هتفت إيزين بفرح وهي تلوّح بالباقة في يدها. لكن نظراتها لم تكن موجّهة إلى فيلّيموري، بل إلى كليف.
وحين حاول أن يخطو نحوها، لوّحت بيدها كأنها تمنعه، ووجهها مغمور ببهجة لم تعرفها من قبل.
“هل تحسّنت العلاقة بينكما؟”
بدا أنها أدركت متأخرة وجود الآخرين، فاحمرّت وجنتاها بخفة.
“نعم.”
“…….”
“لقد طال بنا الضياع… ربما لهذا صار الحاضر أثمن بكثير.”
راحت بقدمها تنقر الأرض في حيرةٍ متأملة. فالأيام العسيرة الماضية بدت الآن كأنها كانت اللبنات التي مهّدت لهذه اللحظة، لكل منها مغزى في الطريق إلى اليوم.
أما فيليب فلم يفعل سوى أن يطيل النظر إليها.
“…… هل أنتم سعيدة؟”
“نعم؟”
رفعت إيزين رأسها. عينيها التقتا للحظة بنظره، لكنهما سرعان ما اتجهتا إلى كليف الذي كان يقترب رغم أنها طلبت منه الانتظار. زفرت بابتسامة صغيرة:
“قلتُ لك أن تنتظر… لا تسمع الكلام أبداً.”
ثم أجابت بثقةٍ لا يساورها شك:
“نعم، أنا سعيدة.”
كان صوتها يحمل يقيناً مطلقاً. وعيناها لم تفارقاه.
ولذلك لم ترَ، في تلك اللحظة، كيف تشوّه وجه الشاعر الشاب كصفحة ورق تتجعّد فجأة.
“أستأذن أولاً. الدكتورة فيلّيموري هناك.”
قالت إيزين، ثم تركت فيليب خلفها.
أما هو فبقي يراقب كليف وهو يرفعها بين ذراعيه بفرح. وعلى الجانب الآخر من الحديقة، جاءت المربية مسرعة تحمل سلة فيها الطفل إيان. فما إن أبصر أمَّه حتى مدّ رجليه وراح يرفس، قبل أن ينغمس في حضنها.
“ما أجمل هذا المشهد… كلوحة متكاملة.”
تمتمت فيلّيموري وقد ظهرت فجأة إلى جانب فيليب.
“سيدتي.”
“ما زلت أكره ذلك الرجل الخطير حتى النخاع، لكن…”
في تلك اللحظة، طبع كليف قبلة على جبين إيزين، بينما كان يحتضنها هي وطفلهما بحنوّ أبٍ لا ريب فيه.
“لم أرَ إيزين تضحك بهذا الصفاء من قبل. الآن فقط أطمئن. لا حيلة لي… لن أستطيع أنا أن أرسم على شفتيها مثل تلك الابتسامة.”
لم يجد فيليب ما يجيب به.
***
ومرّ الزمان هادئاً كما يجري الماء، حتى اقترب عيد الميلاد الأول لإيان. لم تصدق إيزين أن عاماً كاملاً قد انقضى بالفعل.
كان الاحتفال الأول بعيد ميلاد طفل أمراً جديداً على كليهما، غير أن كليف هو من بدا أكثر جدّية في التعامل معه.
“تريد أن تعيد تهيئة قاعة الولائم الكبرى من أجل عيد ميلاد إيان؟ كليف! إنه عيد ميلاد طفل لم يتجاوز عامه الأول. سقف مزدان باللوحات الجدارية، نافورات داخلية، ثريّات كالكواكب… ما كل هذا؟ حتى الأميرات لا يُحتفى بهنّ بهذه المبالغة!”
“لا يهمني كيف يُحتفل ببنات غيري.”
كان رده الفاتر كافياً لأن تشك إيزين في أن الملك نفسه قد يكون واقعاً تحت رحمة هذا الرجل.
“حين وُلد إيان، كان كل تفكيري مشغولاً بكِ. لم أفرح كما ينبغي. هذه المرة أريد أن أعوّضه. لم أمنحه يوماً احتفالاً حقيقياً.”
في حياته السابقة، لم يحتفل قطّ بعيد ميلاد الطفل، لا من أجلها ولا من أجله. عندها فقط أدركت إيزين ما الذي يدفعه إلى هذا البذخ.
“إيان سيُفضّل بين كل ذلك أن يكون بين ذراعيك.”
“وهذا مفروغ منه.”
صار كليف أكثر ألفة في التعامل مع الصغير. لم يعد يقف بعيداً عند مهده، بل كان يحمله بين ذراعيه، يربّت على ظهره إذا بكى، ويهدهده حتى يتوقف عن نحيبه، مقلداً ما تسمّيه المربية “دونغادونغا”.
كان مشهد ذلك الرجل الضخم، الذي بالكاد تملأه ذراعا طفل صغير لا يتجاوز ساعده، وهو يتمايل يمنة ويسرة ببطء، مضحكاً حد السخرية، لكن أحداً لم يجرؤ على قول ذلك.
فرغم أن وجهه ظل صلباً، إلا أن حضوره ظلّ يفيض بهالة رهبة لا تُمس.
حتى فرسان الظلّ الذين جاؤوا ليقدّموا تقاريرهم وقفوا مذهولين لرؤيته. لكن يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، اعتادوا على أن يلقوا تقاريرهم بينما سيدهم يهدّئ الرضيع بين ذراعيه. وكانوا، في الوقت نفسه، يجدون فرصة نادرة لرؤية “السيد الصغير” الجميل الذي قلّما يظهر.
“مولاي، إذن الوضع عند حدود إيتِيون يتطلب تدخلاً عاجلاً. الحواجز الخشبية انهارت.”
“استمروا بالتقدم. إن اخترقوا الجبهة الثانية، فاستعيضوا عنها بالتحصينات. وانتظر لحظة…” “ووووآآآااانغ!”
كان صوته وهو يسكّن الطفل أقرب إلى نَفَس قصير، همسة “شـشـش” بالكاد تُسمع. ومع ذلك، كانت كفيلة بأن تبعث قشعريرة في أوصال الفرسان، حتى اضطروا إلى حكّ مؤخرات أعناقهم وقد احمرّت.
“لم أكن أتخيّل أنني سأرى مثل هذا المشهد… لم أظن أن مولاي على هذه الصورة قط.”
“جرب أن تُنجب طفلاً. سترى نفسك تفعل الأمر ذاته.”
تمتم هاردين بذهول، فما كان من ليور إلا أن وبّخه. فهو نفسه لم يكن أباً مثالياً، لكنه أدرك أن صورة الأب المثالي لا تبتعد كثيراً عمّا يراه أمامه.
وهكذا، جاء اليوم المنشود: عيد الميلاد الأول لإيان.
“بقيت ثلاث ساعات فقط! لا وقت للتكاسل! لماذا ما زالت أشواك الورود بارزة في الحديقة؟! والغطاء فوق الدرابزين يعلوه الغبار! نظفوا الشمعدانات بزيت اللوز حالاً!”
كان صوت كبير الخدم الصارم يتردّد في أرجاء القصر.
وفي الأيام العادية، كان الخدم سيهزّون رؤوسهم ضيقاً من شدته، أما الآن فكانوا يعملون بحماس. فشرف إقامة أول عيد ميلاد لوريث آل مور أنساهم كل تعب.
وفي تلك الأثناء، بينما كان كبير الخدم يرهق الخدم بتعليماته الصارمة، كان مركيز الطابق العلوي وزوجته غارقين في الاستعداد والتزيّن.
قالت إيزين، وقد رفعت رأسها المزدان بتسريحة أنيقة، وهي ترفع عُقداً ليراه:
“كليف، برأيك، أيّهما أجمل؟ اللؤلؤ أم الياقوت؟”
كليف، الذي كان يعبث بفتور بالكرافات (ربطة عنق من الحرير يلفها الرجال حول العنق)، التفت نحوها ببطء.
“ما تختارينه أنتِ.”
“أنا أسأل أيهما يبدو أجمل.”
“ولو أجبتُ، فهل ستختارين ما أقول؟”
“سآخذ رأيك بعين الاعتبار على الأقل.”
ارتسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة، بينما توقّف كليف عن ترتيب ياقة سترته، واتجه نحوها.
اقترب حتى لم يعد يفصل بينهما شيء، ثم همس عند أذنها كمن يدلل ويعاند في آن واحد:
“أنا أفعل كل ما تريدينه، دائماً.”
وانحنى ليقبّلها. قبلة بدأت خفيفة على شحمة أذنها الممتلئة، ثم انسابت إلى عنقها النحيل، قبل أن تطول وتزداد عمقاً.
ضحكت إيزين وهي تدفعه قليلاً:
“قلت لك إنني سأضع رأيك في الاعتبار فقط، ابتعد قليلاً.”
فاستقام متنهداً وكأن الأمر خارج عن إرادته. انعكست صورته في المرآة المقابلة، فتنهدت إيزين بدورها بخفة. كان وسيماً منذ البداية، لكنه اليوم بدا وكأنه عقد العزم على أن يسلب العقول؛ كل ملامحه الممشوقة وأناقته المتقنة جعلته يلمع كأنه خرج للتو من لوحة فاتنة.
“ما أسعدني بزوجة تصغي لرأيي أخيراً.”
“كليف، لا تقترب من وجهي. لقد حذرتك.”
حذّرته بنبرة منخفضة حين انزلقت يده إلى خط فكّها. لقد أنهت لتوها زينتها، ولم ترد أن يفسدها. توقفت شفتاه لحظة عن التقدم نحوها، كأنها تفكر.
“الشفاه يمكن إعادة تلوينها.”
“لقد وضعت طبقات متعدّدة من الألوان. وحدها إميلي تعرف كيف تُعيدها، وإميلي الآن مشغولة بقاعة الحفل ولن تعود لساعات.”
“إذن دعيني أنا أفعل.”
رفع ذقنها برفق، ثم ابتلعها بقبلة مشتعلة.
‘كم بقي من الوقت؟’ تساءلت إيزين في داخلها، وهي تحاول تذكير نفسها بالمهام العالقة.
“عليَّ أن أطمئن على إيان، وأن أستقبل فرقة الأوركسترا بعد قليل.”
“هممم.”
“كليف، ليس لدينا وقت لهذا.”
“أعلم.”
دفعت قبلة شفتيه عنها، فإذا به يتركها ليعود إلى عنقها وأذنها، أكثر إلحاحاً وحرارة من قبل.
“كليف… أنت لا تستمع إليّ الآن، أليس كذلك؟”
“صحيح.”
“توقف، وإلا سأشدّ أذنك.”
وبدا أن إنذاره لم يزد إلا من تماديه؛ طبع على عنقها قبلة أخيرة مطوّلة، ثم عضّ برفق، تاركاً أثراً أحمر على بشرتها.
“حقاً!” صاحت وهي تعصر ذراعه القوية بأصابعها. لكن عضلاته المتينة لم تستجب لمخالبها الضعيفة.
اقترب منها هامساً بنبرة منخفضة فيها شيء من الدعابة والجدية معاً:
“اليوم عليكِ أن تمنحيني جائزة. فاضطراري إلى ارتداء هذا الزي السخيف سببه الوحيد هو أنتِ، مفهوم؟”
لاحظت إيزين أصابعه تعبث بشريط رقيق يتدلّى من ياقة سترته، وكاد يمزّقه من ضيقه. كان ذلك سبب خلافهما الأول: اختيار زيه في حفل عيد ميلاد إيان.
إيزين أرادت أن تغيّر الهالة القاتمة التي تلاحقه دائماً ـ تلك التي تجسّد “الموت” أو “الأسد الأسود” ـ فاقترحت بديلاً عن الأسود: ثوباً مشرقاً بالفضي الموشّى بخيوط الذهب.
أما كليف فقد كره بشدة هذه الفكرة، ورآها زياً يليق بالملك أو بسايزر، لا به.
“حتى في زفافنا لم أرتدِ شيئاً كهذا.” قال متذمراً.
لكنه، في النهاية، لم يستطع أن يتغلب على إرادتها.
وكانت رؤيتها صائبة: فالبدلة الفضية المطرزة بخيوط الذهب ـ رغم أن كليف ضاق بها حد الاختناق ـ بدت عليه وكأنها صُمّمت خصيصاً له.
شعره المسرّح بعناية، وملامحه التي ازدادت رقة في الآونة الأخيرة، جعلته لا يبدو أسداً من ميادين القتال، بل أميراً من مملكة هادئة. أميراً من حكايات الأطفال، لم يعرف يوماً معنى الدم أو المجازر.
ذلك على الأقل كان رأي إيزين. أما إميلي، التي كانت تتفقد قاعة الحفل في تلك الساعة، فما إن لمحته بثيابه البيضاء حتى انتفضت بارتجاف. بدا لها أقرب إلى رجل بارد، يخبّئ وراء أناقته المحسوبة ألف مكيدة وخديعة.
قالت إيزين، وهي تراجع لائحة الاستعدادات:
“صحيح أن الدكتورة فيلّيموري وعدت أن تُشرف على الأمر، لكن لا يمكن أن نترك كل شيء على عاتقها. آه… وتذكر أن فيليب قادم أيضاً، أليس كذلك؟”
فقد أرسل الملك ابنه البكر، الأمير ذي الاثني عشر عاماً، ليحضر عيد ميلاد إيان بنفسه، عربوناً لتقديره وخالص وده لأخلص رجاله.
غير أن كليف لم يُبدُ كثير حماسة لذلك. ومع ذلك، لم يكن ليستطيع تجاهل ولي العهد، فخرج لاستقباله.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 82"