ما إن ذُكر الطفل حتى انفرجت ملامح كليف المتصلّبة منذ البداية، وتخلّى وجهه قليلاً عن جمود طالما لزمه. وفي عيني روزالين أشرقت نظرة دافئة، وهي تتأمّل مظهر ابن عمّها وقد صار، على مرّ السنين، يحمل ملامح الأب.
قالت وهي تمدّ يدها:
“تفضّل.”
على كفّها البيضاء استقرّت خاتم ماسيّ صيغ بحرفيّة بديعة، تتلألأ جوانبه المرصّعة بالياقوت الأزرق وتبثّ ضوءاً واسعاً كأنه من بُعد آخر.
“إنه خاصّ بعمّتي.”
تشنّج كتف كليف لحظة عابرة.
ابتسمت روزالين بخفوت وأردفت:
“أدقّ من ذلك أنه الخاتم الذي تتوارثه سيّدات آل مور جيلاً بعد جيل. يُقال إن الجدّ الأول للأسرة قدّمه لزوجته، وقيل – صدّق ذلك أو لا تصدّق – إنه يُحقّق الحبّ الأبدي. عمّتي كانت تترقّب اليوم الذي تعقد فيه قرانك كي تهديه إلى زوجتك… لكنها في النهاية لم تجد سوى أن تقول إنك لن تتزوّج أبداً.”
قهقهت ضاحكة، لكن ما لبثت أن اختفت الدعابة من وجهها:
“كنت أنا من يحفظه طوال هذا الوقت. والآن، يمكنني أخيراً أن أعيده إلى صاحبه. تبا… ها هي دموعي تسيل مجدداً بشكل مُخزٍ. كليف، تجاهل الأمر، اعتبرني غير موجودة، فهذا رغم كل شيء لحظة مؤثّرة.”
ناولته الخاتم، وسرت في يده برودة المعدن البارد.
قالت بصوت يتهدّج:
“عِش الآن مع أسرتك في سعادة يا كليف. أنت أهل لذلك، وأكثر.”
* * *
انقضى أسبوع كامل.
منذ حفل الشاي الذي غادرت فيه أيزين القصر قبله، لم يُتح لكليف أن يراها ولو للحظة. فاللقاءات التي جرت مع رجال الدوقية في الحفل امتدّت حتى غدت مفاوضات صريحة حول المعاهدة، ونُقلوا من صالون البارون إلى مقرّ الدوق الكبير حيث ظلّوا أسبوعاً بأكمله يعيدون ويُكرّرون البنود نفسها عشرات المرات.
الدوق الماكايزاني أبدى امتعاضاً شديداً من مطلب استعادة إقليم رويزن، لكنه في المقابل كان متقبّلاً بشغف لمعاهدة عدم الاعتداء بين الممالك الثلاث. ومع تكرار النقاشات التي بدت بلا نهاية، بدأت المفاوضات تقترب أخيراً من خاتمتها.
وما إن أُبرمت الاتفاقية شفهياً، حتى ألقى كليف بنفسه في عربة السفر. غاص بجسده في مقعد المخمل وأغمض عينيه.
روزالين، وقد أنهكتها المباحثات، ألحت أن ترافقه لرؤية أيزين، لكنه بذل جهداً لإقناعها بالعدول عن ذلك، ليعود وحيداً.
كان يعرف سرّ ابتهاجها المفرط بوجود أيزين وإيان؛ فذلك بالنسبة لها يعني أن الأسرة لم تُنتزع منها تماماً. ومع ذلك، راوده شعور ثقيل: ماذا لو عرفت كلّ الحقيقة؟
رغم إغلاقه لعينيه، بدت أطراف جفنيه متشنّجة بانقباض.
(لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الطريقة؟)
لعن في سرّه العناية الإلهية التي هيّأت لقائه بروزالين في هذا التوقيت. لم يكن في الأمر أن نجاتها، أو رؤيته لها وقد كبرت لتقف أمامه، أمرٌ عديم المعنى؛ بل كان في ذلك فرح لا يُنكر. غير أنه لم يستطع أن يستسلم لذلك الفرح كما هو، صافياً وخالصاً.
فالزمن مضى بلا رحمة، والذكريات الباهتة كان ينبغي أن تبقى في الماضي. مثلما كان لروزالين حياتها الخاصة، كان له هو أيضاً عالمه الذي ينبغي أن يحميه مهما كلّف من ثمن.
لكن مستجدّاً لم يكن في الحسبان أخذ ينهش طمأنينته. أشياء كثيرة قد تغيّرت على نحو لم يكن يُفترض أن يحدث.
في ذلك الماضي، لم يلتقِ روزالين، ولم تتدخّل الدوقية في حرب هايتس، ولم تُبرم معاهدات سلام. يومها، كانت هايتس قد هُزمت أمام إيفرون، وكان هو يختبئ في قصره لا يبرحه.
أخذ يُمرّر أصابعه على حاجبيه مراراً، في حركة متوتّرة.
(يجب ألّا تعرف أيزين من تكون روزالين).
لقد كانت تلك المرأة من حملت خطايا الكونت كروفورد كما لو كانت خطاياها هي. فلو عرفت الحقيقة، كيف ستكون حالها؟ لعلّها ستعود تردّد أنها مدينة بدماء أسرتها، وربما تجرّها تلك الفكرة إلى الرغبة في الموت مجدّداً.
أيزين، زوجته… كانت امرأة شديدة النزاهة، حدّ القسوة على نفسها.
(لا أعرفك بعد الآن).
ذلك الهمس الباكي ما زال منقوشاً في ذاكرته. كلمات خرجت من شفاه مرتجفة ووجه مبلّل بالدموع، يائساً وكأن ما تبقّى له من رجاء لا يتجاوز خيطاً رفيعاً.
وخز قلبه إحساس مُبهم بالشؤم. بدت له كأنها ظلال كابوس ثقيل، تُمدّ جناحيها لتغطيه هو، وتغطيها هي، تلك التي يحميها بكل ما أوتي من قُدرة.
كان يعرف، في أعماقه، أنّه ربما يسلك الطريق الخاطئ. كان واعياً أن غيابه يُؤلمها، وأن تصرّفاته لا تجلب سوى سوء الفهم.
لكن، ماذا بوسعه أن يفعل أكثر من ذلك؟
لو كان ثمة من يدلّه على الجواب، لبذل من أجله الدنيا وما فيها.
لقد أراد حقاً أن يسعدها. بل أيقن أنه قادر على ذلك. غير أن أيزين لم تُبدُ عليه ملامح السعادة قط. منحها كلّ ما أحبّت، حتى الحرّية التي تاقت إليها دوماً… لكنه الآن لم يعد واثقاً: هل كانت تلك فعلاً رغباتها الحقيقية؟
وإلا، فلماذا يزداد وجهها ذبولاً؟ لماذا لا تفرح؟ لماذا تنحلّ يوماً بعد يوم أمام ناظريه؟
أترى هذه رسالة من الله؟
أن محاولاته البائسة، مهما استمات فيها، لا طائل منها؟
كان يساوره شعورٌ مشؤوم، كأن سعادة أيزين الحقيقية لن تبدأ إلا إذا ابتعد عنها تماماً، وكأنه إن تخلّى عنها فقط تبدأ حياتها. ورغم كل ما هيّأه من استعدادات، خشي أن يكون ذلك غير كافٍ لمواجهة ما يُدعى “القدر”، ذاك الذي يزحف نحوه دون هوادة.
تنامى فيه القلق. المتغيرات التي تتوالى، والقلوب التي تفترق في كل مرة، بدت كأنها رسالة من السماء تدعوه أن يتخلى عن إيزين.
لكن… لا يعرفون. لا يعرف شيئاً أحد، لا يفهم شيئاً أحد.
كلما وقعت عيناه عليها، راودته خيالات قاسية: أن يمسك بها حتى وإن هلكت، فلا تفلت منه أبداً. لم تكن مجرد أوهام، بل ذكرى حية من ماضٍ كان قد جرّبها فيه.
ومع ذلك… رغم أنه فقدها مرة بتلك الطريقة، لم يزل، حتى هذه اللحظة، عاجزاً عن التخلص من هذا التعلّق البغيض، هذا الهوس القذر.
غمره شعور قاتل بالعار من نفسه، من هذا التعلق البغيض الذي لم يستطع اجتثاثه.
(لماذا لا تُمنح لي؟ لماذا لا تكون لي؟ لماذا انا وحدي من لا استطيع الاقتراب منها؟)
ضغط أسنانه بقوة. انغرزت في شفته حتى سال طعم الدم، ومع ذلك لم يتغيّر شيء في ملامحه.
ولأنه لم يستطع أن يتركها، نهض واقفاً، وفي قبضته خاتم عائلة مور.
(لن تسوء الأمور أكثر مما هي عليه.)
تمتم في نفسه، كمن يبحث عن عزاء واهٍ.
عاد خاتم العائلة إلى يده، هدية العائلة الكبرى، أثمن ما يمكن أن يرمز إليه الانتماء. أليس ذلك دليلاً على أن جميع تلك المتغيرات، التي كانت تفتك بأعصابه في كل مرة، لم تجلب له دائماً البؤس وحده؟
(لابد أن ثمة بصيص أمل.)
قبض على الخاتم الصغير الذي بالكاد يتسع لإصبعه الخنصر، وكأنه يمسك بالذهب نفسه، وراح يداعبه بيديه، يتمسّك به كما يتمسّك إنسان غريق بقشة.
جعل منه رمزاً للأمل، وحاول أن يشد عزيمته به.
* * *
بعد انتهاء حفلة الشاي عند الكونت، عادت إيزين إلى المنزل بخطوات متثاقلة. وكما فعلت في الماضي، راحت تبحث بعينيها داخل العربة لعلها تجد كليف ينتظرها، لكنه لم يكن هناك.
بدلاً من ذلك، كان العشرات من فرسانه السود يحيطون بها حتى أوصلوها إلى قصر المركيز، حراسةً بأمر منه.
ومع ذلك… لم يعد. لم تعرف إن كان هو الذي لا يريد العودة، أم أن الظروف تمنعه. لكن غيابه جعل القصر بارداً خالياً، كبيت بلا روح.
(ماذا لو لم يعد… أبداً؟)
خوفٌ لم تكن لتجرؤ على التفكير به سابقاً، صار يتضخّم في صدرها يوماً بعد يوم. لو لم تر بأم عينها ما حدث، لكانت أقل تشاؤماً الآن. لو لم تره مع تلك المرأة… لكان قلبها أخف.
(انشغلت بالمستقبل كثيراً، حتى نسيت احتمال أن يضع قلبه في يد أخرى.)
ظنّت أن الرجل الذي لم يستطع تركها حتى الموت سيبقى إلى الأبد. لكنها كانت تعلم في أعماقها أن لا شيء في هذه الدنيا يدوم.
هل تستطيع أن تطلق سراحه حين يحين الوقت؟
“وماذا عني… يا أمي؟”
تمتمت وهي تحتضن طفلها.
قبّلت جبينه العطر، لكن وجهها ظلّ ملبداً بالظلال.
كان الليل قد عمّق سكونه. حتى الخدم غرقوا في النوم. غادرت إيزين غرفة إيان بعد أن مررت يدها على وجنته النائمة، وخرجت بهدوء.
في القصر كانت المصابيح مشتعلة حتى في الليل، هكذا أمرت هي. أرادت أن تظل الأنوار دليلاً على انتظارها له، كلما عاد في أي ساعة. وربما صار ذلك الآن مجرد إهدار للزيت… لكنها لم تندم.
“إيزين؟”
تجمّدت في مكانها. لم يكن الأمر بلا قيمة إذن.
كان كليف واقفاً أمام باب غرفتها.
* * *
“كليف.”
تسارعت خطواتها نحوه، فيما ظلّ هو ساكناً، ينتظرها في صمت.
“كنتِ مع إيان؟”
أومأت برأسها، غير قادرة على رفع عينيها عنه.
وجهه بدا منهكاً، ظلال التعب غطّت ملامحه، كأنه يحمل أثقال أيام طويلة بلا راحة. بدا كأنها لم تره منذ دهر. وكان حقاً كذلك: آخر مرة كانت في ذلك الصالون المشؤوم…
(معها.)
كم حاولت أن تنزع تلك الذكرى من ذهنها. كم قاومت، لكنها عادت الآن تطفو بقسوة.
أين كنت؟ هل كنت معها طيلة الوقت؟
“إيزين؟”
شعرت بالسؤال يكاد يفلت من شفتيها، فالتفتت بعيداً.
“وجهك شاحب. هل تأكلين جيداً؟”
“… نعم.”
“لا تحتاجين إلى طبيب؟ هل أخذت دواءك؟ وكيف حالك مع دوقة ماكايزان؟”
لماذا يسأل عنها؟ هل لأنها من حاشية دوق ماكايزان؟ أم…؟
“جئت فقط لأرى وجهك قليلاً. كاد كل شيء يكتمل… فلن أضطر بعد الآن أن أزورك هكذا، كقط يسرق خطواته.”
لا… زرني. أرجوك زرني…
كأن كلماته إعلانٌ بأنه لن يعود لرؤيتها بعد اليوم. قبضت على كمّه بيأس، تكاد تستجديه.
“ما الذي يكتمل؟ أي شيء؟”
توقف لحظة، نظر إليها بحيرة. بدا أنه متردّد: هل يقول لها ما يشغل الأمة بأسرها؟ لكنه في النهاية اختار الصراحة.
“قد لا تندلع الحرب.”
“أهذا… أمر حسن؟”
“حسن لأنه يعني أننا لن نضطر للرحيل. بالنسبة إليّ… نعم، إنه حسن.”
شهقت إيزين نفساً عميقاً، كان الهواء فيه حلواً على رئتيها.
(إذن لهذا كنت معها… لقد كان لابد من إنجاح الاتفاق مع دوقية ماكايزان، وكانت، باعتبارها أقرب المقربين من الدوق، ضرورية.)
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات