تمتمت إيزين بصوت خافت، وكأنها ترجوه أن يدرك أنّ قلبها ينبض بالمشاعر عينها.
فتجمد كليف. كان يتجمد في كل مرة تعترف له فيها بحبها، وكأن فكرة أن تبادله إيزين ذات العاطفة ما زالت فوق طاقته على التصديق.
اقتربت منه إيزين، وهي تواجه جمود جسده، ثم طبعت على شفتيه قبلة خفيفة، أشبه بلمسة رقيقة توقظ أميرة نائمة. وما إن لامست شفتيها شفتيه، حتى انهار كليف بلا مقاومة.
كان ذلك آخر ما تبقّى من صبره. كالسد حين ينكسر فجأة، اندفع نحوهـا بلا توقف. وفي وهج شغفه المندفع، التقطت إيزين أنفاسها.
أنفاسه تملأ جوفها، وحرارة جسده تغمرها، ووزنه الملقى عليها يطبق صدرها بوجعٍ عذب. حتى قسوته العارية، التي تتخلل بين الحين والآخر اندفاعه العميق، لم تبعث فيها خوفاً. لم يكن في داخلها سوى ترديدٍ واحدٍ متواصل:
ما أعظم أن أشارك روحي مع من يبادلني القلب ذاته.
***
وهكذا، أخيراً… أخيراً، بكل ما تحمله الكلمات من طول انتظار، بدآ حواراً حقيقياً.
بعد أن دارا في دوائر الصمت لعقود، أدركا كم خلّف غياب الحديث بينهما من ظلال كثيفة من سوء الفهم، وشرعا أخيراً يفتحان بعضهما لبعض، ثم لأنفسهما أيضاً.
غير أنّ الإدراك الموجع لا يكفي ليبدّل طباعاً جُبلت عليها النفوس.
فعلى سبيل المثال، لم يتحوّل كليف إلى ثرثار لا ينقطع كلامه بين ليلة وضحاها. بل إن أكثر لحظاته كلاماً، وأكثرها إلحاحاً، كانت يوم اضطر أن يكرر مراراً أنه لم يتوقف يوماً عن رغبةٍ في إيزين، حتى أزال عنها ذلك الوهم.
ولذا كان معظم الحوار بينهما تُديره إيزين. تتحدث بحماس، وهو يصغي بصمت.
لكن حتى إيزين لم تكن من طبعها السلاسة في الكلام، بل من الطبع الذي يجتهد في بذل الجهد. ولذا، حين يغمرها شعور بأنها تفرط في الحديث، كانت تتوقف فجأة.
“… إذاً، أعجبكِ ذلك الرسم؟”
كان كليف، في تلك اللحظات، يتلمس طريقه إلى الكلمات متردداً. وكانت تعرف أنه مثلها، غريبٌ عن فنون الحوار. لكن كلما رأته ينصت لها بجدية، لم تستطع إلا أن تراه رجلاً مدهشاً ومحبباً، رغم ضخامته وجديته.
“لا، لم يُعجبني الرسم… أعجبني أنت.”
لم تعد إيزين تقوى على التماسك. فأحاطت عنقه بذراعيها وطبعـت قبلة على شفتيه، متجاوزةً سؤاله إلى جواب قلبها. ففاجأها بأن أطلق ضحكة مبهجة مسموعة.
“إن لم تردي قتلي بسكتة قلبية، فأنذريني قبل ذلك، يا إيزين.”
انحنى إليها. وكانت قبلاته، الرقيقة المفعمة بالعاطفة، مؤلمة وحميمة في آن. فما كانت إيزين إلا أن تمد يدها نحوه بلا وعي، تبحث عنه.
والآن… صار هو أيضاً يمد يده ليلتقي بيدها.
***
“إيزين، هل صحتك بخير؟”
لم تكن إيزين قد استعادت كامل عافيتها بعد. كان طبيبها قد شدّد على أنه بعد المرض السابق وذاك الذي تلاه مباشرة، فإنها بحاجة إلى راحة طويلة، ولا يحق لها التفكير في الخروج من البيت بعد.
ولهذا السبب بالتحديد، كانت فيلّيموري قد جاءت بنفسها إلى قصر آل مور.
“أنا بخير. دكتور، هذا زوجي.”
قدمت إيزين كليف إلى فيلّيموري. وكانت هذه المرة الأولى التي يتقابلان فيها رسمياً. لكنها لم تلتقط الجوّ المتوتر، شبه العدائي، الذي خيّم على لقائهما.
“فيفيان فيلّيموري.”
“كليف مور.”
تلاقت الأيدي في مصافحة قصيرة وباردة، وفي اللحظة الوجيزة تلك تفحص كل منهما الآخر. كانت نظرات فيلّيموري متجمدة، بينما ملامح كليف بقيت عصيّة على القراءة.
“تعالي من هنا، دكتور. أريد أن أريك شيئاً.”
أمسكت إيزين بيد فيلّيموري وقادتها إلى حديقة قصر آل مور. كانت نبرتها مفعمة بالبهجة والتوقع.
توقفت فيلّيموري عند خطاها، ثم تأملت تلميذتها. كانت لا تزال نحيلة الوجه بيضاء البشرة، غير أنّ شيئاً تغيّر فيها. اختفى السواد الكامن الذي كان يعلو وجهها من قبل، وحلّت محله ابتسامة مشرقة كأشعة شمس، وانعكس في عينيها الخضراوين صفاءٌ ونبض حياة.
ولم يسبق، حتى في صباها، أن رأتها فيلّيموري بهذا الإشراق.
فمن هو الذي استطاع أن يُبدّلها إلى هذه الدرجة؟
بردت نظراتها وهي تحدّق في ظهر مركيز مور الذي كان يسير صامتاً بجانب تلميذتها.
“هذه حديقة آل مور. كنت أريد أن أُريك إياها منذ زمن.”
“أنا أيضاً أعرف معنى الترف، لكن أن أرى بعينيّ ما يسمونه ليتل هيفن هايتس… هذا حقاً مدهش.”
انطلقت قوارب صغيرة محمّلة بالأزهار والثمار فوق مياه بركة الحديقة، فتاهت فيلّيموري أمام المنظر، مستغرقة في دهشتها.
“انتظري قليلاً، تركت الباقة التي حضرتها لكِ في الدفيئة.”
“سأذهب أنا.”
نهض كليف فجأة، كأن رؤية زوجته تنهض كانت أمراً لا يمكن أن يسمح به.
“إيزين، وأنتِ في طريقك، أحضري لي بعض دواء للصداع أيضاً. فقد قضيت الليل ساهرة في الصالون، وخرجت مسرعة حتى بات رأسي يطرق طرقاً شديداً.”
“سأحضره لكِ أنا.”
قالها كليف بحدّة، كأنه يعاتبها لأنها تجرؤ أن تُكلف زوجته بمهمة.
عندها وقفت إيزين، وضربت ذراعه بخفة، ثم استدارت نحوه. لم تستطع فيلّيموري أن ترى سوى ظهرها، لكنها كانت متأكدة من أنها تؤنبه بصرامة.
“أمام الدكتورة…! ألا تفهم أنني… أشعر بالخجل؟”
كان همسها ممتزجاً بشيء من الغضب. فتساءلت فيلّيموري في سرّها إن كانت هذه المرأة الصغيرة، بكل ما تبديه من عفوية وحيوية، هي نفسها تلميذتها التي عرفتها يوماً.
“دكتور، سأعود حالاً. تفضلي بالاستمتاع بالمكان إلى أن أجيء.”
تمتمت إيزين مرة أخرى بشيء باتجاه كليف، فأومأ كليف مور برأسه بهدوء.
وما إن غادرت إيزين حتى خيّم الصمت البارد بين فيلّيموري وكليف. لم يفتح أحدهما فاه، ولم يوجّها أنظارهما حتى إلى المنظر البديع الممتد أمامهما في الحديقة.
نقرت فيلّيموري بلسانها ساخطـة. الرجل الذي بدا قبل لحظةٍ أمام زوجته مثل حلوى رخوة تتداعى تحت الملعقة، صار الآن متماسكاً محكماً، كأن هواءه مُحكم النسج لا يسمح حتى لإبرة أن تخترقه.
وحين اختفت إيزين تماماً داخل الدفيئة الزجاجية، كانت فيلّيموري هي أول من كسر الصمت:
“مركيز مور، فلنصارح بعضنا. لا طائل من لعبة الوجوه هذه.”
“…….”
