وكأن شيئاً لم يكن، لم يُبدِ كليف أدنى حرج من ذلك النداء الحميم، ولم يصحّح لها في مخاطبته.
منذ متى صارا على مثل هذه الألفة؟ ولماذا أخفى عنها زواجه من أيزين؟ بل لعلّ ما أراد إخفاءه لم يكن الزواج ذاته، وإنما وجود أيزين في حياته أصلاً؟ أسئلة عصيّة الجواب اندفعت في صدرها كسكاكين تمزق اللحم.
“نعم.”
رفع كليف يده إلى ذقنه بوجه متصلّب، يمرر سبابته الطويلة والخشنة بعصبية على خط فكه. عرفت أيزين هذه الحركة، كانت عادته كلما وقع في مأزق.
“آه، أرجو أنني لم أتصرف بما يخدش مقامك يا سيدتي. اسمي روزالين ميندلوود. ناديني روزالين فقط. أنا في خدمة دوق ماكايزان المعظّم.”
التفتت المرأة إلى أيزين وانحنت برقة، وكأنها تقدّم نفسها إليها للمرة الأولى.
(إن كانت من دوقية ماكايزان….)
في تلك اللحظة فقط أدركت أيزين أنها أمام المرأة التي يتهامس الناس بأنها عشيقة كليف. ذلك اليقين الذي كانت تدفعه عن ذهنها وتسمّيه وهماً، تحطّم الآن أمام عينيها. شعرت كأن الأرض تهوي من تحت قدميها، لكنها تماسكت ودفعت بقوة في أطرافها حتى لا تسقط.
“أيزين…… مور.”
خرج صوتها بالكاد، متكسّراً، كأنما أحدهم يخنق حنجرتها.
“يا إلهي! إذن أنتِ زوجة الماركيز مور! هل لي أن أناديك أيزين؟ لا تعلمين كم أنا سعيدة بلقائك أخيراً.”
ابتسمت روزالين ابتسامة غامرة بالودّ، مفرطة إلى حد بدا غير طبيعي في أول لقاء. ثم امتدت يدها مباشرة لتقبض على يدي أيزين بكل حرارة.
كانت يدها ناعمة، لكن برودتها كالجليد. كادت أيزين أن تنتزع يدها بقوة، لكنها ضبطت نفسها في اللحظة الأخيرة.
“لا تدرين كم هذا يسعدني… منذ متى تزوجتما؟ كيف كانت مراسم العرس؟ لا بد أنها كانت في غاية الجمال. وكيف تقدّم لك كليف؟ وهل لديكما أطفال؟”
“…….”
لم تستطع أيزين سوى التحديق في ملامحها بذهول، فيما انهالت الأسئلة عليها كسيل لا يتوقف. وحين أدركت روزالين إفراطها، احمرّ وجهها قليلًا وهمست:
“أعتذر… يبدو أنني اندفعت أكثر من اللازم. لكن حقاً، لا تتصورين كم أنا سعيدة بعودتكِ إلى بيت مور. يا لها من نعمة… كليف لم يعد وحيداً بعد الآن.”
ارتجف صوتها كأنها متأثرة حتى البكاء.
(ولِمَ يهمّك الأمر؟ أيعنيك أن يكون وحيداً أو لا؟ أي حق لك في ذلك؟)
عضّت أيزين على شفتيها حتى أوشكت أن تنزف، وشعرت برأسها يدور، وصدغَيها يخفقان بعنف.
“كليف! كيف تخفي عني أمراً عظيماً كهذا؟ أنك متزوج من امرأة كهذه… إنه لأمر فادح!”
وخزته بخفة على ذراعه، تلمزه بجرأة لم تجرؤ أيزين على فعلها قط. وكان الأدهى أنه لم يصدّها، بل تركها تمسّه وكأن الأمر مألوف.
“إذن، متى التقيتما؟ بعد تلك الحادثة، صحيح؟ لم يكن ممكناً قبلاً على كل حال.”
برقت عيناها وهي تسأل.
(تلك الحادثة؟ ما الذي تعنيه؟)
تجمدت أيزين، عاجزة عن فهم مرادها.
حينها فقط تدخّل كليف، الذي ظل يلوذ بالصمت طوال الوقت.
“روزالين. لم تحضر زوجتي إلى هنا لتخضع لاستجوابك.”
كان صوته بارداً، قاطعاً. خطا إلى الأمام، يزاحم بكتفيه العريضتين بين المرأتين، وكأنه يحجب أيزين بجسده.
“ولزوجتي أيضاً ما يشغلها.”
التفت ببصره إلى بقية الحضور، أولئك الذين كانوا يتابعون المشهد بأنفاس محبوسة. كان نظره لهم أشبه بأمرٍ غير منطوق: خذوها من هنا. أبعدوها عن هذا الموقف.
“أوه، يبدو أنني أطلت الحديث. أرجو المعذرة.”
ابتسمت روزالين ببرودٍ لم يخترقه حتى صوته الجاف. أيزين فكّرت في نفسها: لو كنتُ مكانها، لقضيت ساعات أتعذب محاوِلة فهم سبب غضبه. أهذا ما يجذبه إليها؟ هذه البساطة التي لا تزلزلها حدّة طباعه؟
“سأرافقك إلى قاعة الاستراحة. هل تؤلمك رأسك، أيزين؟”
أمسك كليف بمعصمها بحرص. كانت نبرته هادئة، رتيبة، لكنها دافئة كما اعتاد. عندها انفجرت أيزين فجأة، وانتزعت يدها منه بعنف.
“أيزين؟”
“……أستطيع الذهاب وحدي.”
شدّت جفنيها كي لا تذرف دموعها أمام الجميع، وهي تشعر بحرارة متدفقة ترتفع إلى وجنتيها.
جاءت كلماتها الأخيرة محمّلة بالمرارة، كسهام مغلّفة بابتسامة.
لكن روزالين لم تفهم، أو تظاهرت بعدم الفهم. انفجرت ضاحكة، ثم فتحت ذراعيها واحتضنت أيزين فجأة، كما لو كانت صديقة قديمة.
“آمل أن نلتقي مرة أخرى قريباً. من دون كليف هذه المرة… فقط نحن النساء. أعرف في هايتس صالون شاي رائعاً.”
همست في أذنها، وحين تراجعت، أتبعتها بغمزةٍ خفيفة.
“……كما تشائين.”
حاولت أيزين أن تُبقي صوتها متماسكاً، أن لا يخرج بارداً كجليد. لم تكن متأكدة إن نجحت. انحنت بهدوء تام، التحفت بآخر ما تملك من كرامة، ثم استدارت مبتعدة.
(لا بد ألا أنهار. لا بد ألا أنهار.)
كان ظهرها وهي تمضي هشاً، مرتجفاً، لكنه ظلّ مرفوعاً. ما لم يكن في وسع أحدٍ أن يراه، هو حجم الكفاح الذي بذلته كي تبقى واقفة.
* * *
كان الاثنان ملتصقين طوال حفلة الشاي.
على المائدة، في الرقص، وحتى حين قدّموا الحلوى، ظلّت هي جالسة إلى جوار كليف، لا تفارقه. بدا كأن بينهما حديثاً لا ينقطع؛ كلما قال كلمة، انفرجت أساريرها في ابتهاج غامر أو قطّبت حاجبيها امتعاضاً، أو أبدت ملامح ملولة، ثم تضحك وهي تضرب كتفه بخفة.
والسبب في أن إيزين حفظت تلك الحركات بدقّة بالغة، حتى كأنها محفورة في ذهنها، هو أن كل حواسها كانت مشدودة إليهما وحدهما.
بينما تراقبهما من بعيد، اكتشفت في أعماقها مشاعر لم تكن تعلم بوجودها. أول ما أدركته كان الغيرة. غير أنها لم تلبث أن نمت واتّسعت لتستدعي وراءها عواطف أخرى: إحساساً بالدونية، تأنيباً للنفس، وهشاشة بغيضة لا تليق بها.
ملامح المرأة بدت مألوفة على نحو غريب، كأنها رآها من قبل. وكانت بحق جميلة؛ ليس لجمال صورتها وحسب، بل لأن في قوامها كله، من الرأس حتى أخمص القدمين، شموخاً واعتداداً بالنفس، وحيوية بهيجة تتفجر منها. كانت أشبه بشمس مشرقة تبعث الدفء، لا بضبابٍ كثيف قاتم كإيزين نفسها.
أخذت المرأة كليف تتنقل به بين رجال ونساء مملكة مكايزان، تعرفه بهذا وتقرّبه من ذاك، وكليف يبادلها الصنيع. بدا وكأن ذلك التوتر الكامن بين مملكتي مكايزان وهايتس لا وجود له بينهما.
سمعت إيزين همساً يتسلل بين الجمع:
“يبدو أنّ مركيز مورد قد وقع في غرام امرأة من الدوقية! انظري كيف يلازمها طوال الوقت.”
“لو استمرّا على هذا المنوال، فربما نجونا من الحرب! ما أشد ندرة أن يُرى مور هكذا.”
وكانت العيون تنزلق نحو إيزين، تتحسس رد فعلها. فقد كانت هي أول من شهد عليه الناس حبه الغريب، ذاك الحب الذي لم يفهمه أحد.
“ومع ذلك، أن يُرى متزوج وهو يتصرف بهذا الانحلال، أمر يبعث على الضيق.”
