كانت هناك صدمة أخرى في انتظاره. مدّ كليف يده بسرعة ليخفي القلادة، لكن أصابع إيزين سبقت ولمستها أولًا.
“هذا… تبا، إيزين. لا ترتجفي من الاشمئزاز. كنتُ فقط… أحتفظ بها فحسب. أنا فقط…”
شحب وجهه حتى صار أزرقَ من الفزع. فكرة أن تُكشف حقيقته ــ أنّه ظلّ لعقود يحتفظ خفيةً بممتلكاتها الخاصة ــ كانت أشدّ من أن تُحتمل.
لكنه لم يكن يعرف… أنّ إيزين كانت تدرك تمامًا ما تحويه تلك القلادة. لأنها لم تعرف ذلك إلا بعد موته.
حين أفلتت يده المرتجفة وسقط جسده ذات ليلة باردة ماطرة… حين لفظ أنفاسه على الأرض الرطبة، وعيناه المطفأتان لم تعودا تبصرانها، وجسده أخذ يفقد حرارته شيئًا فشيئًا…
أشدّ لحظة بؤس في ماضيها القاتم الرطب عادت تطفو في ذاكرتها.
“ك… كليف. أنت لم تمت، أليس كذلك؟ لن يختفي هذا المكان، ولن أعود إلى ذلك الممر ثانية، أليس كذلك؟”
بلهفة مدّت يدها وأمسكته. ومن خلال أطراف أصابعها، عند صدره، شعرت بالخفقان المنتظم لقلبه.
انفجرت شهقة باكية من صدرها:
“إنك حيّ… ما زلت حيًّا، أليس كذلك؟ كليف، كليف!”
وألقت ذراعيها حول عنقه تبكي وتشهق. فوجئ بدموعها الجارفة، لكن ذراعيه العريضتين سرعان ما احتضناها. حرارة جلده، دقات قلبه المتلاحقة، كل ذلك كان شهادةً حيةً أنه ما زال موجودًا في هذه الدنيا.
“لا تمت… أرجوك.”
كان حيًّا. وهذه الحقيقة وحدها هي كل ما يهمها. القلادة ذكّرتها مجددًا بأن الأهم الآن ألا تدع هذه اللحظة تفلت من بين يديها. حتى لو كان القدر يحكم عليهما بالعذاب، حتى لو كان الثمن باهظًا… لا بأس. فما دام حيًّا، وما دامت هناك فرصة لأن يبقيا معًا، فلن تكون هناك فرصة أخرى مثلها.
“سأبقى إلى جانبك. سأصدق كل ما تقول. فقط… لا تعش مجددًا في ذلك الظلام.”
توقفت يده التي كانت تمسد ظهرها، وشدّت عضلاته فجأة، واشتدّت كتفاه العريضتان.
“لا تمضِ عمرك في عذاب تشتاق إليّ فيه. لا تبقَ وحيدًا. كليف، لا تتركني وحيدة.”
لم تعد تحتمل أن ترى مرة أخرى لحظة موته وحيدًا. أي مستقبل يجمعهما، مهما كان قاسيًا، سيكون أقل قسوة من تلك النهاية.
بأنفاسه الدافئة، بخفقان قلبه الذي يصمّ الأذن، بقبلته التي هبطت على جبينها… كانت تتأكد من أنه حيّ. حتى لو كان عليها أن تعود إلى الجحيم، فستعود وهي مطمئنة.
رمشت بعينين غائمتين، ثم أبصرت كليف مستلقيًا بجوارها وقد غفا.
ملامحه المتألقة، رغم شحوب وجهه، بدت كما لو كانت تنتمي لملكٍ من ملوك العالم السفلي: مهيبة، جميلة، تبعث على الرهبة.
شعرت بانقباض في صدرها وهي تحدق فيه مطولًا، حتى شعرت بحرارة تتسلل إلى يدها. لقد كان يمسك بها.
“ألستَ نائمًا؟” همست مذهولة.
فانساب من بين شفتيه المرتبتين، بصوت مبحوح:
“لم أستطع النوم… خشيتُ أن تختفي فجأة.”
“…….”
يبدو أنّه ظلّ مستيقظًا طوال الوقت.