“أنت تعلم أنني أعددتُ لإيزين خطة للهروب، صحيح؟”
جاء صوته منخفضاً متزن النبرة:
“أتقصدين إلى دوقية كويشي أم إلى إيفرون؟”
تصلبت فيلّيموري. دوقية كويشي… تلك الخطة التي وضعتها قبل خمس سنوات، ليلة المذبحة، لتهرّب بها إيزين. وهو يعرف حتى ذلك؟
“كنتَ على علم أنني حاولتُ إنقاذها آنذاك، ومع ذلك تركتها تلتقي بي من جديد؟”
“نعم.”
“ولماذا؟”
“لأن إيزين أرادت أن تراك.”
ارتبكت فيلّيموري.
“ألم تكن مهووساً بها؟ أنت الذي منعتَ هروبها حتى لو استلزم الأمر قتل نايجل…”
“أعلم أن موت نايجل دونوفان دينٌ عليّ، وسأدفعه يوماً ما.”
تصلّبت نظراتها نحوه:
“لا أستطيع أن أثق بك. أنت تدرك أن مشاعرك نحوها… ليست طبيعية. أتسمّي هذا حباً؟”
“لن يكون هناك ما تخشينه. إن أثقلت مشاعري عليها يوماً، وإن رغبت في أن تتحرر مني، فسأتركها.”
“أهذا كل شيء؟ منذ متى صار أسد هايتس الأسود طائعاً إلى هذا الحد؟”
هزّ كليف رأسه في صمت، كأنها لم تسخر للتو.
“أنا وأنت نعرف الحقيقة، لكن إيزين لن تعرفها أبداً.”
“…….”
“لن أُظهرها ما حييت. فلا تقلقي.”
رأت فيلّيموري في ابتسامته الكئيبة ظلّاً كثيفاً من الظلمة.
لم يتغير الرجل. لا يزال ذاك الكائن المظلم، الذي لا يليق به نقاء قلب كإيزين، المخلوق الذي ينهش مَن يقترب منه ويجذبهم إلى غياهب داخله. ومع ذلك، كان يبذل كل ما في وسعه ليكبح تلك الظلمة تحت السطح.
“لماذا تذهب إلى هذا الحد؟”
سألت، فارتسم خطّ مائل على شفتيه. عيناه الزرقاوان لم تتجه إليها، بل إلى أثر إيزين خلف الزجاج.
وفي تلك اللحظة، ابتسم كليف مور. ابتسامة أخّاذة إلى حد جعلت فيلّيموري، التي ملّت وجوه الرجال الوسيمين عبر السنين، تشعر بالدوار.
“لأنني لا أريد أن تختنق إيزين.”
انحبس الكلام في حلقها.
“دكتور! وجدتها!”
جاء صوت إيزين من بعيد. ارتفعت زاوية فمه أكثر، فغاصت ابتسامته في عمقٍ أكبر.
كان جسده ما يزال يفيض بالظلمة، لكن عينيه، حين التفت بهما إلى إيزين، أشرقتا بصفاء الشمس. وبدا، على خلاف نبراته القاتمة، أن ابتسامته ملأى بالرضا والسعادة. فلم تجد فيلّيموري ما تقوله.
***
“إيميلي، حضّري الشاي في الحديقة… فيليب؟”
كانت إيزين قد أوصت الخادمة ببعض الضيافة البسيطة، حين فوجئت بالزائر غير المتوقع.
“ما الذي أتى بك؟ جرحك… هل تستطيع الحركة؟”
“نعم. كهنة المعبد أنهوا العلاج تقريباً، وسمحوا لي بنزع الضماد. جئتُ أخاطر بوقاحتي لأشكر السيدة النبيلة.”
مدّ فيليب يده، وقد برئت من أثر الإصابة. فزفرت إيزين زفرة ارتياح.
“هذا رائع، حقاً. تصادف أن الدكتورة فيلّيموري هنا أيضاً. هل تودّ مشاركتنا الشاي؟”
أومأ فيليب، فقادتْه إيزين إلى الحديقة.
“يبدو وجهك أفضل بكثير عمّا كان عليه آخر مرة، سيدتي.”
قال فيليب بحذر. فتذكرت إيزين كيف أعرضت عنه آنذاك، متجاهلة نصيحته، فابتسمت بأسى.
“شكراً على اهتمامك. آه، ها هي الدكتورة فيلّيموري هناك.”
ابتسمت بخفة وهي تشير إلى الجهة الأخرى. ولما تتبّع فيليب نظرتها، لمح أن الذي يقف بجانبها ليس سوى كليف مور.
“دكتورة! وجدتها!”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 81"