“دعك من ذلك. مور استثناء، أنت تعلم. كم من نساء رفضهم لأنه متزوج أصلاً؟”
التفتت إليها دوقة مكايزان، مرتبكة أشد الارتباك مما آلت إليه الأمور، فنظرت بقلق بين كليف وروزالين، ثم إلى إيزين الواقفة وحيدة، وحاولت أن تجود عليها ببعض المواساة:
“لابد أن هناك التباساً ما. لقد عرفت روزالين طويلاً، وهي ليست كما يشيعون عنها.”
لكن كلماتها لم تجد طريقها إلى قلب إيزين، التي كانت عيناها لا تفارقان كليف وروزالين. حاولت أن تتمتم: “أنا بخير…” لكنها لم تستطع أن تبتسم حتى ابتسامة متكلفة، فآثرت الصمت.
* * *
قالت روزالين بعد حين، ساخرة وهي ترمق ابن عمها الذي تجمّد وجهه كجذع يابس:
“أرخِ ملامحك، يا كليف. سيظنّ الناس أنني أجرّك من عنقك قسراً! أنت من قال إن علينا إقناع وجوه الدوقية، أليس كذلك؟”
وكان كليف يقبض يده، كأنه يريد أن يمنعها من الارتفاع إلى وجهه. كان يتمنى لو استطاع أن يخفي إيزين عن أنظار روزالين إلى الأبد.
سألته روزالين وهي تلمح حركته:
“ما بالك تحرّك يدك هكذا؟ اسمع، وإن لم يرق لك الأمر، فعليك أن تُظهر نفسك وتلقي التحية. الدوق نفسه بدأ يُبدي اهتماماً بمقترحك العجيب. إنه رجل يهوى البهجة والأنس، ويعشق الناس، وأنت نقيضه تماماً. إن أردت أن تتخفف من صورتك كـ”سفّاك”، فلتبتسم على الأقل. قوم مكايزان يرونك شيطاناً جُلب من الجحيم.”
لم يتغير شيء في قسماته الباردة. تنهدت روزالين. تذكرت طفولته، حين كان يضحك بسهولة… ثم تذكرت كيف غيّرت قسوة الماضي ابن عمها حتى صار ما صار.
فآثرت أن تغيّر موضوع الحديث، وقد لاحظت أن كل تفكيره منصبّ على جهة واحدة:
“كفّ عن التحديق. زوجتك بخير. تأكل وتحادث الناس وتضحك. ما الذي يثير قلقك هكذا؟ سترها في البيت كما تشاء. لقد أرسلت أحد مساعدي ليحضر لها دواء للصداع. فارفق بنفسك. أما نحن، مَن لم نتزوج، فهل يُترك لنا إلا الحسد؟”
عرفت روزالين أنها لم تستطع أن تصرف باله عنها. شعرت بخيبة، وفي الوقت نفسه براحة غريبة، لأن كليف وجد من يشغله.
قالت بصوت أكثر رقة:
“كنت أظن أنك ستظل أسيراً للانتقام طول حياتك. لكنك تزوجت، ولديك طفل أيضاً. لا تتصور كم فرحت حين قابلت زوجتك. شعرت أنك أخيراً قد خرجت من كابوسك.”
صمت كليف.
ابتسمت بمرارة وقالت: “أما أنا فما زال أمامي وقت طويل حتى أتحرر. أخبرني، كيف فعلت ذلك؟ علّمني السر.”
ظل صامتاً، عيناه تتبعان إيزين في الخفاء، كأن اللحظة سرقت منه صراحته. ثم همس أخيراً:
“إيزين هي من أنقذتني.”
“ماذا؟”
“هناك… كانت الوحيدة التي عاملتني كإنسان.”
نظرت روزالين إليه، تتوسم أن يزيد شرحاً، لكنه لم يزد حرفاً.
فقالت وقد أشرق بصرها:
“لا أفهم تماماً، لكني أدرك أنك تحبها حباً جماً. لم أعتد أن أسمعك تنادي أحداً باسمه بحنان كهذا. غريب حقاً! على كل حال، خالي هو الآخر كان في الخارج أسداً ترتعد منه المجرمين، لكنه في البيت لم يكن يقوى على مخالفة خالتي. الدم لا يكذب.”
لمعت عيناها بذكرى سعيدة.
“ليتني أراك وأنت تُظهر لها دلالك. يؤسفني أن عليّ العودة إلى الدوقية الأسبوع القادم. كنت أودّ أن أرى طفلك أيضاً. قلت إنه صبي؟ ما اسمه؟”
“… إيان.”
“إيان. اسم بديع. هدية من الله، أليس كذلك؟ يا له من اسم عذب.”
وفهمت روزالين في الحال معنى الاسم، إذ لا بد أنها صدقت رحلات كليف في الأصقاع.
ابتسمت بمكر: “إن كان يشبهك، فلا بد أنه عنيد شرس.”
فأجاب كليف، صوته يكتسي دفئاً نادراً:
“بل هو صورة من أمه، ولحسن الحظ. إنه آية في الجمال والبراءة.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 71"