كان يعضّ على شفتيه حتى الدم وهو يركض خلف زوجته الهاربة. مطاردته لظهرها البعيد كانت دائمًا عذابًا مقيمًا، ألمًا لا يُطاق ورجفة قلق تشبه كابوسًا يلوّح له من بعيد.
“إيزين، توقّفي!”
لكنها لم تفعل. كانت تجري بجنون، مدفوعة برغبة واحدة: أن تهرب. لم يكن بوسعها البقاء لحظة أخرى في ذلك المكان. قدماها تتخبّطان في الأرض كمن يفرّ من موت محتوم، لكن لم تمضِ خطوات كثيرة حتى أمسك بها.
وللمفارقة القاسية، كان الموضع الذي استوقفها فيه هو ذاته الموضع الذي التقت فيه عيناهما للمرة الأولى بعد عودتهما: أمام السلالم الرخامية البيضاء.
“إيزين، لحظة فقط… هااه… لا، ليس كما تظنين، الأمر ليس…”
“آسفة.”
كان يتلعثم، يبعثر الكلام في ارتباك محموم وهو يحاول أن يحميها، وما زال صوته يحمل تلك العذوبة الموجعة. وإيزين، في المقابل، شعرت أنّها توشك على الجنون من شدة الخزي.
(أيّ جرمٍ هذا الذي هممتُ بارتكابه بحقّ إنسان كهذا؟)
اندفع البكاء من صدرها كحمم لا تُردّ. وجهها شاحب كالموت، وأخذت تهمهم باعتذار متقطع.
“أنا حقًا آسفة… كليف… أنا… أنا آسفة جدًا…”
“إيزين، اسمعيني أولًا.”
“كنت… كنت أعلم… لكني حاولت أن أنسى. لم أرد أن أفكر… ظننت أنّ هذه المرة ستكون مختلفة…”
“أرجوكِ، فقط استمعي إليّ. خذي نفسًا… تبا… إيزين، تنفّسي!”
لكنها لم تعِ حتى أنّها تختنق. أنفاسها متقطّعة، كأن حبلًا يضغط على عنقها، ولم تدرك. كل ما فعلته أنها رفعت عينيها الكبيرتين المغمورتين بالدموع نحو وجهه وكرّرت الاعتذار بلا انقطاع.
كأنها تريد أن تشرح، بأي ثمن، أن جهلها ليس مبررا لجرمها، وأن ما فعلته لم يكن تجاهلًا لعقوبة تستحقها. لكن كيف يمكنها أن توقف نحيبها، وتسيطر على شهقاتها، ثم تصوغ كل ذلك في كلمات؟
“أنا… أعلم… أعلم أنّني طمعت بما يفوق قدري. بالنسبة إليك… أنا لست سوى ابنة العدوّ… العدو الذي قتل أسرتك بأكملها… وهذا… هذا شيء لن… لن يتغيّر أبدًا…”
“لا! ليس الأمر كذلك، إيزين!”
كليف كاد أن يفقد عقله. منظرها وهي تبكي هكذا، دموعها تتساقط بلا نهاية على وجنتيها، دفع يده الغليظة امتدادًا يمسحها عنها برفق.
“لا… لا! لا تفعل!”
صرخت، وصفعت يده بعيدًا بحدّة مذعورة. جسدها ترنّح إلى الخلف بفعل الصدمة. والخطر أنها كانت واقفة على حافة درج شاهق.
مدّ كليف يده في ذعر، لكن الشعور العميق بالذنب الذي كان يعصف بروح إيزين دفعها أن تتفادى يده مرة أخرى. وهكذا تدحرجت بجسدها مباشرة نحو الأسفل.
“إيزين!”
دوّى صراخه في أرجاء القصر كالبرق الممزّق.
ارتطم جسدها بالسلالم الرخامية الباردة، وتدحرج حتى اصطدم بالأرضية بقعقعة مرعبة. لحظات قصيرة، لكن بالنسبة إلى كليف، كانت دهورًا عاشها في عجز مطبق.
“لا… يا إلهي… لا!”
انقضّ عليها بجنون، احتضن جسدها المغمى عليه، أسند رأسها الدامي بين ذراعيه.
“إيزين… إيزين!”
كان يصرخ باسمها وحده، كطفل لا يعرف غيرها في العالم.
فستانها الأبيض بدأ يتلطّخ بالحمرة شيئًا فشيئًا، حتى اتسعت البقعة لتغدو بركة دامية. رائحة الدم الغامرة اخترقت صدره كطعنة.
وأدرك كليف فجأة أنّ ذلك القلق الذي ظلّ ينهش قلبه طيلة الوقت لم يكن وهمًا، بل نبوءة سوداء تتحقق الآن أمامه. لهذا لم يعرف الطمأنينة يومًا… لأنه كان يعرف أنّ الله لن يمنحه إيزين، وأنه في النهاية سيُنتزع منها قسرًا.
صرخاته التي زلزلت جدران القصر جعلت الخدم يهرعون في فزع. وما رأوه حين دخلوا كان سيدهم، ذاك النبيل، يحتضن زوجته الملقاة أرضًا وهو يولول كوحش مذبوح.
“أحضروا الطبيب! أيّ طبيب كان! بسرعة! بسرعة! إيزين، لا تتركيني! لا تتركيني وحيدًا مرة أخرى! لن أتحمّل خسارتك مجددًا! إيزين، أرجوك!”
روزالين، التي كانت شاهدة على ذلك المشهد، لم تعرف قريبها في هذه الهيئة. كان يضم المرأة المغمى عليها بجنون، يغطيه الدم من رأسه حتى أخمصه، يصرخ حتى يتمزق حنجرته. بدا كشيطان فقد شرّه، فغدا فراغًا مسعورًا.
تأملت وجهه، ورأت فيه ألمًا إنسانيًا فاضحًا، عميقًا حدّ أن يُخرس الألسن. لم تستطع أن تقول شيئًا.
دخل الخدم الأشداء حاملين محفة على عجل، ثم وصل طبيب القصر بوجه شاحب. ولم تمض دقائق حتى تدفقت إلى القصر أرفع أطباء الإمبراطورية، بأمر من البلاط.
لكنهم، بدلًا من معالجة جرحى الحرب، وجدوا أنفسهم مضطرين لمواجهة رجل يوشك أن يفتك بهم إن لم ينقذوا زوجته.
غير أنّ الحقيقة القاسية كانت أثقل من قدرتهم جميعًا:
زوجة المركيز لم تفتح عينيها من جديد.
* * *
انكمش القصر في صمتٍ جليدي، كأن ومضته الزاهية التي ازدهرت للحظة لم تكن سوى وهْمٍ تلاشى.
اختفت أنغام الموسيقى العذبة التي كانت تملأ القاعة، كما غاب عبق الأزهار الذي حمله النسيم. صار الخدم يتحركون بخطوات مكتومة خشية أن يثيروا سخط الماركيز، ولم يبقَ في ذلك المكان الفخم سوى صوت واحد يخترق السكون: بكاء طفلٍ صغير.
“أواااه… أواااه!”
الطفل الذي تُرك وحيداً في غياب والديه لم يكف عن البكاء والتذمّر.
كانت السيدة ماري، المرضعة، إلى جوار الصغير إيان، ترعاه بقدر ما تستطيع، غير أن كل ما في القصر كان مشدوداً إلى مصير أيزين، فلم يكن للصبي إلا أن يُهمَل.
أحياناً كان إيان يصرخ حتى تنقطع أنفاسه، ثم يسكت فجأة، وكأن شيئاً في فطرته أدرك أن صوته يمزّق قلبَ أبوين لم يُتح لهما أن يكونا بجواره.
“أوا… أواا…”
انحنت روزالين تنظر في عيني ابن أخيها اللامعتين بزرقة البحر.
“…إذن أنت هو إيان.”
“آه!”
ما إن سمع الطفل اسمه حتى بان على وجهه الفرح، وحرّك ذراعيه الممتلئتين محاولاً أن يمسك بيدها. ورغم طبعه الذي يتحفّظ على الغرباء، فقد ابتسم لها ببراءة غريبة، كأن الدم الذي يجري فيه قد تعرّف على قرابته.
هذا الطفل هو ابن كليف، وامتداد دماء كروفورد.
لكن وجه روزالين وهي تحدّق في ضحكاته المشرقة بدا مثقلاً. فقد ارتسم فوق ملامحه البريئة وجه أيزين الشاحب المذعور، وصورة كليف وهو يصرخ بجنون.
* * *
كليف، كما كان دوماً، لم يفارق جانب أيزين.
لم يسمح لأحد أن يقترب منها، حتى الطبيب الذي كان يزورها ليتفقد حالتها لم يكن يجرؤ على الجلوس بقربها إلا بوجوده. ظل كليف ملازماً لها كوحشٍ يحرس فريسته، لا يذوق طعاماً ولا يعرف نوماً.
يوماً بعد يوم كان جسده يذبل، ووجهه الذي كان أشبه بتمثالٍ من النحت الدقيق غدا غائراً كوجه ميت. ورغم ذلك، لم يجرؤ أحد على ردعه؛ فالرهبة التي تفوح من كيانه كانت كافية لشلّ الجميع.
لم يبقَ في داخله ما يربطه بالحياة سوى أنفاس أيزين الممدّدة أمامه.
“سيدي، الطفل إيان مريض.”
لم يكن بوسعه تجاهل طفله تماماً، فاضطر إلى ترك أيزين لحظةً ليتفقد حاله. وما إن دخل غرفة إيان حتى رآه غارقاً في نومٍ هادئ، بينما كانت روزالين جالسة على كرسيٍ هزاز قربه.
“……”
لحظةً واحدة تكفّلت بأن يندفع من كليف شعور قاتل.
هالة من الحدة، كأن سيفاً يُسحب ليُقطع به العنق. لكن سرعان ما انطفأ بقبضته على يده المرتجفة.
مع ذلك، أدركت روزالين بغريزتها أن كليف قد همّ فعلاً بقتلها في تلك اللحظة.
“زوجتك… ما زالت غائبة عن وعيها، أليس كذلك؟”
“اخرجي.”
قالها بصرامة وهو يدير ظهره، وصوته يتهدّج كأن كل كلمة تخرج من بين أنيابه.
“كليف مور… لا تجرؤ أن تدير ظهرك لي.”
“الآن… لا تظهري أمام عيني. لقد بلغتُ حدّ صبري.”
ضحكت روزالين بمرارة. أدركت أن السبب الوحيد الذي يبقيها على قيد الحياة هو أنها آخر ما تبقّى له من عائلة. لكن… أيمكن أن تكون تلك المرأة أثمن من دمه، حتى يدفعه لأن يفيض بكرهٍ يكاد يفتك بها؟
“كم هو مشهد يبعث على الشفقة… حبّك العظيم هذا، يعرفه كل العالم، فلماذا لم أعرفه أنا؟ بل لعل خالي وخالتي نفسهما لم يعرفاه. من كان يظن أنك غارق إلى هذا الحد في ولعك التافه، حتى تجرؤ أن تدير ظهرك لعائلتك كلّها؟”
رغم سخريتها اللاذعة، همّ كليف أن يغادر دون أن يجيب.
“هل أنا المذنبة الان إذن؟”
سألته بحدة، فتوقف في مكانه.
“أجبني. أنا التي فقدت عائلتي بأكملها! أنا التي مُسح كل ما تملك عن وجه الأرض! هل يجب أن أعتذر لذلك أيضاً، يا كليف؟!”
لم ينطق.
لكنه كان يعرف جيداً معنى سؤالها. كانت تطلب منه تفسيراً واحداً، كلمة تبرّر اختياره. سواء رضيت أو رفضت، سواء كرهته لدرجة أن تتمنى موته، فقد كان واجبه أن يمنحها ذلك التفسير، وهي وحدها من يملك الحق في أن تسمعه.
“حين كنت في كروفورد…”
خرج صوته جافاً، كأنما يُستخرج من بئرٍ عميقة.
“كلما عدتُ مُنهكاً مضروباً حتى تسيل الحُمّى في جسدي، وأفتح عيني نصف ميت… كنت أجد أيزين إلى جانبي. أغمضها، فأكتشف أنها جلست بقربي. كثيراً ما اعترضت والدي حين يضربني، فكانت تتلقى الضربات معي، ووجهها ينتفخ من شدّة الصفعات… ومع ذلك تبقى تبكي وتضع الدواء على جروحي.”
“……”
“كانت تعتذر. تتوسلني أن أغفر. كان الأمر مثيراً للسخرية. كلماتها الفارغة كانت تستحق أن أقتلها هناك. كان في مقدوري أن أحطم عنقها الرقيق ذاك بيدٍ واحدة…”
ابتسم كليف ابتسامة مُرّة، ورفع رأسه. وجهه خلال أيام قليلة صار متيبساً كجلدٍ يابس.
“لكنني لم أستطع. ذلك الدفء الذي منحتني إياه، مهما كان صغيراً… خشيت أن أفقده. لم يبقَ لي شيء دافئ في هذا العالم إلا أيزين.”
“……”
“ومع ذلك أردت أن أقتلها. أردت أن أحطم اليد التي رفعتني بينما أنا أسحق بثقل ذنوب لم ترتكبها هي. أردت أن أبيد كروفورد كلهم، روز… نعم، كنت سأفعل. لأنني مور. لأنني كان يجب أن أفعل. ولكن…”
شهق، وكأن مجرد استدعاء الذكرى يمزّق صدره.
“في ساحة الحرب، كلما كنت أتدحرج بين الموتى، كان وجهها يعود إليّ. حتى حين يخترقني السيف وتغمرني الظلمة، كنت أسمع تلك الهمهمات المرتجفة بجوار أذني، وأحسّ دفئها العابر يلمسني… فكنت أقاتل للبقاء، لأنني أدركت إن متّ فسأفقد ذلك كلّه. فتمسّكت بالحياة. عندها فقط فهمت.”
عيناه الزرقاوان حملتا أثقال سنينٍ دامية.
“أيزين هي من أنقذتني. هي وحدها من دفعتني للعيش، ومن أرادت لي أن أحيا. لو لم تكن… لما كنتِ أنتِ الآن واقفة أمامي، ولا كنتُ أنا حياً لأجيبك.”
“كليف!”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 77"