كان قلبها الذي ظلّ مطوياً ومنكمشاً يتراخى شيئاً فشيئاً. كانت أيزين تدرك أنّ ذلك لا يكفي لتفسير ما رأته في ذلك الصالون من ألفة غريبة بين الاثنين، غير أنّها كانت في تلك اللحظة بأمسّ الحاجة حتى إلى هذا القدر الضئيل من الطمأنينة.
أخذ كليف يراقبها بحذر. مدّ أصابعه الطويلة الدقيقة ليضغط برفق على صدغها حيث اعتادت أن تعقد حاجبيها.
قال بصوت منخفض:
“هل يؤلمك؟ لم تراودك كوابيس أخرى، صحيح؟ إن حدث ذلك، أخبريني.”
كان على حاله، كما عهدته، يقلق عليها إذا لم تنم حتى وقت متأخر.
“تباً… من المؤسف أن الوقت يضيق. يجب أن أرفع تقريراً إلى جلالته. وعندما يطلع النهار عليّ أن أعود إلى قصر الدوق لأنهي المفاوضات.”
اقترب منها، طبع قبلة خفيفة على جبينها، ثم تراجع قليلاً.
“لديّ شيء لك.”
بدت عليه لمحة تردّد غير مألوفة. أصابعه الرجولية، الطويلة والقوية، راحت تتحرك بارتباك.
“لا أعلم إن كان سينال إعجابك أم لا…”
ثم أخرج صندوقاً صغيراً لخاتم، بدا في كفّه الكبيرة وكأنه قطعة حلوى لا أكثر.
تلقت أيزين الصندوق على عجل، وفتحته بحذر، فإذا فيه خاتم مرصّع بماسة لامعة.
“هذا…”
“ألم تقولي لي من قبل؟ إن الأشياء الثمينة… ينبغي أن تُسلّم باليد مباشرة.”
خفت صوته عند آخر العبارة، كأن شيئاً راوده. لعلها ذكرى قبلة سريعة كانت قد ردّت بها على هديته السابقة. كان يحكّ عنقه العريضة بيده الكبيرة الخشنة، والحمرة قد صعدت إلى جلده.
“لهذا جئت.”
كان يعني أنه، وسط انشغاله، خصّص وقتاً ليعود فقط من أجل هذا. غير أن ما أسعدها أكثر من الخاتم نفسه هو أنه تذكّر كلمتها الصغيرة.
قال وهو يخفض بصره:
“يُقال إن من يملك هذا الخاتم تحلّ عليه السعادة. وفي الأسطورة المتوارثة… أنّ الحب…”
توقف متلعثماً، ثم استجمع شجاعته وأكمل:
“أنّ الحب يدوم إلى الأبد.”
انعقد لسان أيزين. كم كان غريباً أن يذوب جليد حزنها وعتبها، الذي تراكم من تصرفاته الأخيرة، أمام خاتم واحد يمدّه إليها بوجه محمّر خجلاً. حتى الحكاية الخرافية التي ارتبطت به بدت لها الآن شاعرية.
شعرت بغصّة دموع تريد الانفجار. لقد كانت تجرحها الأحاديث التي تسمعها عن خطواته الأخيرة، فخلف مظهرها المتماسك كانت قد تألمت كثيراً. الغضب، الحنق، العتب… كأنها نسيم تبخر جميعها.
(لكن… كليف ما زال هو ذاته.)
لعلها أساءت فهمه مراراً بسبب ما تسمعه من الآخرين، بسبب ظلال الشك. لم تلحظ كيف كان يرمقها بقلق وهي تحدق في الخاتم صامتة. كانت غارقة في الفرح والانفعال، تفكر بما يمكن أن تقول.
“أنا…”
ماذا عساها تقول؟ أن تعترف أنها غضبت منه؟ أنها أساءت فهمه؟
ولم تدرك أن صمتها قد طال أكثر مما ينبغي.
تغيّر وجه كليف فجأة، وأثقلته مسحة قاتمة.
“أيزين… لم أقصد أن أثقل عليك. لستِ مضطرة إلى الالتفات كثيراً لمعنى الخاتم.”
قالها بصوت خفيض، كأنه يستدرك على نفسه. كانت في ملامحه خيبة، وفي صوته أثر من السخرية الذاتية. لقد كان يعرف السبب: أيزين تتردّد، فالكلام عن الحب ما زال مبكراً جداً، وربما ثقيلاً عليها.
الحب… ماذا كنتُ أتوهم؟
كان يلوم نفسه. كان يعرف أنها لم تتهيأ بعد، ومع ذلك ظل يضغط عليها بدافع استعجاله.
حاول أن يمسح أثر التوتر عن وجهه، فقالت أيزين على عجل:
“لا، يا كليف… أعجبني كثيراً.”
لكنه قاطعها:
“على كل حال… روزالين هي التي أعطتني إياه. فإن أثقل عليك، بوسعك أن ترفضي.”
كأن سطل ماءٍ بارد سُكب فوق رأسها. تجمّدت الكلمات في حلقها، وارتسم على وجهها ذهول لا يصدّق. لم تجد في نفسها وقتاً حتى لملاحظة خيبة الأمل التي تسرّبت إلى قسماته.
“روزالين… تلك المرأة أعطتك إياه؟”
لم ينتبه إلى أن صوتها ارتفع. كان قد انشغل بمحاولة إخفاء توتره، مقنعاً نفسه أنها لا تقدر على تقبّل معنى الخاتم.
“نعم.”
“وهل… هذا كل شيء؟”
“وماذا عساه أن يكون غير ذلك؟”
كان واضحاً أنّ كليف لا ينوي أبداً أن يصرّح من تكون روزالين. فعداوة آل مور وآل كروفورد، كانت قد انتهت في حياته السابقة، ولن يسمح أن تمتد إلى هذه الحياة الجديدة التي وهبها له القدر، حتى وإن كانت روزالين آخر من تبقّى له من دمه.
أما أيزين، فقد استشاطت غضباً من نفسها، لأنها للحظة واحدة انجذبت إلى معنى الخاتم. ضبّبت الرؤية أمام عينيها، وأخذ جسدها يرتجف. كانت تدرك أنها بلا حق لتغضب، ومع ذلك غلبت العاطفة عقلها.
“أتعلم لِمَ قد تعطيك هي هذا الخاتم؟”
خاتم يزعمون أنه يحقق الحب الأبدي… إن لم يكن إقراراً بالحب، فماذا يكون إذن حين تهديه امرأة إلى رجل؟
لكن كليف كان يحدّق فيها، عاجزاً عن فهم ما ترمي إليه.
“ماذا؟ ماذا تقصدين…!”
لم تستطع أيزين أن تكبح الغضب الذي اندفع فيها حتى بلغ رأسها، فأمسكت بالخاتم وقذفت به بكل قوتها. بل وخطفت العلبة من يد كليف ورمتها معه.
تَرنّح!
دوى صوت المعدن الحاد وهو يرتطم بالأرض، وتدحرج الخاتم بعيداً. وفي اللحظة نفسها تصلّب وجه كليف كالحجر.
“هذا… أهو جوابك؟”
لم تستطع أيزين أن ترد. قبضت يدها المرتجفة في قبضة قوية، لا يصدر عنها غير أنفاس لاهثة. كانت تحدق في الخاتم الملقى على الأرض كأنها تريد أن تحرقه بنظراتها.
لا، لا يجوز… عليّ أن أتماسك… أن أعتذر له… أن أقول إنني لم أقصد رميه، وإن الحقيقة هي أنني…
لكن كليف استدار ومضى بخطوات ثابتة.
ظنت أنه سيمر بها ويمضي بعيداً عنها بلا رجعة، غير أنه انحنى فجأة والتقط الخاتم من الأرض، ثم عاد يتجه نحوها. كانت اللحظة التي عاد فيها بخطواته أشبه بدهر كامل.
كان وجهه متجمداً، كأنه ارتدى قناعاً سميكاً يخفي تحته كل إحساس.
قال بنبرة هادئة، كأن شيئاً لم يحدث:
“في المرة القادمة… سأرسل صائغاً، كي تختاري ما يعجبك بنفسك.”
لكن نبرته الرصينة، التي أوحت بأنه تمالك نفسه سريعاً بعد الاضطراب، فجّرت أيزين فجأة.
“لا أريد أن أرى وجهك! خذها معك!”
كانت تلك أول صرخة حادة تخرج منها في حياتها. لم تعد قادرة على ضبط نفسها. بدا كأن كل ما صبرت عليه وتحمّلته انفجر في تلك اللحظة.
“لا أريد هذا الخاتم، ولا أريد هداياك! لا أطيق حتى النظر إليها!”
انقبض فك كليف بقوة حتى بدا وكأنه يطحن أسنانه.
“لا تريدينها؟”
“نعم! لا أريد! أكرهها! أكرهها لدرجة أنني سأجنّ إن ظللت أراها!”
لم يسأل سوى مرة واحدة، لكنها أجابت مراراً بصوت مجنون، كأنها لا ترتاح إلا بتمزيق قلبه.
“دائماً هكذا! تفعل كل شيء على هواك! لا تعلم أبداً ما أريده أنا، كل ما هنالك أنك تملي عليّ إرادتك! أنا أكره هذا! حتى كلامي لا تحاول أن تسمعه!”
(لكنها كانت مخطئة. كان يستمع دائماً. ما فعلته الآن لم يكن إلا نوبة صاخبة لا تختلف عن صراخ طفلٍ صغير. لقد تصرفت أسوأ حتى من رضيعها إيان، لكن أيزين لم تستطع أن تصدق أن هذه الفوضى البشعة تنفجر منها هكذا.)
“لماذا تفعل هذا بي؟ لماذا لا تكف عن إنهاكي؟!”
لكن الغضب كان يشتعل ولا ينطفئ. والمرارة المتراكمة ظلت تهتز في صدرها حتى فاضت. ما راكمته من عتب وظلم منذ زمن على كليف قد انفتح فجأة كسيل جارف.
“أنت لا تعرف شيئاً! لا تعرف ما أريده! ولا مرة واحدة عرفت ما أريده حقاً!”
صرخ كليف في المقابل:
“إذن ماذا عليّ أن أفعل أكثر؟! بحق الجحيم، ليس لديّ ما يمكن أن يسعدك، فماذا تريدين مني؟!”
“كليف، أنا…”
“أتظنين أنني لا أرغب في إسعادك؟! أيزين، السبب الوحيد أنني لا أحقق لك ما تريدينه… هو أنّ أكثر ما تشتهينه لا أستطيع أن أمنحك إياه!”
“لكن ذلك… لن أفعله أبداً. لن أسمح لك بأن تتركي جانبي.”
في عينيه المرهقتين احتدمت عروق الدم. ذاك الرجل الذي لطالما أخفى كل انفعالاته وراء ملامح جامدة لم يعد موجوداً. لقد تحطّم قناعه، وظهر وجهه الحقيقي.
صوته مضطرب، وجهه متورد، صدره يتصاعد ويهبط مع أنفاس حارة متلاحقة. لعل هذا هو كليف مو어 الحقيقي، الذي ظل يخفيه منذ أن عادت أيزين إلى حياته.
“ما تشتهينه حقاً… لن تحصليه. تباً، لومي عليّ كما تشائين! اصرخي، اضربي، امقتيني حتى الموت… لا يهم. هذه طبيعتي، وهذا أنا. عنيد، ومتعنت، ولن أتغير.”
مرّر يده الخشنة على وجهه الجاف بعنف، ثم رفع رأسه نحوها، وفي عينيه زرقة متوهجة كالنار. كانت نظراته شرسة، لكنها في الوقت نفسه متوسلة، تطبق عليها بإحكام.
شعرت بالخوف.
ذلك الانفعال البارد الذي يتفجر منه بدا كأنه سيدفعهما إلى هاوية مأساة. لكنها، وهي في قلب هذا الطوفان، لم تعد تعرف كيف تواجهه أو كيف تهدئه، فارتدّت إلى الوراء خطوة بعد خطوة.
وفي اللحظة نفسها أفلت معصمها من قبضته، وكأنه كان يتوقع هروبها.
لكن عينيه ظلتا مسمّرتين فيها. تلك الزرقة الخافتة، المطفأة… لقد عرفتها من قبل. عيناه في الماضي، حين كان غارقاً في ظلام لا يضيئه أمل، ولا يدفئه فرح، ولا يمسّه شعور بالحياة.
قال بصوت منخفض بعد صمت كسكين:
“أيزين… هل تريدين أن أهديك العالم؟”
كانت كلماته أشبه بجملة تقريرية، عادية النبرة، منخفضة الخاتمة.
“هل تريدين أن أجلب لك رأس الملك الذي أنكرك؟ ورؤوس أولئك الذين سخروا منك وأداروا ظهورهم؟ إن فعلت… هل ستبقين معي؟”
“كليف، ما الذي…!”
“أو أعطيك هذه المملكة؟ إن وضعت بين يديك مملكة إيفرون التي تصرخ من أجل الحرب، إن وحّدت القارة كلها ووضعت عرشها بين يديك… هل ستبقين بجانبي إذن؟”
فقدت أيزين القدرة على الكلام. كانت تسمع كلماته، لكن عقلها لم يستوعبها. ولأنها صمتت، ظل كليف يسرد كل ما يستطيع أن يفعله: أن يقتل، أن يحطم، أن يدمّر… وكلها عروض ملتوية، مظلمة.
“فقط ابقي قربي، أيزين. هذا كل ما أريده. ابقي، حتى لو وضعتني تحت قدميك. كل ما تتمنينه سأقدمه لك… فلماذا، لماذا لا تفعلين؟!”
كانت كلماته تنحدر في الظلام بلا قيد، لكنها بدت في أذنها توسلات، رجاءً خفياً.
ولم تدرك أيزين إلا وهو يقترب منها، حتى بات على بُعد أنفاس من وجهها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 73"