“لكن خذ هذا. لا يحمل الامر أي مغزى سياسي، بل هو مجرد هدية صافية من قلبي. إنه دواء مصنوع من جوهر السلحفاة العظيمة التي تمنح الوحي في معابد القارة. دواء نافع للنساء في فترة النفاس، يعينهن على استعادة العافية بعد الولادة. زوجتي نفسها، حين أنجبت طفلها الأول، أصابها الوهن فلم تبرح الفراش أشهراً. سمعت أنّ زوجتك كذلك ضعيفة البنية.”
“…….”
هذه المرّة لم يخرج من فم كليف أي رفض. على وجهه ظهر للمرة الأولى أثر التردّد. فبحساب السياسة، كان الامتناع عن قبول أي شيء هو الصواب، غير أنّ صورة إيزين المريضة خطرت في ذهنه، فلم يطاوعه قلبه أن يرفض سريعاً.
“لا تقلق. أقسم بمقامي أن شيئاً مما يدور على هذه المائدة لن يتسرب إلى الخارج.”
“سأدفع ثمنه.”
ظلّ موقف كليف صارماً، رافضاً أن يكون مديناً للدوق بأي شيء. فتبدّت على وجه مككايزان ابتسامة ساخرة كأنما توقّع ذلك.
“سأعدّها إذن كلمة شكر. لطالما قيل لي إنك زوج مخلص، ويبدو أن ما يُسمّى في المملكة بـ حب القرن لم يكن مبالغة.”
تردّد الدوق برهة قبل أن يتابع كأنّه يعترف بسرّ دفين. كان يخشى أن يبدو ودّه المفرط غريباً وهو يخاطب رجلاً من بلد آخر.
“في الحقيقة… لقد اتخذت قراري بشأن هذا الاتفاق بعد أن رأيتك مع زوجتك.”
زوجته؟!
كليف حدّق في الدوق بدهشة.
فلم يكن يتصوّر أن اسم إيزين سيُذكر في مسألة تخصّه وحده. متى رآها الدوق أصلاً؟ لم يكن بينهما أي لقاء.
حتى روزالين، وقد أربكها كلام الدوق المبهم، أمالت رأسها في حيرة. لكن مككايزان مضى مصارحاً بلا مواربة.
ربما لأنه تذكّر شبابه، أو لأنه استرخى بعد انقضاء المفاوضات المعقدة، بدا صوته رقيقاً على غير عادته.
“اعذرني… لكنني حقّقت عنك. وأشهر ما يُروى في القارة هو قصتك مع زوجتك. أن تعانق ابنة الرجل الذي أفنى عائلتك وتختارها زوجة… ذلك وحده برهان حب حقيقي.”
في تلك اللحظة تجمّدت روزالين كالصخر.
“فكّرت أنه إن كان رجل تجاوز مثل ذلك الحقد والدماء يقود المفاوضات، فلا بأس أن أثق بالسلام الذي يسعى إليه. لعلّنا نستطيع أن ندفن الماضي المظلم بين دولنا الثلاث ونمضي قدماً. طالما حلمت ببداية كهذه. أجل، كان من السخافة أن أستغلّها ذريعة للمطالبة باستعادة أراضي رويْزن، لكن ما من بداية بغير تضحية، وقد اخترت أن أُقدِّمها.”
“…….”
كان الوحيد الذي يبتسم هو الدوق.
لم يدرك أنّ كلماته فجّرت جواً مشحوناً انقسم إلى حدة صامتة. أما كليف فظلّ صامتاً إزاء النظرات التي رمته بها روزالين مطالبة بتفسير.
أنهى طعامه بوجه جامد وغادر على الفور. غير أنّ ذلك لم يكن كافياً ليمنع روزالين، التي باتت تعرف الآن الحقيقة الكاملة عن زواج آل موور، من الانفجار.
وكما فعل كليف من قبل، اندفعت هي بلا تردد، دفعت باب القصر الواسع، ثم صدمت بقدميها باب مكتبه فاقتحمته بعنف.
دوّى صوت ارتطام الباب: قَووووع!
“إلى متى كنت تنوي أن تُخفي هذا؟!”
صرختها الحادة اخترقت جدران المكتب كطعنة.
* * *
في صباح اليوم ذاته، حين غادر كليف إلى قصر الدوق، تلقت إيزين رسالة من الملك.
كانت تلك ثاني مرة تراها فيه، لكنها الأولى التي يستدعيها فيها إلى القصر الملكي نفسه.
قبل مغادرتها، سلّمها هاردين ورقة صغيرة من كليف. اعتذار مقتضب عمّا جرى الليلة الماضية، ووعد أن يتحدث معها فور انتهاء المفاوضات. كلمات قصيرة، مفعمة بالاعتبار، لكنها لم تكفِ لتمحو ألمها.
فطيف خذلانها، حين وجدت نفسها وحيدة في فراش بارد بعد أن تركها، ظلّ ينخر في قلبها.
“يا إلهي، أي أمر جلل يدعو جلالته لاستدعاء سيدتي؟”
همست إميلي متردّدة بين القلق والفضول، بينما لم يسع إيزين إلا أن تبتسم ابتسامة مرة.
(لعله يريد أن يأمرني بالابتعاد عن كليف…).
غير أن ما قيل لها في القصر الفخم كان أبعد ما يكون عن توقعاتها.
“أُقِرّ بك.”
ارتفعت عيناها بدهشة، وقد نسيت كل آداب البلاط وهي تحدّق في الملك. كان ينظر إليها من علٍ بوجه متعجرف.
“لن أراك على انفراد بعد الآن. وستُعامَلين لا كزوجة مخلصة لأحد أوفيائي فحسب، بل بما يفوق ذلك. بعد الملكة، ستكونين أرفع نساء المملكة قدراً. الفرق الوحيد أنّك لن تُثقلَ كاهلك بالخصومات السياسية، ولن يطالك صراع النبلاء. ستنعمين بحياة هادئة.”
كان صوته يقطر ضيقاً واشمئزازاً، كأنّه يكره ما ينطق به.
“لا أفهم قصدكم، يا مولاي.”
“اسألي زوجك الذي تهيمين به. إنّه رجل ألقى بنفسه في النار مراراً كي يحميك، حتى إنه قبل خوض رهانات سخيفة وضعتها تحدياً له. سيشرح لك كل شيء.”
تدفّقت كلمات الملك كمزيج من التوبيخ والاعتراف. ولمّا أصغت إليها إيزين، تكشّف لها أخيراً سرّ انشغال كليف المحموم طوال الأيام الماضية.
(إذن… لم يكن يرفضني. لم يكن هروبه مني إلا ليحميني. وإلا فكيف يخاطر بإغضاب الملك ويصرّ على المضي بالمفاوضات إن لم يكن من أجلي؟)
تذكّرت سهراته مع مبعوثي إيفرون، وحرصه على ألا يفشي أسرار الترتيبات قبل أوانها. الآن فقط رأت بوضوح أن كل جهوده لم تكن بعيدة عنها قط.
غمرها شعور جارف بالامتنان واليقين. أحسّت نفسها كمن عثر على الجواب الذي طالما بحث عنه قلبها.
بدت لها تقلّبات مشاعرها في الأيام الماضية طفولية سخيفة، غير أنّ فرحتها الآن كانت أسمى من أن تنغّصها تلك الأفكار.
“لقد قلت ما عندي. يمكنك الانصراف.”
لكن حتى نبرة الملك الجافة لم تعد تصل إلى أذنها.
(ربما… ربما هو أيضاً يحبني بالقدر نفسه…).
عاد الأمل يتفجّر في قلبها، ينبوعاً من نور جديد.
* * *
“أكنت تتمنى أن أظلّ جاهلة إلى الأبد؟!”
كانت صرخة روزالين المدوية تفجر هواء المكتب. فقد فقدت السيطرة تماماً على نفسها، حتى بدت كالمجنونة وهي تقتحم المكان.
حاول فرسان الظل أن يبعدوها بالقوة، لكن كليف أشار لهم بالتوقف.
ولم تدرك روزالين حتى أنّ ذلك كان شفقة منه عليها، فقد كانت غارقة في جنونها.
“كيف تجرأت؟! كيف تنسى ما فعله آل كروفورد بنا؟!”
لقد بدت وكأنها على وشك أن تغرس خنجرها في وجه كليف.
تألّقت في عينيها الكبيرتين الجميلتين نظراتٌ تجلّت فيها الخيانة، والذهول، وغضبٌ لا يُصدَّق. الذكريات القاسية، الحيّة، التي كبتتها عقودًا، اندفعت فجأةً من أعماقها لتطفو على السطح من دون حواجز.
“أجبني! تكلم، كليف مور! هل نسيت؟!”
صرخت روزالين غاضبة، وأمسكت بتلابيب قميصه تهزّه بعنف. ومع ذلك ظلّ كليف ساكنًا لا يردّ، صامتًا يتلقى صراخها وكأنه يرى في الانكسار عزاءً لها. لكن سكوته لم يزدها إلا اشتعالاً.
“أتراك نسيت كيف مات والداك؟ أتراك نسيت كيف ذبحونا، وكيف مزّقونا أشلاءً؟! كليف مور! بعد كل هذا، ما زلت تجرؤ أن تسمّي نفسك إنسانًا؟! كيف تجرؤ أن تزعم أنك ابنهما؟!”
دوّى صراخها المشتعل غضبًا حتى تجاوز جدران المكتب، ثم ارتفعت يدها المشتعلة قهرًا لتصفعه على وجهه بكل ما تملك من قوة.
“هل تعرف كيف عشتُ بسبب كروفورد؟! أتعلم ما آل إليه مصيري؟! كيف تعتقد أن عبدةً تنجو من قيدها؟! زحفتُ في الوحل كالكلاب، لعقتُ أقدام الأوغاد، ولم أضع قدمي يومًا على تراب وطني. ظللتُ هائمة، مشردة، لأنني لم أملك رفاهية الموت. لم أستطع أن أموت! كان عليّ أن أعيش، لأجل انتقامٍ واحد… لأجل أن أقتله!”
لكن كليف لم يرد. لم يتحرك حتى حين انحرفت برأسها، صرخاتها تهز جدران الغرفة.
لقد كان يفهم غضبها، ويعرف تمامًا أن أي كلمة منه لن تستطيع أن تهدّئ نيرانها، بل ستصب الزيت فوقها.
“خالي وخالتي كانا كوالدي تمامًا بالنسبة إليّ. حتى أنا لا أستطيع أن أنساهما! كلما أغمضتُ عيني رأيت عائلة مور تلفظ أنفاسها الأخيرة أمامي… أُطارَد في كوابيسي بصورة كلب كروفورد الحقير ذاك. ومع ذلك، أنت يا كليف مور! كيف استطعت أن تفعلها؟! بأي حق تسامح كروفورد باسمهم؟ بأي وجه تُدخل دمه النجس إلى هذا المكان؟! من تكون أنت لتفعل ذلك؟!”
هناك، في الشقّ الذي لم يُغلق جيدًا، انكسرت فنجان شاي وتناثر على الأرض، وتدفقت المياه الساخنة عبر البلاط.
ووقفت أيزين.
تجمّد كليف مكانه، والدهشة تسلبه أنفاسه.
“أيزين!”
“أنا… أنا كنت… أردتُ فقط أن… أن أحيّي… لا، في الحقيقة… حين علمتُ أنك هنا، فـ…”
كانت كلماتها المتقطعة تتعثر على شفتيها المرتجفتين. صوتها الخافت الضعيف، المرتجف، بدا أشدّ حزنًا مع عينيها المصدومتين ووجهها الذي شحب حتى صار كالثلج.
مور. خالي. عبودية. انتقام. كروفورد.
حينها فقط أدركت أيزين الحقيقة. كما أدركتها روزالين في اللحظة ذاتها.
لقد تبخر دفء تلك النظرات التي طالما رحّبت بها. العينان اللتان كانتا تتلألآن بالمودة، انقلبتا إلى سكاكين مسلطة، تلمعان بعزم على قتلها. لو كانت النظرات سيوفًا، لكانت أيزين قد شُطرت مرارًا إلى أشلاء، ملطخة بالدماء.
لقد كنتِ واهمة.
الوعي البارد ضربها كصفعة. لم يكن كليف يتشبث بالمعاهدة من أجلها هي… بل من أجل روزالين. كل ما فعله، كل إصراره، كان من أجلها هي، آخر ما تبقى من عائلة مور، الناجية الوحيدة من مذبحة كروفورد.
كل شيء اتضح فجأة أمام ناظريها، جليًا كالشمس. السبب الذي جعله يتفاداها ويبعدها عنه مرارًا لم يكن كرهًا، بل العكس تمامًا: كان لأنه لم ينسَ… لم يستطع أن ينسى. كروفورد، المجرم الذي أباد عائلة مور. الجدار الذي لا يمكن تجاوزه بينهما.
وأدركت أخيرًا كم كانت طموحاتها وقحة. في المستقبل الذي رأته، لم يكن كليف يتمسّك بها إلا لأنها ماتت. موتها هو ما جعل تلك العلاقة ممكنة. أمّا في هذه الحياة… فهي لا تزال حيّة. لم يُجرَّب بعد مرارة فقدانها.
إذن، لا وجود لجسر يربط بين كروفورد ومور. لا مصالحة. لا معنى للحب. لم يكن سوى ترفٍ، حلمًا مستحيلًا، لم يُكتب له أن يولد أصلًا. كيف لم تفهم ذلك؟! كيف لم تدرك أن قلبه لم يكن فارغًا ليسعها؟!
ترى، كيف نظر إليّ؟
كانت تبكي لأنه لم يقبّلها. تتذمّر لأنه لم ينظر إليها. تُثقل كاهله بالشكوى، بالعناد، بالغيرة. أصرّت أن يؤدي واجبه كزوج، وهي حتى لم تكن تملك حق أن تُدعى زوجة.
كيف تجرأت أن تحلم بالحب وهي وريثة دم ملطخ بالعار؟ كيف استطاعت أن تنسى الجريمة، وهي تراها ماثلة أمامها في عيني الناجي الوحيد؟ كيف تجرأت أن تغار، أن تطالب، أن تحتكر قلبه، وهي لا تستحق حتى أن تقف إلى جانبه؟
أدركت أن مجرد بقائها حيّة هو قمة العار.
ليتني أختفي.
لم يتبقَّ في قلبها سوى رغبة واحدة جارفة: أن تختفي. أن تتلاشى، على الأقل بعيدًا عن عيني كليف.
خطت خطوات متراجعة مرتبكة، ثم هرعت هاربة.
“أيزين!”
انطلق صوت كليف، مبحوحًا، وهو يلاحقها بجسدٍ شاحب، كأنما نُزفت منه الحياة.
كان وجهه الوسيم قد فقد كل دمائه. لم يفكر في روزالين التي تُركت وراءه، ولا في تبريرٍ كان عليها أن تسمعه. منذ لمح أيزين واقفة خلف الباب، لم يعد في عقله شيء سواها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات