“أنتِ تعرفين… بكلمة منك، أو بإيماءة واحدة من يدكِ، كيف انهار أنا من الداخل.”
انعكس في عينيه الزرقاوين قلقٌ متشنّج، أشبه بهوس، كأنه يحاول أن يُمسك حتى بحركة عينيها.
آه… إيزين كتمت تنهيدة مثقلة بالخذلان. لم يكن في وسعها أن تتبين منذ متى بدأت أفكارها وأفكاره تنحرف عن مسار واحد، ولا إن كان يمكن إصلاح ذلك الانحراف أصلاً.
(هل يعرف كليف أن كل ما قاله لا جدوى له عندي؟)
لم تكن إيزين تريد قارةً ولا مملكة، ولا حتى تاج الملك. كل ما أرادته، منذ البدء، كان شيئاً واحداً فقط. ومن أجل ذلك الواحد، قطعت زمناً طويلاً، وتحدّت كل ما واجهها.
“ما أريده… هو أنت.”
فجأة، توقّف فم كليف عن الثرثرة حول ما يستطيع أن يقدّمه لها.
كان ذلك جيداً… فهذا يعني أن سمعه ما يزال بخير.
“ماذا؟”
“أقول إنني أريدك. أريدك يا كليف… أن تبقى إلى جانبي، أن تنظر إليّ، ألا تكون مع غيري… آه، أريدك أن تبقى معي أنا. كم مرة عليّ أن أكرر هذا؟”
كليف، الذي قبل قليل كان يطلق برداً قاتلاً من نظراته، تجمّد في مكانه كتمثال حجري.
واستمدّت إيزين قليلاً من الشجاعة من هذا الجمود الذي كبّل جسده كما يكبّلها هو.
“هذا القصر الباذخ الذي بنيته لي… الحديقة الجميلة… الموسيقى العذبة… كل ذلك لا أريده. حتى رأس الملك – يا إلهي، كليف! ما تفوّهت به قبل قليل يجب ألا يسمعه أحد، وإلا لاقتادوك بتهمة الخيانة…!”
“إيزين، فسّري لي… ماذا تعنين بهذا؟”
سأل بلهفة، وكأن صبره بلغ نهايته. جفاف خانق نشب في حلقه، حاجته إلى إجابة لم تُشبَع.
كاد أن يمد يده فينتزع منها الكلام قسراً، أو يهزها بعنف لتتكلم، لولا أنه بالكاد تماسَك ليتيقّن… ليتأكد فقط.
لأن الأمر لا يُصدَّق… مستحيل أن يكون ممكناً.
أخذت إيزين نفساً عميقاً. لم يكن كلاماً يجرؤ إنسان على قوله بعقله الواعي، لكن إن لم تقله الآن فلن تقولَه أبداً.
“أعني ما أقوله… أريدك. أريدك أنت، كليف مور.”
“هذا… غير معقول.”
في اللحظة التي كان يطالبها فيها بجواب بكل إلحاح، إذا به ينكر فوراً. لم يُكمل حتى سماع كلماتها، واكتفى بهز رأسه نفياً. فأحسّت بنقمة مكتومة تنهض من أعماقها.
“لماذا لا تصدّقني؟ لقد قلتها مراراً! قلت إنني أريدك أن تعود مبكراً، ألا تنشغل دائماً، أن تقضي الوقت معي ومع إيان، أن أبدأ معك يومي وأختمه بك! لم أعد أريد أن ننام في غرف منفصلة، ولا أن أتسلل إلى ساحة التدريب فقط لأراك. أريد أن يكون وجودي إلى جانبك شيئاً طبيعياً مثل التنفس… أفهمتني؟”
أغمضت عينيها بشدّة، وأفرغت كل ما في صدرها دفعة واحدة، كما لو أفرغت ماءً محتبساً في وعاء. ثم تطلّعت خلسة إلى رد فعله. لكن كليف كان ما يزال متصلباً، كأن ما سمعه لم يجد طريقه إلى عقله.
وقفت مذهولة أمام جمود وجهه، فصرخت بعصبية:
“هل فهمت؟! إن لم تفهم، اسألني مجدداً! سأكررها، وأكررها ألف مرة!”
“…….”
“كليف!”
“فهمت… فهمت.”
قالها متلعثماً، على غير عادته. لكن وجهه ظلّ شاحباً مذهولاً.
ذلك الرجل الكامل، الذي لم يكن ليدخل بين كلماته إبرة، بدا وكأن برغياً قد انفلت منه، جامداً بغباء موجع. لم تحتمل إيزين ذلك المشهد، فقبضت على ذراعيه كما فعل هو بها قبل قليل.
“الهدايا لا تكفي. حمايتي من الملك، ومن كل الناس في المملكة، لا تكفي. أنت تحاول أن تكون زوجاً صالحاً، لكن واجب الزوج لا يقف عند هذا الحد، أليس كذلك؟”
“يا إلهي، إيزين… هل تدركين ما تقولين؟”
أفلتت حرارته من معصمها. مرّر يده اليابسة على وجهه بخشونة. حاولت أن تمسك به مجدداً، لكنه تراجع إلى الخلف.
“لا تقتربي. ليس الآن. هذا… ليس صواباً.”
“كليف…”
“اللعنة… لستُ صبياً في العشرين!”
أخفى وجهه المحمرّ حتى العنق بيد مرتجفة، كمن يخجل من نفسه.
“أنت تعرف ما أعنيه.”
“أنت منفعلة أكثر من اللازم.”
تراجع خطوة أخرى.
“غاضبة… ولهذا لا تدركين ما تقولينه. حدث هذا من قبل أيضاً. حين تسيطر عليك العاطفة، تنسين من الذي تقفين أمامه الآن—”
“قبّلني.”
تصلّب كليف مجدداً. فمه الذي انفلت قليلاً من الصدمة انغلق على أسنانه بإحكام.
“هل تعين ما تقولين—”
“قبّلني يا كليف.”
أعادت الأمر بجرأة، رغم أن وجهها اشتعل ناراً. لكنها كانت تعرف أن مثل هذه الشجاعة لن تتكرر.
فرصتها في أن تلتقي به حقاً، أن ترتبط به، كانت نادرة إلى هذا الحد.
“اللعنة… لا داعي لهذا. يكفيني أن تكوني إلى جانبي. قلت إني لا اريد أكثر من ذلك. أنا… أستطيع أن أتحمل الامر.”
أخرج كليف أنفاساً متقطّعة، كأن ضيقاً مفاجئاً في التنفس قد داهمه.
رفعت إيزين عينيها إليه، لعلّ قلبها الموجوع، ولهفتها المتقدة، تصل إليه كما هي.
لكن النظرة التي انحدرت عليها من عينيه لم تكن مضيئة. كانت نظرةً جافة ورطبة في آن، كأنها قادمة من ظلام كهف لم يعرف النور. عيناه الزرقاوان بدتا وكأنهما في صراع: بين أن يحتفلا اعترافها الصامت باشتياق مبهج، وبين أن يرفضاه رفضاً مميتاً.
“ستندمين.”
أصابعه الساخنة أمسكت بها فجأة، وشدّتها نحوه. حرارته، التي سرت من سبابته إلى كتفها الرفيع، أيقظت فيه عقلاً يتلاشى. فشدّ أكثر على أصابعه، كأنه يقنع نفسه ألا يحطّمها.
لا… إن ضغطت بقوة، ستنكسر. المرأة التي عاهدت نفسي أن أحميها، قد أكون أنا من يفسدها ثانية. لكن مع ذلك… لن أستطيع تركها.
“إنني أفقد عقلي يا إيزين… كان عليك أن تهربي مني. ما كان عليك أبداً أن تدفعيني إليّك بكلماتك تلك… إنك تريدينني، أو أن أقوم بواجبي كزوج… لا، لم يكن يجب أن تفتحي أمامي هذا الباب امامي قط.”
تركها فجأة، ورفع يديه ليغطي وجهه. ضغط بقوة حتى بدا وجهه محمراً يكاد يتوهّج.
“هل تدركين ما فعلتِ؟ لقد وضعتِ رأسكِ بين فكي وحشٍ جائع لم يذق شيئاً منذ عقود. وإن كنتِ تظنين أن صبري يمتد إلى الأبد….”
“كليف، إن لم تكن تنوي تحطيم وجهك بيديك، فاتركهما جانباً.”
بشيء من العناد، أزاحت إيزين يديه عن وجهه، لكنها تجمّدت حين رأت عينيه. كانتا ملتهبتين بالدم، محمرّتين حتى القسوة.
“ستُكسر أجنحتكِ، لن تعودي حرّة. قد يجرّك ذلك الماضي البغيض ليخنقكِ ثانية. لا تثيريني أكثر.”
“كليف…”
“توقّفي الآن… قبل أن أعجز عن التوقف. إيزين، أنا… لا أريد أن أؤذيكِ. صدقيني.”
ارتعشت دموع في عينيه، فاخترقت كلماتُه صدرها مثل نصل رفيع.
(لطالما كان هكذا…)
لطالما وضع حمايتها فوق كل شيء. مهما كلّفه الأمر من ألم، بقي اسم إيزين كروفورد الأول في وعي كليف مور. كم من الأعوام عاش وهو يخنق رغبته، ويقتل أمنياته، ويطمر أحلامه من أجلها؟
“لا.”
هزّت رأسها، وتمسكت بقبضته قبل أن يدفعها بعيداً. أمسكت بتلابيبه، ولم تترك له مهرباً.
“انا… أريدك. أريدك أنت.”
وفي اللحظة التي نظرت فيها إليه بعينيها الخضراوين الصافيتين المترجيتين، انهار السدّ في داخله.
“اللعنة…”
اندفعت شفتاه الحارّتان على شفتيها من غير إنذار، كإعصار يبتلع كل شيء.
انفجرت النار في كل اتجاه.
اشتعل رأسها بحرارة مريبة، حتى حسبت أنها ستنفجر.
الإحساس كان حاداً، مثيراً حدّ الإفراط، يصعد على طول عمودها الفقري فيرجف بدنها. حاولت أن تتملّص وهي تلهث:
“كليف… لحظة فقط…”
“لا. أنتِ من أوقدتِ النار.”
لم يعد كليف مور ذلك الرجل الذي كان يتراجع كلما دفعته. أصابعه العريضة طوقت جسدها بإحكام، بلا فجوة للفرار، وجذبها أكثر فأكثر إلى صدره.
ورغم أنه كان يطبق عليها كما لو أنه لن يتركها أبداً، إلا أنه بين لحظة وأخرى كان يرخى ذراعيه قليلاً، كمن يتصارع مع بقايا عقله.
لم تتخيل إيزين أنه يخفي داخله هذه العاصفة من التملّك. لم يكن كليف الذي عرفته من قبل بهذه الفظاظة العاطفية.
ومع ذلك، ظل قبلها كمن لا يكتفي أبداً. و هو يقبّل أجفانها الناعمة.
ويا لسخرية القدر… وسط تلك القُبل العميقة المتلاحقة، شعرت إيزين بالطمأنينة أخيراً. في كل مرة يمرّ اللهيب، يتبعه ألم في قلبها، وجع خانق، لأن الحرارة التي منحها إياها كانت مشبعة بالأسى.
(أنا… أحب هذا الرجل.)
لأول مرة تتبلور مشاعرها بوضوح: كليف مور، الرجل الذي احتل حياتها بكل عنف وقوة، هو حبها.
إن لم يكن الحب شعوراً يجعل شخصاً أغلى من العالم بأسره، فما هو إذن؟
إن كان فقدان يده ودفئه أقسى من الموت، فما يكون هذا غير الحب؟
“إيزين… يا إيزينتي…”
ظل يهمس بلا توقف، همساته تتفتت بين شفتيه فلا تصل أذنيها.
قبلات صغيرة تساقطت على وجهها، ثم دفن وجهه عند عنقها وكتفها. يداه تحيطان بخصرها.
“هشش…”
كانت أنفاسها تتقطع تحت احضانه، وهو يجذبها نحوه بقوة مهدِّدا أن يسحق عظامها.
لكن المفارقة أن يده كانت لينة، مليئة بالعاطفة، حتى ارتعشت إيزين كعصفور صغير، إذ بدا جلدها كلّه وكأنه استيقظ للحياة.
لكن فجأة الألم الخانق اجتاحها. الدموع التي كانت قد غمرت عينيها من قبل تساقطت الآن غصباً عنها، وانحدرت على خدّيها.
وحين لمح كليف تلك الدموع المتدفقة، تصلّب مكانه.
اللعنة… ماذا فعلتُ بها؟
تخللت بقايا العقل عينيه المشتعلتين، وأمسكت به في آخر لحظة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 74"