزف عليها، وأصابعه تنسج لحناً يذيب الصخر.
ابتسم، ولوّح بيده في تهكّم.
“ظننت أنكم ستتأخرون أكثر. لم تخلُ أرواحكم من بقايا ضمير، على ما يبدو.”
ثم حوّل بصره إلى جهة أخرى. تبعته أنظار إيزين، ورأت الطفل.
“إيان!”
“واااااه!”
في أعلى الدرج، كان جسد الصغير ملفوفاً بالقماط، موضوعاً على الحافة كأنه على وشك السقوط. وما إن لمح والديه حتى انفجر في بكاء مرير، يصرخ طلباً للنجدة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 83"