“أنتِ بحاجة إلى المزيد من الراحة بعد ولادتك لإيان… لم يمضِ وقت طويل بعد. إن أرهقتِ نفسك… سيكون الأمر خطيراً.”
“قلت لك إنني بخير.”
نعم، كان الألم موجوداً، لكن السبب الأكبر في شدته أنهما قد افترقا طويلاً، وكان غياب تلك اللمسة هو ما ضاعف من شعورها به. كانت تعلم يقيناً أنه لو ترك نفسه ليلمسها أكثر، ستغدو بخير.
إيزين لم ترغب في الابتعاد عن ذلك الدفء الطاغي الذي يحيط بها؛ ذلك الحضن الرقيق الذي بدا وكأنه يحميها من العالم بأسره. هزت رأسها نافية، غير أن كليف ظل متمسكاً برفضه.
“لا أستطيع أن أكون رقيقاً معك… لقد صبرت طويلاً، وإن استسلمت الآن قد أؤذيك.”
“لن يحدث شيء… كليف، أرجوك، أسرع…”
“لا يمكنني. أنظري إلى نفسك… ما زلتِ تبكين.”
بوجه مكفهر مسح دموعها المبللة وجنتيها، لتكتشف إيزين بدهشة أنها كانت تبكي حقاً من غير أن تشعر.
“لا… هذه الدموع ليست ألماً، إنها لأنك… لأنك أنت…”
لكن كيف تفسر ذلك؟ كيف تضع في كلمات هذا الإدراك المفاجئ، هذه الحقيقة المدوية التي دارت بها دهوراً طويلة قبل أن تعيها: أنها تحبه؟ أنها وقعت في حبّه أخيراً؟
فيما كانت تبحث عن صياغة أصدق لما يعتمل في صدرها، كان كليف قد أرخى رأسه على كتفها، ثم دفن وجهه في عظم ترقوتها الهش، يتنفس بحرارة، يُلقي بكلمات متقطعة بين أسنانه المطبقة، بالكاد تُفهم. وقبل أن تتمكن من سؤاله أو التوسل إليه، كان قد ابتعد عنها فجأة.
“كليف؟”
رفعت رأسها نحوه مذهولة. لكنه لم يعد ذلك الرجل الذي قبل لحظة فقط التهمها شوقاً. ارتسمت على محياه الصارم ذات الملامح الجافة التي اعتادت أن يواجهها بها مؤخراً، كأن شيئاً لم يكن.
“ادخلي.”
وبحركات منضبطة رتّب مظهرها المبعثر، ثم دفعها برفق ولكن بحزم إلى داخل السرير.
لم تكن يداه الآن اليدين نفسيهما اللتين منذ دقائق كانت تلهبها عاطفة وارتباكاً، بل غدت يداً باردة، محايدة، كأنها تؤدي واجباً.
أصيبت إيزين بخذلان عميق، حتى أنها لم تلحظ انقباض فكه، أو نظراته القاتمة، أو قبضته المتشنجة التي كادت أن تتحطم من شدتها.
لقد جمعت كل ما بقي لديها من شجاعة لأول مرة لتعترف له، لتكسر جدار الخجل والوصم، لتعرّي نفسها أمامه، والآن… الآن يشيح بوجهه ويتركها وكأن شيئاً لم يكن؟
غرقت عيناها بالدموع، وشعرت أن صدرها سينفجر.
قال، وصوته يتشقق:
“حين نكون مستعدين، كلانا… حينها. اللعنة، لا أستطيع أن ألمسك الآن. نامي.”
كان وجهه متشنجاً. لقد سمح لنفسه أن يلمسها كما يشاء، لكنه حين مدت هي يدها نحوه تراجع عنها كأنها جمر يلسع.
دفعها بعجلة إلى داخل الغرفة، كما لو كانت شيئاً ثقيلاً يريد التخلص منه بسرعة. أُغلق الباب خلفها بعنف، وقبضته المشدودة على مقبض الحديد شوهت شكله من شدتها، لكن لم يرَ أحد ذلك.
“لا تفتحي الباب.”
قالها بين أسنانه، كتحذير نهائي. ثم أدار ظهره، وخطواته الثقيلة تتسارع مبتعدة، كأنه يهرب من شيء يطارده.
فتحت الباب ثانية بلهفة، لكن الممر كان خالياً. خلال ثوانٍ معدودة كان قد اختفى، كأن وجوده معها كان وهماً.
“هـه… هـه…”
انفجرت بالبكاء.
تركت وحدها، تنهشها مشاعر متضاربة كالعواصف، مختلفة تماماً عن السعادة الرقيقة التي غمرتها قبل لحظات.
كيف استطاع أن يذهب هكذا؟
أصابها بخيبة أمل قاسية. كانت ناقمة، غاضبة، متألمة من قسوته الباردة. لو كان أمامها الآن لصفعت ذلك الوجه الجامد، ولانهالت على ظهره المبتعد ضرباً. ارتجفت كتفاها النحيلتان من شدة الغيظ.
غيظ؟ غضب؟
لم يكن هذا ما ينبغي أن تشعر به، لكنها استرجعت اللحظة التي أعطاها فيها الخاتم، وتلك اللحظة التي اعترفت له فيها. في كل مرة كانت عاجزة عن ضبط نفسها، مثل طفلة متسرعة لا تعرف التريث، فزادها ذلك شعوراً بالمهانة.
تركَني رغم أنني اعترفت له… رغم أنه عانقني بكل ما أوتي من شغف… كيف يستطيع أن يدير ظهره بلا رجعة؟
أيمكن أن يكون ذلك ممكناً؟ ظلت تعيد وتستعيد المشهد في رأسها، وكلما أعادته اتضح لها أكثر أن ذلك الحميم لم يكن سوى اندفاع جسدي، وأن عقله سرعان ما عاد إليه، فاستوعب أنه لا ينبغي أن يتجاوز الحد معها.
وربما… ربما كان رفضه رسالة غير معلنة: أنه لا يريدها. أن يديه حين دفعتها، وظهره الذي أبى الالتفات، كانا أوضح من أي كلمات. ربما لم يشأ أن يؤذيها بصراحة، فاختار الهروب.
“هـهـ… هـه…”
أجهشت بالبكاء، تكتم أنفاسها كيلا يسمعها أحد. تمنّت أن يتسرب صوتها عبر الباب، أن يصله، أن يعود إليها… لكنها لم تفعل. لقد عاشت حياتها كلها وهي تقمع صوتها، فكيف تتمرد الآن؟
وبين دموعها وخيبتها، غلبها التعب، فنامت وهي تبكي في صمت.
* * *
في عمق الليل، دوّى صوت المعدن الخشن، ممزقاً سكون ساحة التدريب الغارقة في الظلام.
كان كليف ينهال بسيفه على الفراغ بضراوة، كمن يحاول قمع وحشاً يستعر في أحشائه. تتساقط الأخشاب المكسورة والحجارة المتصدعة في أرجاء المكان، ومع ذلك لم يتوقف لحظة عن إنهاك جسده.
«لا يجوز أن أؤذيها».
كانت تلك العبارة تتكرر في ذهنه مع كل ضربة، مع كل ومضة شرر تتطاير من السيف. غير أنّ الترديد لم يجدِ نفعاً، فما يملأ رأسه عن آخره لم يكن سوى أيزين.
لقد فقد صوابه تماماً. نظرة واحدة من عينيها المرفوعتين إليه، لمسة خفيفة على كمّه، كانت كافية ليسقط في الهاوية. كل ما كبَته طويلاً، كل ما صبر عليه، انفجر كجبل ينهار دفعة واحدة، واندفع نحوها بجنون، ينهشها برغبة عارمة.
أين ذهب ذاك الرجل الذي كان يضع مشاعرها دائماً في المقام الأول، ويصغي لإرادتها قبل إرادته؟ لم يبقَ منه شيء. لم يبقَ إلا الغريزة.
وكليف كان يدرك تمام الإدراك ما الذي تعنيه غرائزه بالنسبة إلى أيزين: كم هي خطرة، كادت تعميه وتطيح بكل ما بناه بصعوبة معها.
ولو أنها لم تشأ الابتعاد هي، فلن يكون قادراً حتى على التوقف، على أقلّ قدر من السيطرة.
لقد أراد أن يصونها. أن يلمسها ببطء، برفق، أن يمنحها نفسه وحدها، أن يبدأ معها بداية صحيحة هذه المرة… لأنه في حياته السابقة لم يفعل، لأنه فقد عقله آنذاك ولم يترك لها سوى الألم. لهذا السبب بالتحديد، لم يجد بداً من أن يتركها على عجل ويهرب بشكل بائس.
وحين استطاع أن يعود إلى غرفتها مجدداً، كان الفجر قد بدأ يتسلل إلى السماء.
هناك، على جانب السرير الواسع، كانت أيزين غافية. وما إن وقعت عيناه عليها حتى تسارع نبضه من جديد. عاد جسده إلى الاشتعال، وإن كان وهجاً أخفّ بفعل الإنهاك.
اقترب منها، وفي قلبه امتنان متوتر: لقد كان محقاً حين أنهك نفسه طوال الليل.
“…”
رأى آثار دموع جافة على وجنتها، فارتجف قلبه. دون أن يشعر، انحنى يقبّل برفق عينيها المنطفئتين. كان المشهد باعثاً على الشفقة، مؤلماً، لكنه في الوقت ذاته بلغ حدّ الجمال الذي لا يُحتمل. أن يقدر على وهب هذا القدر من المحبة لها، بدا له حلماً فحسب.
«لقد قالت إنها تريدني».
هو الآخر لم يتوقف عن استعادة تلك اللحظة مراراً.
تلك الكلمات البسيطة التي نطقتها أيزين، كانت شعاع الضوء الذي جعله يصمد. الغياهب التي طالما التهمت روحه أخذت تتراجع شيئاً فشيئاً.
«أيزين لا تكرهني».
بل مدّت يدها إليه أولاً. لم تدفعه عنها، بل استسلم جسدها النحيل لذراعيه، وذاب في حضنه بخفة.
زفر أنفاساً بلا صوت، وعيناه لا تفارقها. كانت أشبه بمخرج من ظلمة لا نهاية لها؛ قربها يمنح للحياة نفسها معنى التنفس.
كيف يمكن للحظة كهذه أن تكون واقعية؟ كانت أشبه بمعجزة خالصة.
* * *
مع شروق الشمس، تسللت أشعتها عبر النافذة، تذيب ما تبقى من الليل.
نهض كليف عن مضض من جوارها. لو كان الأمر بيده لبقي مستلقياً حتى تستيقظ بين يديه. لكنه لم يستطع تأجيل الاتفاقية التي لم يبقَ عليها سوى توقيع. وما إن تنتهي تلك المهمة، فسيعوض ما ضاع من وقتهما.
جلس إلى المكتب، والإرهاق يثقل كفه، وكتب سطوراً قصيرة. لم تكن خطه المعتاد المتسرع، بل حروفاً غارقة في ثقل القلم، تكشف ارتباكه وحماسه معاً.
“…”
حين همّ بالخروج من الغرفة، توقّف. استدار، عاد أدراجه، وانحنى مرة أخرى ليطبع قبلة طويلة على جبينها وصدغها، ثم مضى بعيداً.
“اعتنِ بزوجتي. وإن استيقظت تسأل عني… فأخبرها.”
“أمرك، يا صاحب السمو.”
أخذ هاردين المذكرة بحماسة، يهز رأسه بعنف موافقاً.
«أخيراً، لقد باح بجزء من قلبه!»
قالها في سرّه، فيما عيناه تلمعان فرحاً لرؤية كليف بملامح أكثر دفئاً من أي وقت مضى. بدا له أن علاقة الزوجين تتطور حقاً، ولم يسعه سوى الابتهاج لذلك.
* * *
القصـر الدوقي، عند الظهيرة.
جلس دوق ماكايزان في صدر المائدة الطويلة. على يمينه جلس كليف، وعلى يساره روزالين.
كان ذلك احتفالاً خاصاً دعا إليه الدوق بنفسه، بعد نجاح إبرام اتفاق السلام بين هايتس، وإيفرون، وماكايزان. لقاء غير رسمي، لم يحضره من حاشيته سوى روزالين وحدها.
أراد كليف أن يعتذر ويرحل، لكنه لم يجد بدّاً من البقاء بعدما لوّح الدوق بإمكانية إلغاء التوقيع بحجة أنّه لم يتم بعد.
“كل، يا كليف.”
كان صوته جَهورياً مفعماً بالحيوية، كأنّ تهديدات الأمس لم تصدر عنه. جلسة الغداء كانت هادئة وبسيطة، وصمتها يعود في مجمله إلى شرود كليف وانشغاله البعيد.
“أعددت لك هدية صغيرة.”
“لا أستحقها يا صاحب السمو.”
رفض كليف ببرود كل ما عرضه الدوق عليه من هبات.
“أفهم أنّ موقفك يقتضي الحذر… لكن ألا ترى أنّك تبالغ في تجاهل مودّتي؟”
أبدى الدوق امتعاضه بلباقة، غير أنّ كليف أصرّ حتى النهاية على رفض كل شيء.
لقد جاء إلى القصر خالي اليدين، وغادره كما جاء، بلا مقابل ولا مكاسب. صورة تناسب حقاً الرجل الذي قاد اتفاقية السلام الثلاثية بشفافية تامة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 75"