تأملت إيزين وجهه بدقة أشد. أثار التعب حول عينيه، وشحوب لونه، لم تغير حقيقة أنه ما يزال هو… كليف مور.
ودون وعي، انحنت لتطبع قبلةً خفيفة على ذقنه المتعب. تجمد قليلًا للحظة، ثم ارتسم على شفتيه خط مبتسم جميل.
“من الأفضل ألا توقظي ما بي، إيزين.”
صوته الخفيض كان يحمل غريبًا نبرةً من ابتسامة، فتذكرت هي فجأة تلك الليلة… الليلة التي تجرأت فيها على الاقتراب منه، لكنه أبعدها عنه.
“كليف.”
“نعم.”
شعرت بالمرارة في صدرها، والخوف ما زال يخيم عليها، لكنها أيقنت أنّ عليها أن تسأل. إن كانا سيمضيان قدمًا معًا، فلا بد من مواجهة جراح الماضي.
جمعت شجاعتها وسألت بصوت متردد:
“في ذلك اليوم… لماذا أبعدتني عنك؟”
“هم؟”
“ذاك اليوم… حين طلبتُ منك أن نكون معًا. صدَدتني… لأنك لم تستطع أن تقبلني بعد، صحيح؟”
فتح كليف عينيه. كانت زرقتهما عميقة، كبحيرة لا يُقاس غورها، تحدقان فيها مباشرة.
قال بصوت خفيض لكن حاد:
“ما الذي تقولينه؟ قلتُ لكِ من قبل إنني نسيت الماضي كله. لماذا تُفكّرين بتلك الأفكار السخيفة؟”
تمتمت إيزين، وفي صوتها رعشة ألم:
“لكن الأمر واضح… لقد رحلتَ هكذا… تركتني وحدي، كأنك تهرب، كأنك تتلاشى من حياتي…”
ارتسمت الدهشة على ملامحه، بل وأفلتت منه شتيمة مكتومة لم يعتد التلفظ بها، وقد غلبه الارتباك.
“لم يخطر ببالي أنكِ ستظنين ذلك. لم يكن كرهاً، أبداً… يا للسماء، كره؟! لو أنكِ لم تريدي وجودي لربما فهمت… لكن أنا، أنا كيف أجرؤ على…”
قاطعتْه بصوت متردد:
“إذن… ماذا؟”
رفع يده الكبيرة الخشنة، تشبه غطاء المرجل في حجمها، وأخذ يفرك وجهه بقوة. ظهرت عروق بارزة على ساعده، واحمرّت أذناه الجميلتا الشكل.
“كيف أستطيع أن أرفضكِ؟ أي جنون هذا التفكير…”
لكنها هزّت رأسها بحزن:
“ومع ذلك، لقد رفضتني.”
لا يزال مشهد ظهره وهو يبتعد مسرعًا عنها، مطبوعًا في ذاكرتها بكل وضوح.
فأجاب بحدة فيها أسف:
“لم يكن ذلك لأنني كرهتكِ… تبا، بل لأنكِ كنتِ تتألمين. لم تكوني معتادة بعد.”
وحين أدرك كليف أنها قد أساءت فهمه، حاول هذه المرة أن يصوغ كلماته برفق أوضح.
كان يؤلمها.
استعادت إيزين في ذهنها ذلك الوخز الحارق حين حاول هو أن يتوغل أكثر، واستذكرت أيضًا كيف توقّف فورًا حين سمع أنينها.
“حتى أنا لم أكن في حالة تسمح لي بأن أُراعيكِ كما ينبغي. كنتُ شبه مجنون حينها، غائبًا عن نفسي. لو أننا استسلمنا في تلك الليلة، لأصبتِ بأذى كبير. لم أحتمل أن أجرحكِ. كنتُ أؤمن أن علينا الانتظار… أن نكون مستعدين أكثر.”
همست بصوت مضطرب:
“هذا يعني…”
فأكمل مقاطعًا:
“لم أرد أن تكون بدايتنا مجرد شعلة حارقة، أو… تبًّا، لا أريدها متهورة تنتهي بلا معنى. كنت أعلم كم هي ثمينة عندي، و… أنا أحبكِ.”
لم يكن من عادته أن يشرح مطولاً، ولا أن يتردد في اختيار كلماته. ومع ذلك ظلّ يكرر، ويعيد شرح دوافعه، حتى تأكد من أن إيزين قد فهمت أن رفضه لم يكن رفضًا لها.
هزّت رأسها ببطء، وفي قلبها مراجعة مريرة. من زاويتها آنذاك بدا وكأنه صدّ صريح، لكن من جانبه كان له وجه آخر.
قالت بصوت خافت:
“يبدو أننا لم نتحدث كفاية، نحن الاثنان.”
أجابها موافقًا:
“نعم، هذا صحيح.”
وما إن رأى ملامحها تلين ويستعيد وجهها سكينته، حتى زفر كليف أنفاسًا طويلة، وانحنى ليطبع قبلة هادئة على جبينها.
“ليتني أستطيع أن أقرأ ما في رأسك الصغير، كل ما تفكرين به، كل ما تستحضرينه، حتى لا تتحملي الألم وحدك بعد الآن.”
ابتسمت وعيناها تلمعان بدمعة:
“وأنا أيضًا… ليتك لا تبقى وحيدًا بعد الآن.”
طوقت عنقه بذراعيها، غير أن كلماتها اختنقت بقبلة مفاجئة اجتاحت شفتيها. كان يقبّلها كما لو أفلت منه اللجام، قبلة عميقة مسعورة. بالكاد استطاعت أن تلتقط أنفاسها، فدفعت شفتيه برفق هامسة:
“هُو… هاه… لنبدأ بالكلام، كليف. لا نريد أن نسيء الفهم مجددًا.”
زمجر بين أسنانه، كأن صوته يحمل أنينًا مكبوتًا:
“إيزين… لا تقصدين أنكِ تريدين الآن…؟”
أجابت مرتجفة:
“إن لم يكن الآن، فمتى إذن…؟”
لكن عينيه الصافيتين أظلمتا بالعزم:
“لدينا العمر كله أمامنا. أما هذه الليلة، فأعطيني إياها.”
حاولت أن تستعيد وعيها بين وابل القبلات المنهالة عليها كالمطر، لكن ظلّ هناك قلق ينهش صدرها. كانت تخشى أن ينحرفا مجددًا عن بعضهما، أن يتباعدا كما في الماضي.
“لكن، كليف…”
همست، محاوِلة أن تفلت من حضنه. غير أن يده الكبيرة غطّت يدها الصغيرة، تشبّك أصابعهما في تداخل محكم، كأنه يريد أن يقيد خوفها بقدر ما يقيد كفها.
ومضى بإصبعه الطويل يرتسم خطًا بطيئًا على راحتها.
“آه…”
لم يكن سوى احتكاك بسيط بالجلد، لكن القشعريرة سرت على طول جسدها. ارتجفت كتفاها الضئيلتان، فغطى كليف كتفها البيضاء بقبلة عميقة. صوته الأجش، حين همس قرب أذنها، ارتجّ في عظامها كرجع في كهف.
“إيزين… لن أؤذيكِ أبدًا. سأجعل كل ما تشعرين به فرحًا فقط.”
“هـه…”
“أرجوكِ… قولي نعم.”
لم يكن في وسعها أن ترفض، لا أمام تلك الكلمات العذبة التي تهز قلبها، ولا أمام النظرة الملتاعة التي تتوسلها. سحبت أنفاسًا مرتجفة.
“إيزين… حبيبتي، إيزين…”
وبدا أن شفتيه الملتهبتين تسابقان صبرها، تصعدان من كتفها الرقيق إلى انحناءة عظم ترقوتها، ثم إلى عنقها، تاركة آثارًا من نار على مسارها.
“انتظرتُكِ طويلًا… طويلًا جدًا. لهذا، لا يمكنك أن تتخيلي كم هو معجزة أن تكوني بين ذراعي الآن.”
اهتزّت عيناه الزرقاوان، وفي صوته ولمسته ما حمل مسحة ألمٍ تكاد تكون يائسة. انقبض صدر إيزين، إذ بدا في تلك اللحظة كأن عشقه لها يقارب العذاب.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات