“إنها شريان التنفّس الوحيد الذي يُبقيني حيّاً. والمضحك أنّ الأمر كان كذلك، من البداية حتى النهاية.”
عينيه الزرقاوين كانتا أكثر صلابة من أي وقت مضى، تلمع فيهما عزيمة لا تُقهر وهو يحدّق في وجه روزالين. بدا وكأن روحاً فولاذية تستحيل انكساراً قد سكنت فيه.
“إن كنتِ مصمّمةً على قتلها، وإن كنتِ تنوين أن تُلقي بذنوب كروفورد على عاتق أيزين حتى النهاية… فعليكِ أن تقبلي بخسارتي أنا أيضاً.”
كلماته الجافة القاسية جعلت عيني روزالين تدمعان. لكن دموعها، وقد تمسكت بجفنَيها رافضة الانحدار، لم تكن سوى صرخاتٍ صامتة لكرامتها.
“أنت أناني حتى الرمق الأخير. قاسٍ… حقاً قاسٍ.”
مع ذلك، لم تستطع أن تتخلى عن آخر ما تبقى لها من رجاء. حاولت مرة أخيرة أن تُقنعه:
“كروفورد لا! أي شخص آخر في هذا العالم، نعم، لكن تلك المرأة لا! اصحُ، يا كليف مور. أتنسى ما الذي ارتكبته كروفورد؟!”
فأجابها بصوت يقطر مرارة:
“أتظنين أنّ ما تفكرين به أنت لم يخطر في بالي؟!”
عينيه الباردتين تحدّقتا فيها كالسهم، وفي ظلامٍ متراكم بينهما ارتجف جسدها، كأنّ صوته المثخن بالجرح قد صعق عصبها.
“هل تعلمين ما الذي حلّ بي حين كبّلتني تلك الكراهية؟ بسبب الاسم، اسم مور، قُيّض عليّ أن أفقد أيزين إلى الأبد. لو كنتِ تعلمين ما الذي دار في رأسي، دقيقة بدقيقة، لحظة بلحظة، طوال تلك السنوات… يا روز… إنّ آل مور لم يعودوا عالمي بأسره. أيزين… هي، وحدها، عالمي.”
خرج صوته من بين أسنانه المطبقة كأنه يمزّق ذاته:
“ولهذا… لن أتركها أبداً ثانيةً.”
أدركت روزالين عندها أنّها لن تستطيع أن تقنعه. بل وأدركت أنّها لن تفهمه أبداً، وأنّ طريقهما سيتحول من هذه اللحظة إلى خطين متوازيين لا يلتقيان.
“فهمت.”
نهضت من مكانها، وعلى وجهها ارتسمت أسىً ثقيل، وخيبة غائرة، وملامح غضب مكتوم.
“لن أراك بعد الآن، ولن أعود إلى هذا المكان قطّ، مهما كان السبب! لن أفهم أبداً كيف استطعت أن تغفر لكروفورد، ولن أحاول حتى أن أفعل.”
“…”
“دعنا نعيش هكذا، كلّ في طريقه، يكفيني أن أعلم أننا نتنفس تحت السماء ذاتها. وحتى بعد الموت، لا تُحاول أن تكلمني. وأنا أيضاً، لن أفعل.”
ومرّت به روزالين دون أن يردّ عليها بكلمة. ظلّ واقفاً، و عيناه الزرقاوان تتابعان ظهرها الذاهب بلا انقطاع. روزالين مور. صديقة الطفولة، وذكرى العائلة التي عاشت معه. لم يشأ أن يستدعي تلك الذكريات، لكنها كانت ما تزال كامنة فيه.
أما ما حملته نظرته الأخيرة وهو يودّع آخر من تبقى له من عائلته بعد المذبحة… فلم يجرؤ أن يمنحه تعريفاً.
“أُواااااا!”
كان إيان قد استيقظ وهو يصرخ جوعاً. تمايل كليف بخطواتٍ مثقلة، واتجه نحو الطفل، ورفعه بين ذراعيه.
“شش… هادئ… لا تبكِ، صغيري… صغيري الحبيب…”
بصوتٍ أجشّ محطّم، وبكفّين متشققتين، أخذ يربّت على ظهره. ثم دفن وجهه في الكتف الصغير الذي تفوح منه رائحة الحليب والعسل.
لكن هل كان رجاؤه “لا تبكِ” موجهاً للطفل وحده… أم له أيضاً؟
* * *
في القاعة البيضاء كان كليف واقفاً. كما كان دوماً: بوسامة تكاد تخنق الأنفاس، بصورة تهزّ قلبها رعدةً.
“كليف!”
لم تستطع أيزين أن تكبح نفسها، فانطلقت نحوه.
احتواها بذراعيه، ورفعها عن الأرض، ثم طبع قبلة رقيقة على شفتيها.
أحاط خصرها بذراعيه القويتين، وانقضّ عليها بشفاهه الحارة، فارتعش جسدها في نشوةٍ عارمة وانطلقت منها أنّة فرح.
أرادت أن تقول له، وهي تحدّق في عينيه الزرقاوين الساحرتين:
أحبك. إنني أحبك.
لكن لسببٍ ما لم يطاوعها صوتها. وحين حاولت أن تتمتم بكلمة واحدة على الأقل،
<أيزين كروفورد!>
قبضة حارّة كالنار أمسكت بها. جحظت عيناها وهي تستدير برعب.
كان أبوها، مقطوع الرأس، يمسك بذراعها! وخلفه، إخوتها، وقد ثقبتهم السهام، يتدلى كل منهم كجثة عالقة بخيط. من لمسته كان يتقطر دمٌ أحمر ساخن.
صرخت أيزين وهي تتخبط بجنون، تكافح لتفلت. يجب أن تهرب. يجب أن تخرج من هنا. جسدها كله استحال صراخاً وعنفاً، وهي تدفع وتلوّح بيديها.
“أيزين، أنا… أنا كليف!”
“لا، دعني وشأني! أرجوك، اتركني!”
“لا تخافي، أيزين. أنا هنا. تنفسي… كل شيء بخير. لا أحد هنا.”
وما إن لامست أذنها تلك المناجاة الملحّة حتى استيقظت من الكابوس. كانت غارقة في عرقها، تتخبط، لكن بين ذراعيه، بين صدره الصلب.
كليف…
رمشت بعينيها. وللحظة، ما زال ذاك الرجل المهيب، الوسيم حتى الاختناق، يملأ بصرها، وما زالت عيناه الزرقاوان تحومان فوقها بكلماتٍ متدفقة. ولكن سرعان ما أطبقت عليها برودة الوعي.
لقد تذكرت. تذكرت كل ما جرى. روزالين، التي ظنّتها عشيقته، جاءت تبحث عنه. هي نفسها، أيزين، تساءلت في مكتبة القصر هل يحقّ لها أن تتسلل بينهما بحجة فنجان شاي.
ثم ماذا؟ ماذا سمعت عندها؟! روزالين لم تكن حبيبة كليف الجديدة، بل الناجية الوحيدة من عائلته المذبوحة، آخر ما تبقى له من دم مور.
ثم…؟
روزالين.
مور.
كروفورد.
ذاكرة أشبه بالكابوس تدفقت عليها دفعةً واحدة، لتستقر في مكانها كأنها لم تغب يوماً.
بأي حقٍّ تغفرين عنهم باسم الآخرين! بأي وجه تدخلين هذا الدم الآثم إلى حياتنا!
ابنة العدو الذي أباد العائلة، حتى وإن عادت لتعيش حياة ثانية، لم تستطع أن تمحو خيط القدر الملتفّ بينه وبينها تماماً.
لقد فشلت.
لو أُعطيت لي فرصة أخرى فقط…
حينها سيكون كل شيء مختلفاً. لو عادت إلى الوراء أبكر قليلاً، ربما كان بوسعها أن تمنع والدها.
لكن… كيف أعود ثانية؟ كيف أحصل على فرصة أخرى؟
عندها ومض في رأس أيزين خاطر كالبرق.
الموت.
ذلك الذي ظنّته النهاية كان في كل مرة يفتح لها باب حياة جديدة. موتها قاد كليف إلى المستقبل، وموت كليف أعادها هي إلى الماضي.
إذن… آن الآن دورها من جديد.
“ظننتُ أنكِ لن تستفيقي أبداً.”
كليف، الذي لم يلحظ وجهها الشاحب الذي يخبو، طوّقها بوجهٍ مثقل بالهمّ. لكنها أسرعت لتدفعه بعيداً.
“أين… أين الثمرة؟”
“ماذا؟”
“ثمرة الأمازا… الحمراء. أنت أخذتها، أليس كذلك؟”
اختفت من ملامحه بقايا اللون الذي بدأ للتو بالعودة.
لم يكن لدى أيزين وقت لتتأمل الوجوم الصلب الذي استولى على محيّاه. كانت تمسك بذراعه في رجاءٍ يائس، وعقلها لا يعرف سوى فكرة واحدة: يجب أن تنهي هذه الحياة لتبدأ من جديد. فالله وحده يعلم متى يسلبها هذه الفرصة، وكل لحظة تأخير قد تضيّعها إلى الأبد.
“أيزين، أرجوك!”
فقد صوابه فجأة، وانفجر صوته صاخباً. قسمات وجهه الحادّة، وقد ازدادت نحولاً، بدت أكثر شراسة من أي وقت. اليد الرقيقة التي أمسكت به ارتعشت تحت هالة غضبه، لكنها عادت لتتشبث به كخيوط عنكبوت.
“كليف، أعدها إليّ، أرجوك. صدّقني، أنا…”
“إلى أي جحيمٍ آخر تنوين أن تجرّيني؟ هل رغبتِ بكل هذا القدر أن تفلتِي منّي؟ أتعلمين ماذا جال في خاطري حين أفلتَّ يدك وسقطتِ؟!”
زمجر بصوتٍ وحشي، لكن في عمق عينيه اللامعتين كان يقيم جرح لا يندمل، جرحٌ لا تستطيع أن تفتحه وتتركه نازفاً سوى أيزين وحدها.
“أعرف… أعرف أنكِ تلومينني. حتى الآن، وأنا ممسك بكِ داميةً مضرّجةً بالدم، لم أستطع أن أُفلتك. أدرِك أن عنادي هذا، أنانيتي هذه، تثير فيكِ القرف… وربما كان ذلك ما لم تعودي تحتملينه.”
قبض على ذراعها بقوة، حتى كادت تتألم دون أن يلحظ. بدا وكأنّه يقترب من نهايته.
“اقتُليني إذاً، أيزين.”
كان الألم بادياً بوضوح في عينيه. بشفتين جافتين ووجهٍ مسلوخ الحياة، بدا أقرب إلى جثة منه إلى رجل حيّ.
“اقتُليني وتحرّري. هكذا يكون أفضل. لا تعودي تعذبيني أكثر… افعليها فقط.”
وأخرج خنجراً كان يخفيه، ودسّه في راحتها. كان أشبه بالشفرة التي سبق أن اخترقت صدره، فارتجفت أصابعها وهي تلمسه.
“لا… لا تفعل هذا!”
“إذاً لماذا تعاملينني هكذا؟!”
صرخته الممزقة جمدت أنفاسها وأخرست ارتعاشها.
“الثمرة؟! أترينني سأعيدها لكِ؟! تقولين إنكِ تريدين الموت؟! أيزين، كيف… كيف تستطيعين أن تكوني قاسية معي إلى هذا الحد؟!”
كأنما بصق دمه مع كلماته. فهمت أيزين حينها أنه لم يفهمها مطلقاً.
نعم، وكيف له أن يفهم؟ من في هذا العالم سيصدّق أنها ماتت وعادت؟ أنها عاشت معجزةً لا يعلمها سواها؟
لذلك، كان ردّه على طلبها ثمرة الأمازا منطقياً تماماً. لكن لا بد أن تُقنعه.
“ربما… ربما إن متُّ الآن أعود أبكر. قد أعود إلى زمنٍ أسبق. كليف، صدّقني. حينها يمكن أن نبدأ من جديد. أرجوك… دعني أموت. ساعدني لأموت.”
“أيزين!”
“وحينها… حينها ستستطيع أن تحبّني.”
توقف صراخه فجأة، كأنه انقطع بسكين.
“ماذا…؟”
“إن عدتُ أبكر، سأمنع والدي. سأغير الماضي. عندها… سنكون معاً. سأطلب من الله أن يعيدني إلى تلك اللحظة. إن توسّلت إليه بصدق، بقدر ما كنت أتوسل في المرة الماضية… سيمنحني ذلك.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 78"